أنفقت كثيرا من الوقت في القراءة في علم الجمال ويوما ما كنت سأعد رسالة ماجستير في هذا العلم بعد أن أنهيت دراستي الجامعية في الاسكندرية، إلا أن الرواية اخذتني وابتعدت عن كل دراسة .وجوار علم الجمال كنت وما زلت مفتونا بالدراسات النفسية للأدب والأدباء رغم ايماني أنه لا يمكن أن يصل علم النفس إلي قوانين حاسمة لأنه يتعلق بالنفس البشرية التي ستظل مهما سبرنا من اغوارها متعالية علي التحديد النهائي. وفي القاهرة منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي التقيت مع الدكتور شاكر عبد الحميد وهو معيد يعد دراسة الماجستير الخاصة به وكانت عن التحليل النفسي للأدباء وعملهم الابداعي وكنت انا واحد من هؤلاء الادباء الذين شملهم البحث. بعد ذلك توزعت دراسات شاكر عبد الحميد بين المقالات النقدية والدراسات النفسية والجمالية للفنون. فأصدر العديد من الكتب يكفي ان انقل إليك عناوين بعضها لتعرف قيمة وقامة الرجل "العملية الابداعية في فن التصوير" "التفضيل الجمالي " "الفنون البصرية وعبقرية الادراك " "عصر الصورة " "الفكاهة والضحك" وفي هذه اللحظة الخطيرة جدا من حياتنا الفكرية. وهي لحظة تراجع النقد الأدبي ليكون في معظمه دراسات مجمعة كانت في الأصل مقالات متابعة للأعمال أو دراسات عن موضوعات صارت تقليدية مثل الفن والواقع والفن والمجتمع والتغيرات السياسية وأثرها علي الابداع وغير ذلك مما هو اقل اهمية. في هذا الوقت يأتي كتاب الدكتور شاكر عبد الحميد، «سِفْر هُو» في الحقيقة وليس مجرد كتاب، يأتي حاملا عنوان "الفن والغرابة ". كتاب يقع في خمسمائة صفحة أصدرته دارميريت للنشر منذ شهرين. ورغم ضخامة الكتاب فلقد جعل له شاكر عبد الحميد عنوانا فرعيا "مقدمة في تجليات الغريب في الفن والحياة". وهكذا يتواضع العالم الذي يعرف أن الموضوع قائم ومستمر وآراء الفلاسفة والكتاب في معاني الغربة والغريب لن تنتهي وتجليات هذه الآراء مجسدة في لوحات فنية أو أعمال أدبية أو السينما لن تنتهي. فالفلاسفة والنقاد يستنبطون آراءهم من هذه الأعمال من جهة ولديهم نظراتهم للحياة وللفن من جهة اخري وهكذا نكتشف ونحن نمضي مع صفحات الكتاب العظيم أن الغرابة والغربة والاغتراب وكل تجليات الغريب هي سر الكتابة الأكبر الذي لم تستطع كل نظريات الكتابة النقدية والجمالية التي تتحدث عن الفن والمجتمع والفن والحياة وغير ذلك ان تصمد صمود المعين الأول والأكبر للكتابة والفنون وهو الاغتراب. اغتراب الكاتب بوعي أو دون وعي عن العالم الواقعي وتجلياته سواء كانت قضايا كبري أو قضايا صغيرة. الكتاب الذي هو تسعة فصول يصلح كل فصل منها ان يكون مبحثا في موضوعه وهي معا تقدم لنا دليلا هائلا علي إحاطة الكاتب، العالم من فضلك، بموضوعه حتي إنني سألت نفسي كم مضي من السنين ياعزيزي شاكر لتقدم لنا هذا العمل الجليل الذي يستحق أن يكون أيقونة في الدراسات الجمالية والإبداعية علي الإطلاق .