من الأحداث الثقافية المهمة في القاهرة, التي يجب ألا يشغلنا شيء عن الالتفات إليها, صدور الطبعة الثالثة من الأعمال الكاملة للكاتب التونسي محمود المسعدي, عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالتعاون مع وزارة الثقافة التونسية. وكانت الطبعة الأولي من هذه الأعمال قد صدرت في تونس في2002, والطبعة الثانية في الذكري المئوية لميلاد محمود المسعدي في.2011 وتعرف مصر المسعدي منذ رأس وفد بلاده في المؤتمر الثالث للأدباء العرب, الذي عقد في العاصمة المصرية في1957, وألقي فيه المسعدي كلمة الافتتاح, وبحثا ضافيا عن حماية الأديب والقومية العربية, دافع فيه بحرارة عن حقوق الملكية الفكرية في الدول العربية التي تتعرض للنهب والسرقة. كما عرفته مصر بما نشرته له من كتب ورسائل, وبالمقال النقدي الجميل الذي كتبه طه حسين عن قصة السد في كتابه من أدبنا المعاصر(1959), ورد المسعدي علي ما جاء فيه. ومحمود المسعدي(1911 2004) كاتب أصيل الخصال, ومناضل سياسي, ارتبط اسمه بالنقابات العمالية, وبالدفاع عن المعذبين في الأرض, وخاض المعارك الوطنية للخلاص من الحكم الأجنبي, وتحقيق الاستقلال. نشأ المسعدي في إحدي القري الفقيرة في جنوبتونس, وفي1922 انتقل إلي العاصمة للالتحاق بالتعليم العام, الذي تأتي فيه اللغة العربية تحت تأثير الاستعمار الفرنسي كلغة ثانية, كما كان الوضع في الجزائر وغيرها. وأكمل المسعدي تعليمه العالي بعد المرحلة الثانوية في باريس, في السنوات من1933 إلي1936 ولكنه بسبب الحرب العالمية الثانية لم ينل درجته العلمية إلا في.1947 وبعد أن عاد إلي بلاده في قدر لمن كان لا يجد ما يسد به رمقه, ومن يلاحق بالاعتقال والنفي في الصحراء, أن يتبوأ أعلي المناصب والمسئوليات الحكومية في مجال التعليم والثقافة, مزودا بما حصله من ثقافة عصرية وحضارة إنسانية. والمكانة الأديبة التي يحتلها محمود المسعدي في تونس تماثل مكانة أكبر القامات في الأقطار العربية, إنه صاحب نظرية متكاملة في الإبداع والانشاء, يري فيها أن الخلق الفني ثورة, وهذه الثورة عبارة عن فتح أو كشف جديد لكائن متفرد, جيد السبك والترتيب في لغته وبنائه ومعانيه, لا ينتمي للأجناس الأدبية المعروفة, مقتطع من المؤلف نفسه, وعلاقة المؤلف بإبداعه تنتهي, ويفقد سلطانه عليه, بمجرد إذاعته, لأنه بهذه الإذاعة ينفصل عنه, وتبدأ النصوص حياة موضوعية أخري, تختلف عن الحياة التي كانت لها في صاحبها نفسه, وفي نطاق فكره وغايته, أثناء تأليف انتاجه. ولا شأن للمؤلف بما يتلقاه القاريء من أعماله الأدبية, سواء اتفق مع ما يتلقاه منها من أفكار وخواطر وانطباعات, أو لم يتفق معها. وحسب هذا القاريء أن يرتد إلي نفسه, ويجيل فيها النظر لكي يلمس في باطنه صدي من أصداء النص الذي يقرأه, بقدر طاقته علي فهمه وشعوره به. ومع أن محمود المسعدي تأثر تأثرا عميقا بالثقافة العربية, وأتقن لغتها إلي أقصي الحدود, إلا أن تأثره بالثقافات الأجنبية الحديثة, خاصة لا يقل عن تأثره بثقافته القومية. ولهذا فإنه يضع العبقريات العربية كابن خلدون والجاحظ والغزالي, وابن رشد والمعري والتوحيدي في منزلة العبقريات العالمية الخالدة في كل الأمم, وكل العصور. وليس هناك فرق عنده, في خصائص التعبير الفني وايقاعه, بين لغة الشعر ولغة النثر, أو بين الشاعر الذي يتناول مشكلات الحياة بالايحاء والكلمات المبهمة, وبين الفيلسوف الذي يتناول هذه المشكلات بالتحليل والنقد. وجوهر ما أخذه المسعدي من هذه الثقافات العربية والأجنبية, ومن حياته وتجاربه الالتزام والوجودية في أنضج صيغها. والالتزام عند المسعدي معرفة, وقيم ومسئولية, لا تنأي عن روح الإنسان وعقله, وخياله, ولا عن المصير البشري إزاء المشكلات التي يلتقي فيها الالتزام بمغامرات الوجود, والنشاط الفردي بالكون. إن الفرد في صلته بالآخرين هو الذي يغذي المجتمع, ويحيل مواطن الوحدة والوحشة فيه إلي مواطن الإلف والعشرة. أما المجتمع المستبد الذي يجهز علي الفرد, أي علي حرية الفكر والتعبير, فإنه يجهز علي كيان المجتمع ومآله الموت. والحكمة الصحيحة هي الحكمة التي تساعد المرء علي اليقظة, واستنباط الحقيقة من ذاته, ومن ذات الجماعة. وما لم تخضع القوي المادية للثقافة والحضارة اضطرب الوجود, وأصيب بالتصدع والانهيار. ومتي كانت حركة الحياة طبيعية, فإنها تستمر أبدا, ولا تتوقف أو تسكن. ولا يقلل من المعرفة العلمية, أو يتناقص معها, في نظر محمود المسعدي, أن يكون هناك ما يتجاوزها ويتجاوز العقل البشري, ويعني بها مجال الروح والغيب, وكل ما يتصل بالدين. ولبيان الفرق في الدلالة بين وجودية المسعدي والوجودية الأوروبية الحديثة, يذكر المسعدي أن شخصية غيلان في قصة السد تختلف عن شخصية سيزيف في الأدب الوجودي. يتمثل هذا الاختلاف في أن رفع سيزيف للصخرة من سفح الجبل إلي قمته إلي ما لا نهاية, يعبر عن العبث المحض أو العدم, دون أن يجنح إلي التهوين من شأنه أو من شأن التقاليد الأدبية التي ينتمي إليها, بينما مغالبة غيلان المأساوية لما تفرضه عليه الطبيعة, وإن انتهي بالعجز والفشل, فإنه فعل أو مسعي يخفق بالأمل, إذا تجاوزنا الظاهر إلي الباطن, أو العلن إلي السر الكامن, مثلما يخفق كل جهد مادي عامر بالاحساس, يأبي الضيم والخيبة والازدراء, ويتمسك بالغاية, التي يهدف إليها الفن في دنيا الجمال. هذا الأمل المتعدد الأوجه, الذي يعتبر العودة إلي الماضي انتحارا, يرمز من جهة إلي الحضور الحي والانجاز, ومن جهة مقابلة لشرف الإنسان وكرامته ومجده, الذي يحيا حياته الشرقية العربية بكامل وعيه وإرادته الحرة التي تؤمن بأنه خليفة الله في أرضه, وأنه محكوم عليه بالموت والفناء. والبقاء لله وحده.