الثورة في تاريخ الشعوب لم تحدث في أي بلد, دون ابداع فكري سابق عليها يمهد لقيامها , هناك علاقة وثيقة بين الابداع والتمرد والثورة منذ قيام ثورة يناير. فقد سمعنا عن أحزاب كثيرة تشكلت بسرعة, سياسية ودينية واجتماعية واقتصادية واشتراكية ورأسمالية وليبرالية ونيوليبرالية وسلفية وجهادية وغيرها. لكننا لم نسمع عن حزب للابداع. نقلد الأحزاب التي تتكون في البلاد التي يسمونها ديموقراطية, ونقتبس أسماءها دون اضافة جديدة من عندنا, ومن المؤلم أن نظل تابعين وناقلين ومقلدين لغيرنا وتغيبنا عن المشاركة في التقدم الفكري, رغم أن العقول المصرية لا تقل ابداعا عن غيرها, وربما تزيد من حيث التكوين البيولوجي والجينات الموروثة, لكننا تخلفنا اجتماعيا وسياسيا, وبالتالي تخلفنا فكريا وابداعيا لأن عملية الابداع لا تحدث في العقل إلا عن طريق التفاعل المستمر بين تطور خلايا المخ وتطور الحركة الاجتماعية لم يتطور مخ الشمبانزي كما تطور مخ الانسان, لأن الحياة الاجتماعية تخلفت في حياة القرود عنها في حياة البشر. بدأت طفرة الابداع العقلي في افريقيا قبل أوروبا بعشرين ألف عام, وقامت الحضارات القديمة والابداع العقلي في مصر والأودية النهرية, بسبب الحياة الاجتماعية النشطة التي صاحبت خصوبة الأرض ومعها خصوبة العقل هناك تفاعل دائم يربط بين الجسدي المادي والفكري العقلي والاجتماعي السياسي الاقتصادي, منذ ستين ألف سنة بدأت الطفرة الابداعية العقلية في افريقيا بسبب هذا الترابط, ثم انتقلت الطفرة الابداعية منها الي أوروبا, حين أصبحت الحياة الاجتماعية والسياسية في أوروبا أكثر ثراء وحركة وتفاعلا عن الحياة في افريقيا. وينشأ الابداع لدي الكائنات الحية بسبب الحاجة الي البقاء ومقاومة الموت. وثبت أن النبات مثل الانسان والحيوان والطيور والحشرات تتطور عقليا لتدافع عن نفسها ضد الموت والجوع واعتداء الآخرين عليها ومعروف أن شجرة الكريبتوكاريا الافريقية تطور عقلها عبر ملايين السنين وأصبحت تفرز مادة سامة قاتلة للبعوض الذي كان يأكل أوراقها. وبدأ علم الكيمياء منذ سبعين ألف سنة في افريقيا, وتم اختراع سوائل كيماوية تقتل الحشرات والزحالف والحيوانات, وأخذت النساء الصمغ من الشجر ولزقت الخشب بالحديد لتصنع الفأس, المرأة الافريقية والمصرية هما أول من صنع الفأس لزراعة الأرض. وقد تطور عقل المرأة أسرع من عقل الرجل, بسبب الحياة الاجتماعية الخصبة للنساء, ومسئولية الأمهات عن إطعام أطفالهن والقبيلة كلها. وكان الأب يأكل أطفاله بدلا من أن يطعمهم, ودأبت الأم علي شربه بالفأس حتي تهذب قليلا, ولم يعد يأكل أطفاله لكنه استمر في اغتصاب بناته, من وراء ظهر الأم. يتطور العقل البشري ويكبر حجمه وتتغير الروابط بين الخلايا ومراكز الأعصاب( النيورونات), فيكتسب العقل القدرة علي انتاج الفكرة الجديدة. وكشفت الدراسة النفسية للعقل المبدع أن العملية الابداعية تتطلب القدرة علي اطلاق الخيال الجامح دون قيود, وربط الذكريات البعيدة والقريبة بعضها بالبعض, وتحليلها, ومن ثم انبثاق