يبدأ الكاتب بتصنيف معني الغرابة كما جاء عند الكتاب والفلاسفة ونكتشف انه في الشرق والغرب لم يختلف كثيرا إلا في اختلاف التعبير ثم يستعرض نظريات الغرابة ثم حول الفن والغرابة ثم يبدأ في التصنيف عن الغربة والمكان والغرابة التكنولوجية وهذا مبحث جديد كل الجدة وشديد الأهمية أدركه الغرب قبلنا بزمان ثم الغرابة التشكيلية ثم المسرحية ثم الغرابة والسينما والرعب ثم تطبيق عملي يقدم فيه نماذج من فنانين وغرباء.. يبدو شاكر عبد الحميد محيطا بما يكتبه إحاطة جبارة فهو لا يقدم نظريات أو آراء فقط لكنه يقوم بالتحليل والشرح المستفيض والتحليل اللغوي لمفردات هذا الحقل، الغرابة. الذي هو أصل كل الفنون ومن هنا أري أهمية الكتاب السهل جدا علي القارئ العادي رغم ما يقدمه من نظريات وأفكار وحالات، والذي وصل فيه شاكر عبد الحميد إلي لغة عميقة قوية محددة المعاني سهلة التلقي رغم ما تحتويه. والأهمية التي أتحدث عنها هي أن هذا العمل الضخم يكفي جدا لإعادة النظر فيما يكتبه النقاد عن الاعمال ويمكن لو ان لدينا حياة فكرية غير انانية ولا تقوم علي التحزب دائما والاستسهال أحيانا وراء الصحافة ان يعود للفن والأدب بهاؤهما وقيمتهما من خلال هذه الرؤية التي لا تربط بين والفن وما هو زائل من أحداث وأفكار. ستجد في الكتاب الحديث عن عشرات من الأعمال الأدبية ومثلها وأكثر من الأعمال الفنية في كل العصور ومثلها عن الأعمال السينمائية وستجد أن المحرك الأكبر والدافع الوحيد هو الاغتراب بقدر ماهو الغرابة، ستفهم المعني العميق للتشوه في الفنون الذي قد يأنف منه البعض عن قلة معرفة والمعني العميق للرعب والمعني العميق للون والظل والمكان وغير ذلك شاكر عبد الحميد، العالم الذي أفني عمره داخل مصر وخارجها بعيدا عن أي سلطان أو نفوذ والذي رأيته انا طول عمري غريبا يتأفف مما حوله من كلبية البعض علي المناصب والمزايا وينفعل ويلقي بكلمة ويمضي لا يقدم لنا مجرد دراسة للموضوع في تجلياته عبر التاريخ الأدبي والفني، لكن أيضا يقدم لنا نظرية هي الأهم في تلقي الفن وهي منبع كل النظريات الأخري حتي الشكلانية منها وكأنه يريد أن يقول إنه آن الأوان أن ننظر إلي الفن هذه النظرة الصحيحة والغنية التي يفجرها الشعور بالاغتراب وتتجلي في اشكال عدة من الغرابة في الشكل والموضوع يعود بنا شاكر عبد الحميد وبالفن إلي منطقة الروح رغم تجليات الفنون والآداب المادية، الكتاب أو اللوحة أو الفيلم، اللغة أو اللون أو الصورة. أدعو جميع النقاد إلي قراءة هذا الكتاب الذي لابد سيغير الكثير من الكتابات النقدية وأدعو الكتاب الجدد بالذات إلي القراءة العميقة للكتاب ليتخلصوا مما هو سطحي قد يفتتنون به في أول عمرهم وأدعو رجال الفلسفة وعلم الجمال لدراسة هذا الكتاب والاشتباك معه لتعم الفائدة ولترسخ القيم الجمالية التي دائما تتسرب من المجتمعات في فترات الانحطاط. وإذا لم يشغلنا كتاب بهذه الحجم وهذه القيمة لن يخسر شاكر عبد الحميد شيئا فهو غريب المكان والزمان الآن لكننا سنخسر الكثير وستظل الحياة النقدية والفكرية تدور في مكانها الذي آن له ان يتحرك أو يتغير ..