وكأننا لم نتعلم الدرس بعد, وكأن ذاكرتنا المهنية أشبه بالغربال الواسع الذي لا يحتفظ بشيء, ولا يخزن شيئا.. وإذا كان الاحتراف يقوم علي تراكم الخبرات, وكانت المهنية تتعمق بالتعلم من التجارب السابقة, فإن أبرز سمات المشهد الإعلامي المصري الحالي هو عدم التعلم من الأخطاء السابقة. وعدم تراكم الخبرات, والبقاء محلك سر, فقد وقع الإعلام المصري في تغطيته لأحداث 19 نوفمبر وما بعدها, في الأخطاء نفسها التي وقع فيها عند تغطيته لأحداث ثورة 25 يناير, وكأنه كلاكيت تاني مرة, وهو ما تلخص دلالته العبارة المنسوبة إلي اينشتاين, التي يتداولها كثير من الشباب علي ال فيس بوك وتويتر: الغباء هو فعل الشيء نفسه مرتين بالأسلوب نفسه وبالخطوات نفسها مع انتظارنتائج مختلفة!! وليست هذه الأخطاء قاصرة علي الصحافة دون التليفزيون, أو علي القنوات الحكومية دون القنوات الفضائية, فقد وقعت جميع الوسائل في الأخطاء نفسها, وإن تباينت فيما بينها في درجة الوقوع في الأخطاء وليس في الوقوع نفسه.. وتتلخص هذه الأخطاء في النقاط التالية: تجريد الآخر المعارض من شرعيته ومن إنسانيته, بما تتضمنه هذه العملية من وضع المعارضين في قوالب مرفوضة إنسانيا, وتكوين اتجاهات سلوكية سلبية نحوهم, ووصفها بأنهم لا يستحقون المعاملة الإنسانية, فالمعارضون للمجلس العسكري يجردون المؤيدين له من كثير من القيم نفسها, هو الأسلوب نفسه وإن تغير الاتجاه. إلصاق الصفات السلبية بالمعارضين, ويعني هذا الأسلوب نسبة صفات شخصية لأفراد الجماعات غير المتفقة معهم في الرأي وإلصاقها بهم, بحيث تصبح في النهاية مرتبطة بهم أشد الارتباط, فلدينا العملاء والمأجورون من هذا الفريق, ولدينا العبيد والخونة من الفريق الآخر. النبذ والإبعاد, ويعني ذلك وصف الجماعة الخارجية بأنها معتدية علي الأعراف الاجتماعية المحورية, ولذلك لابد من إبعادهم ونبذهم, والحط من أقدارهم, سواءكان ذلك في بلطجية التحرير, أو في مرتزقة العباسية.. والمزايدة علي المواقف, وقد اتخذت هذه المزايدات أشكالا غير مقبولة, فكل صحفي أو إعلامي يحاول أن يصل لأبعاد لا يصلها زميل آخر, سواء في الهجوم علي المجلس العسكري أو في تبرير مواقفه.. وكأننا في مزاد للمواقف, الفوز فيه لمن يصل إلي نقطة لم يصلها زميل آخر. تزييف الحقائق, وفبركة القصص.. وليس شرطا أن يكون تزييف الحقائق من خلال نشر معلومات غير حقيقية, وإنما قد يكون من خلال تناول زوايا معينة والتركيز عليها دون جوانب أخري بما يؤدي إلي تكوين صورة غير حقيقية عن الحدث أو الموضوع.. والانحياز لوجهة نظر واحدة, ودفن وجهة النظر الأخري والتقليل من أهميتها.. فكل قناة تتبني وجهة نظر معينة وتدلل عليها بكل الطرق, وكل صحيفة لها خطها العام الذي لا تسمح بالاختلاف عنه, وكأننا في حرب أهلية بين القنوات, أو في صراع قوي بين الصحف المختلفة. الدوجماطيقية, أو الاعتقاد الأعمي في صدق مقولة معينة.. والدفاع عن هذه المقولة أو تبريرها بكل السبل, دون محاولة لتفهم وجهة نظر الآخر, ناهيك عن إمكانية قبولها.. والإفراط في اللغة الهجومية من ناحية, وفي اللغة التبريرية من ناحية أخري, وليس هناك حل وسط, أو نقطة التقاء يمكن الوصول إليها, أو الوقوف عندها..وهي تعكس حالة الاستقطاب الحاد في المشهد الإعلامي المصري, وعدم توزيع الآراء بما يعكس الواقع الحقيقي.. وكذلك التحول بعد المرحلة الأولي, والاعتراف المتأخر, خاصة بالنسبة للقنوات والصحف الحكومية, التي ظلت في الأيام الثلاثة الأولي تتحدث عن القلة المندسة, وعن بلطجية التحرير, ثم تتحول هذه الوسائل لتتحدث عن الثورة الجديدة, وعن الشهداء, وعن إرادة الشعب.. وكأن اليوم الرابع هو اليوم الفصل في أحداث يناير ونوفمبر. ارتفاع نغمة الصوت, وسيادة الصوت العالي, وقد يكون ذلك مفهوما عندما يكون الحدث باردا أو خاليا من البهارات الإخبارية, أما عندما نكون إزاء أحداث ثورة, فلا مبرر لهذا الزعيق, فسخونة الأحداث تكفي وزيادة.. وما نحتاجه حينذاك هو صوت العقل, وهو في الغالب صوت خافت يضيع وسط ضوضاء البرامج الزاعقة, ومانشيتات الصحف الصاخبة. وأخيرا, فقد كان التزايد في عدد القنوات الفضائية في السنوات الأخيرة, وفي عدد الصحف الجديدة, عاملا من عوامل الشعور بالتفاؤل لدينا في تحقيق التنوع الإعلامي, وفي إبراز الآراء المختلفة وفي توضيحها, غير أن الواقع يشير إلي أننا وصلنا إلي مرحلة من الاختزال الشديد من ناحية, والاستقطاب الحاد من ناحية أخري في عرض الوقائع والأحداث, وهو ما ينذر بانتكاسة خطيرة في الأداء الإعلامي وفي فقدان المصداقية.. وكأننا نرجع إلي الوراء, وبشدة, في وقت كنا في أمس الحاجة فيه للمضي إلي الأمام. المزيد من مقالات د.أيمن منصور ندا