الأفكار الجديدة خارج المألوف, ويلعب التعليم المصري المدني والديني, دورا في قتل الابداع العقلي, لأنه قائم علي تخويف الأطفال من تجاوز القيم والمقدسات, ويعجز خيال الطفل عن التحليق في الخيال, ويعجز بالتالي عن التذكر وربط الذكريات وتجميعها وتحليلها وانتاج الفكرة الجديدة التي تخالف هذه القيم والمقدسات. يحتوي العقل أيضا علي بلايين المراكز العصبية( النيورونات), التي تنشط وتزداد عددا بنشاط الخيال والذاكرة, واستمرار الربط والتحليل والاستنتاج, ثم الالهام بالفكرة الجديدة, وكان حجم مخ الانسان قبل مليون ونصف سنة يساوي حجم مخ الشمبانزي أي450 سنتيمترا مكعبا فقط, منذ مائة ألف عام زاد حجم المخ البشري الي ألف وثلاثمائة وثلاثين سنتيمترا مكعبا, يشمل مائة بليون نيورون, تتلقي المعلومات وترسلها, بواسطة مائة وخمسة وستين ألف كيلو متر من ألياف الأعصاب, ومع التحول الاجتماعي للمجتمعات الافريقية القديمة حدثت الطفرة الابداعية أو الانفجار الفكري لعقل الانسان, ويلعب الفص الأمامي للقشرة المخية دورا في الابداع, لأنه يربط بين الفكرة وتنفيذها, أي العمل علي تحقيق أهدافها. خلايا العقل مع الحركة الاجتماعية يتفاعلان معا ويعملان علي نقل وتبادل المعرفة والأفكار بين الأفراد والأجيال والبلاد والقارات. ولا يكفي الذكاء الفردي للابداع, إذ لابد من تفاعل هذا الذكاء مع الآخرين في المجتمع والتبادل الفكري والاجتماعي للأفكار والتجارب والربط بينها, لا ينفصل التطور البيولوجي عن التطور الاجتماعي. ومن هنا ترابط العلوم الطبيعية, مثل الطب والكيمياء والفيزياء, بالعلوم الانسانية مثل التاريخ والفلسفة. وترابط الفن بالعلم لا ينفصل الجسد عن العقل عن النفس عن الروح عن المجتمع هذا الترابط هو أساس العملية الابداعية في العلوم والفنون. معا يتولد الابداع عن المهارات العقلية والاجتماعية. معا في ترابط وتفاعل مستمر, كلما زادت العقول الحرة في المجتمع الحر تزايدت فرص الابداع في كل مجالات المعرفة, اتساع الحركة الاجتماعية يساعد علي اتساع مجال العقل والابداع. تنتقل جرثومة الابداع العقلي بواسطة الحرية والحركة والسفر خارج البلاد وكسر الحدود, وعدم العزلة داخل وطن واحد أو دين واحد أو ثقافة واحدة تنتشر عدوي الابداع بازدياد الحركة بين مختلف أنواع البشر والأجناس وينتشر الابداع بسرعة عبر الأقمار الصناعية والانترنت والتليفون المحمول والفيسبوك والتويتر واليوتيوب, وهذه الثورات التكنولوجية أنتجت ابداعا في التقدم الاجتماعي الفكري, وأنتجت أيضا أسلحة الدمار الشامل وأصبح الانسان الفرد أكثر تهذيبا من الشمبانزي. لكن النظم الطبقية الأبوية الحاكمة لا تزال بدائية, ويمكن لدول تملك أسلحة دمار شامل مثل أمريكا واسرائيل, أن تغزو شعوبا وتنهب مواردها. تحتاج هذه الدول الي تهذيب أكثر لتربط بين العدالة الاجتماعية والابداع التكنولوجي. وحزب الابداع المصري والثورة ضروري لتطوير نظام الحكم, وتحقيق المبادئ التي طالب بها الشعب في ثورته منذ عامين. لمزيد من مقالات د.نوال السعداوى