اعتاد الدكتور شاكر عبدالحميد في مؤلفاته انتقاء موضوعات شائقة, وشاقة, كما رأينا في كتبه التفضيل الجمالي, والخيال من الكهف إلي الواقع الافتراضي, والفنون البصرية وعبقرية الإدراك, وعصر الصورة, والفكاهة والضحك. وتدور موضوعاته المدهشة عادة حول الفنون والوعي والتذوق والإدراك, ويبذل فيها جهودا شاقة, تتطلب من القراء بالمقابل جدية في التلقي, توصله القيمة, وتبلغه المتعة. وكتابه الأخير يعكس قدرته علي التنويع, فموضوعه غير مطروق, وعجائبي, عن الغرابة في النفس الإنسانية, والإبداع, والحياة الاجتماعية, ويساعدنا في فض غموض هذه الفكرة, بإشراقات من الوعي, والتشويق, فالغرابة عنده حالة بين الواقع والخيال, الحضور والغياب, النور والظل, وتجسيد لفاعلية الخيال, ويتعقبها في الأدب, والفنون, ويرصد تجلياتها في سكني الأحياء للمقابر, والعشوائيات حول المدن الصناعية وفوضي الأزياء في شوارعنا. ولأنها تنافر معرفي بين الألفة ونقيضها, نتيجة تحول غير المألوف إلي مألوف, تصبح سببا للتردد والالتباس والدهشة, وتصعد الشك البسيط إلي الرهبة, حيث يبدو الخوف المتخيل أكبر من الرعب الحقيقي, وإحساسنا بالمكان المسكون أعلي من الأشباح ذاتها. الموضوع جديد ومتدفق, وأبعاده المتعددة تدفعنا للتأمل, وتمدنا بشغف قد نكون بحاجة إليه, وتجدد قدرتنا علي الاندهاش!. في كتابك الأخير الفن والغرابة قلت ان الغرابة تقاطع بين المعروف والمشعور به, المألوف والغريب, فكيف نتلمس هذه الغرابة في الابداع عموما, والأدب خاصة؟ * الغرابة حالة يصعب تحديدها وإلا باتت مألوفة, فهي نوع من القلق المقيم, بين الحياة والموت, والتباس بين الوعي وعدمه, وحضور خاص للماضي في الحاضر, والآخر في الذات, وحالة بين انفعالات الخوف والرهبة والتشويق وحب الاستطلاع والمتعة والطمأنينة والتذكر والرعب والتخيل والوحشة والالتباس وفقدان اليقين. والفن يحول القلق الحياتي والرعب المعيش إلي رعب متخيل, ويجعل غرابته قابلة للتأمل والإدراك والمواجهة, فيصبح الفن وسيلة للمواجهة لا الهرب, كما قال فان جوخ:كلما زاد مقدار القبح والشر والفقر في العالم, ازدادت رغبتي في الانتقام منه برسم لوحات ذات ألوان براقة, شديدة التناسق والتنظيم واللمعان أي أنه قاوم الغرابة بالإبداع, وإن بدا ذلك للبعض غريبا, وأيضا تساءلت الأديبة الإنجليزية فرجينيا وولف في1918: كيف يمكننا تفسير ذلك التوق الإنساني إلي المتعة الناتجة عن شعورنا بالخوف, وتتجلي في ولعنا بقصص الأشباح؟ وأجابت: نستمتع بما يخيفنا ما دام يحدث في ظروف نتحكم فيها ولا تفرض علينا. رأي بعض المفكرين ان الغرابة كانت المجاز السائد للعقد الأخير من القرن العشرين, فما المجاز السائد بنظرك في الأدب والفن الآن؟ * أعتقد أن المجاز السائد في الأدب والفن الآن هو الخيال, والغرابة نوع من الخيال المرتبط بالخوف وانعدام الأمن والوحشة والتوجس, والفنان الإسباني جويا كان يعتقد أن الأحلام تشبه اللوحات, واللوحات تشبه الأحلام, والإنسان عموما عندما يفقد عقله ينتج خياله الوحوش والمستحيلات, وعندما ينام العقل حرفيا أو مجازيا, ينطلق منه بوم وخفافيش وغيلان, وكائنات غريبة يستسلم الإنسان لمخاوفه منها, لكن الأديب والفنان يحولان هذه الوحوش إلي أعمال إبداعية مؤثرة, قد تبعث الخوف لكنها تومئ أيضا إلي المناطق التي يوجد فيها الأمن والطمأنينة. شهد القرن العشرون تراجعا للعجائبي في الفن والأدب, أو ما يسمي الغريب المتفائل, مقابل تزايد الغريب المتشائم, فهل باتت المخيلة الإبداعية تتعاطي مع غير المألوف باعتباره طبيعيا؟ * القرن العشرون كما كان عصرا للصورة فهو عصر الخيال أيضا, لما شهده من تدفق إبداعي علي نحو غير مسبوق في السينما والمسرح والفن التشكيلي والتليفزيون وتقنيات الكمبيوتر والخيال العلمي والعالم الافتراضي والأدب, بشكل يجعلنا نتحفظ علي فكرة تراجع العجائبي خلال القرن ذاته, فالوعود التي جاء بها العلم والأدب والفن وحركات الاصلاح الفكري واجهتها حروب عالمية واقليمية, وتزايد نسب الفقراء والمجاعات في بلاد كان ينبغي أن تكون غنية, وأشكال جديدة من الاستعمار والتطرف والاستبداد والعدوان, فظهرت أعمال أدبية وفنية ليست متفائلة علي الاطلاق, في السيريالية, وأدب العبث, وقصص الأشباح والرعب. أما بخصوص تعاطي المخيلة مع الغرائبي باعتباره طبيعيا, فليس له قاعدة, فالطبيعي وغير الطبيعي مسألة نسبية, فهل من الطبيعي تحول الإنسان إلي آلة, يلهث في الحياة من أجل الفتات, ويظل يدور في هذه الدوامة, أم أن هذه حالة غريبة. وغير المألوف استأثر باهتمام الأدب, كما نري في كتابات هيمنجواي وإبراهيم أصلان وصنع الله إبراهيم ومحمد المخزنجي, وهناك أمثلة للعادي الذي أصبح غير عادي, أو غير العادي الذي أصبح عاديا, فأصحاب الخيال المتفائل يبنون قصورا في القضاء, ويشعرون بأن العالم مبهج, وأصحاب الخيال المتشائم مثل هاملت يرون أن كل شيء ليس كما ينبغي. قلت إن الأعمال الفنية حالات قد لا تكون موجودة علي نحو كامل, لكنها لا تكون غائبة أيضا علي نحو كامل, لأنها تجسد تلك الحالة الوسيطة المابين بين الحضور والغياب, أو الأصل والصورة, أو النور والظل, تفعل الخيال, وتربط الشكل بالمضمون, والزمان بالمكان, في حالة طيفية, فكيف تصنع الغرابة حالة المابين هذه؟. * حالة المابين أو الأرض الوسطي هي منطقة وعي بين الحضور والغياب والأصل والصورة, والنور والظل, كما ذكرت في سؤالك, وهي فقدان لليقين, لأن الغرابة نوع من التحول الدائم في الوعي, كالرمال المتحركة, فعندما يتحول الحقيقي إلي وجود شبحي, أو ظل, أو صدي وتكرار, أو إلي عود أبدي كما تسميه الميثولوجيا الإغريقية, يصبح الوجود غريبا ويفقد روحه. وإذا كانت الغرابة انفعالا ينتابنا أمام بعض الأعمال الفنية التي تشعرنا بالدهشة والشك والخوف, فهل ثمة فارق هنا بين الغرابة الجمالية والغرابة الحياتية؟ وكيف يتحول الغريب إلي اعتيادي ومألوف, ومتي يصبح العادي غريبا؟ * الغرابة الجمالية انفعال تولده قراءة أو مشاهدة أعمال أدبية أو فنية فتستثير بداخلنا قلقا وترقبا وتوقعا وخوفا, فحين نشاهد فيلم رعب مثلا لا نستطيع منع الخوف عن أنفسنا مع علمنا أنه عمل متخيل, ونستريح لانتهائه, والغرابة الجمالية يحدثها التشويق والمؤثرات الصوتية والسمعية, لكن تكرار مشاهدة الفيلم يقلل الإثارة والخوف لتحول أحداثه غير المألوفة إلي شيء مألوف, وكذلك سكني أحياء المقابر بجوار الأموات, فبعدما كان شيئا غريبا بات مألوفا, إذا نظرنا لهذه الأشياء بعين الفن نراها غريبة ومرفوضة ونفكر بالخلاص منها. حين شاهد الناس القطار في أول عرض سينمائي هربوا خوفا منه, والآن أحال التطور العلمي الهائل في الالكترونيات العالم إلي مشهد بصري مزدحم بكائنات شبحية, تشعرنا بغرابة تكنولوجية أكبر من ذلك المشهد القديم, فما تفسيرك لهذه الحالة؟ * الآن يوجد ما يسميه الباحثون الغرابة الرقمية, فهذه الأشياء الغامضة المثيرة التي صممها خبراء الكمبيوتر تثير الخوف والترقب, وبضغطة زر يتفاعل الإنسان مع كل هذا التطور التكنولوجي, الذي نعيش من خلاله في عالم آخر ونقوم بأشياء لا نقوي عليها في الواقع, وتدريجيا أصبح هذا العالم مألوفا للأطفال والشباب, والواقع الخارجي غير مألوف لهم, فاعتزلوه وأدمنوا الواقع الافتراضي, وهذا عين الغرابة. إذا كانت الغرابة تثير الشك لدي الإنسان وتشعره بالغموض والريبة, فهل تبدد أمانه بالضرورة, وما مدي ارتباط وعيه بهذا سلبا وايجابا؟ * مشاعر الشك والرية وعدم اليقين إذا أثرت علي وعي شخص يتجه لمسالك ضارة كالمخدرات والتطرف والجريمة, وتفادي هذا يكمن في الابداع والأمل والتفاؤل ومقاومة الغرابة الحياتية بالغرابة الفنية. بات تأثير الغرابة الحياتية أعمق من التي يولدها أدب العبث في انتظار جودو مثلا فالانتظار فعل إنساني مألوف, لكن الغريب أن انتظار ما لا يجئ بات عاديا في حياتنا, كإخفاق الأحلام, وتكاثر الإحباطات, فكيف تري هذه الظاهرة؟. * الغرابة الحياتية باتت تتجاوز الغرابة الفنية, والشعراء والروائيون في مصر يتعاملون الآن بشكل متزايد مع مظاهر الغرابة الحياتية, ومؤخرا قرأت ديوان بعض ما صنع الحداد للشاعر محمد خير الله, وتعجبت مما جسده من الغرابة التي يعيشها الشباب الآن, ومع أني ضد فكرة أن الفن انعكاس للحياة, إلا أن ثمة علاقة بين الفن والحياة, فوجود شاب عاطل بات أمرا مألوفا, بالرغم من أنه غريب وضد طبيعة الإنسان, ولن أدعي أن الفن يستطيع حل كل مشكلات البشر, لكن الإبداع المجتمعي وليس الركود الماثل يمكنه فعل ذلك من دون شك. هل يمكن أن تتولد الغرابة من شيء جميل, وكيف يمكن أن يكون الجميل مخيفا مثل أفلام الرعب؟ * هناك لوحات مخيفة لدافنشي أو جويا أو جيمس إنسور لكنها جميلة أيضا, وهناك أفلام رعب مخيفة لكنها جميلة من حيث الموسيقي والتصوير والمؤثرات, والبعض يستمتع بمنظر الفندق وحدائقه وقاعاته في فيلم البريقshining بطولة جاك نيكلسون وإخراج ستانلي كوبريك وإن كانوا لا يستطيعون منع الخوف من مشاهد الاشباح والأطفال المقتولين والمذبحة التي حدثت في فيلم من إنتاج1980 عن رواية لستيفن كنج. الصمت, والعزلة, والظلمة, والسري, والخفي, كلها حالات تثير الغرابة والخوف, والخوف يشتت الانتباه, ويدفع الإنسان للهرب أو التجمد, فما علاقته بالغرابة؟.. * الخوف أساسي في الإحساس بالغرابة, لأنه نقيض الأمن وعدو الطمأنينة, ووجود شيء علي مشارف الوعي أو يوشك علي الحدوث, غامض غير معروف, لا نعرف كيف سيظهر ومتي وأين يولد الخوف, وأعرف كثيرين وأنا منهم لا يستطعيون النوم بمفردهم في مكان مظلم, والغرابة ترتبط بالكوابيس والأشباح والليل والمقابر والموت وكل ما هو مكبوت في لا وعينا الجمعي ولا نعرف عنه شيئا, أو نعرف عنه بعض الأشياء لكننا لا نعرف متي يظهر, وإذا ظهر يبدو غريبا. التناص في الفن والأدب, قد يثير استغراب المتلقي لبراعته أو رداءته, فيولع به, أو ينفر منه, فكيف يحدث ذلك؟ * التناص يرتبط بالغرابة, وهو في جوهره شبحي الطابع, يعني حضور الغائب في الحاضر, فيكون تأثير النص السابق أقوي من النص اللاحق, ويكون الكاتب ظلا للاخر, خاصة في سرقة النصوص أو انتحالها وتقليدها, لكن بعض الكتاب يتمكنون من تضمين أشباح نصوص الآخرين في نصوصهم خفية, بطريقة إبداعية تعجبنا, وإن كان مؤيدو التناص لا يعتقدون بوجود النص المعزول كجزيرة, لكن البعض الآخر يحلو له الاستيلاء علي جزر الآخرين كلها.