مجلس النواب يوافق نهائيا على قانون التأمين الموحد    20 مايو 2024.. البورصة تعاود الهبوط بانخفاض طفيف    لماذا يتهم المدعي العام للجنائية الدولية نتنياهو وجالانت بارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية؟    إسبانيا تستدعي السفير الأرجنتيني في مدريد    أحمد أوفا يقود هجوم إنبي أمام المصري في الدوري    تحرير 118 محضرا مخالفا خلال حملات تموينية وتفتيشية بالمنيا    ضبط 4 متهمين بتجميع خام الذهب الناتج عن تنقيب غير مشروع بأسوان    المحكمة تنتدب الطب الشرعي في محاكمة طبيب متهم بإجهاض السيدات في الجيزة    انطلاق ورشة لتدريب الشباب على فن الموزاييك بثقافة الإسكندرية    الرعاية الصحية: التوعوية بضعف عضلة القلب في 14 محافظة.. و60 منشأة صحية شاركت بالحملة    إطلاق أول استراتيجية عربية موحدة للأمن السيبراني الشهر المقبل    محمود محي الدين: 15% من الأجندة العالمية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة    فلاح يقتل والده بأسيوط.. هكذا عاقبته المحكمة    موعد الفرحة: تفاصيل عيد الأضحى في السعودية لعام 2024    تشافي ولابورتا.. تأجيل الاجتماع الحاسم في برشلونة    "وحشتني يا بسبوس".. إيمي سمير غانم توجه رسالة لوالدها في ذكرى وفاته    سلمى أبو ضيف تنشر جلسة تصوير لها بفرنسا.. ومنى زكي تعلق (صور)    فرقة «المواجهة والتجوال» تواصل نجاحاتها بالعريش والوادي الجديد    «السرب» الأول في قائمة إيرادات الأفلام.. حقق 622 ألف جنيه خلال 24 ساعة    مجلس النواب يوافق نهائيا على الحساب الختامى للموازنة العامة للدولة    تأثيرات الإفراط في تناول الفواكه لدى كبار السن.. نصائح وتوصيات    7 تعديلات مرتقبة في قانون مزاولة مهنة الصيدلة.. أبرزها رسوم الترخيص والورثة    نائب رئيس نادى السيارات: مسيرات للدراجات النارية ومسابقات سيارات بالعلمين أغسطس 2024    طلب إحاطة بشأن تكرار أزمة نقل الطلاب بين المدارس    اليوم.. مصر تواجه بوروندي في بطولة أمم أفريقيا للساق الواحدة    شيخ الأزهر يستقبل سفير بوروندي بالقاهرة لبحث سبل تعزيز الدعم العلمي والدعوي لأبناء بوروندي    بروتوكول تعاون بين التأمين الصحي الشامل وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية لتطوير البحث العلمي فى اقتصادات الصحة    تطوير المزلقانات على طول شبكة السكك الحديدية.. فيديو    رئيس النواب: التزام المرافق العامة بشأن المنشآت الصحية لا يحتاج مشروع قانون    محافظ أسيوط: التدريب العملي يُصقل مهارات الطلاب ويؤهلهم لسوق العمل    براتب خيالي.. جاتوزو يوافق على تدريب التعاون السعودي    تفاصيل أغنية نادرة عرضت بعد رحيل سمير غانم    إكسترا نيوز تعرض تقريرا عن محمد مخبر المكلف بمهام الرئيس الإيرانى.. فيديو    فتح باب التقدم لبرنامج "لوريال - اليونسكو "من أجل المرأة فى العلم"    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    ضبط المتهمين بسرقة خزينة من مخزن في أبو النمرس    مصرع شابين في حادث تصادم بالشرقية    تحرير 142 مخالفة ضد مخابز لارتكاب مخالفات إنتاج خبز بأسوان    توجيه هام من الخارجية بعد الاعتداء على الطلاب المصريين في قيرغيزستان    مجلس النواب يستكمل مناقشة قانون إدارة المنشآت الصحية    22 مايو.. المؤتمر السنوي الثالث لطلاب الدراسات العليا فى مجال العلوم التطبيقية ببنها    رئيس جامعة بنها يشهد ختام فعاليات مسابقة "الحلول الابتكارية"    قائمة البرازيل - استدعاء 3 لاعبين جدد.. واستبدال إيدرسون    مرعي: الزمالك لا يحصل على حقه إعلاميا.. والمثلوثي من أفضل المحترفين    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    وزير الري أمام المنتدى المياه بإندونيسيا: مصر تواجه عجزًا مائيًّا يبلغ 55% من احتياجاتها    بعد وصولها لمروحية الرئيس الإيراني.. ما هي مواصفات المسيرة التركية أقينجي؟    باحثة سياسية: مصر تلعب دورا تاريخيا تجاه القضية الفلسطينية    معرض لتوزيع الملابس الجديدة مجانًا بقرى يوسف الصديق بالفيوم    ماذا يتناول مرضى ضغط الدم المرتفع من أطعمة خلال الموجة الحارة؟    عواد: لا يوجد اتفاق حتى الآن على تمديد تعاقدي.. وألعب منذ يناير تحت ضغط كبير    ماذا نعرف عن وزير خارجية إيران بعد مصرعه على طائرة رئيسي؟    الأسد: عملنا مع الرئيس الإيراني الراحل لتبقى العلاقات السورية والإيرانية مزدهرة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 20-5-2024    روقا: وصولنا لنهائي أي بطولة يعني ضرورة.. وسأعود للمشاركة قريبا    دعاء الرياح مستحب ومستجاب.. «اللهم إني أسألك خيرها»    وسائل إعلام رسمية: مروحية تقل الرئيس الإيراني تهبط إضطراريا عقب تعرضها لحادث غربي البلاد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فِي ذِكْرَاه العَائِدَهْ ... الأديب التُّونِسي "محمود المِسْعدِي" ... مُبْدِعٌ جَدِيرٌ بإحْتِرَام الحَيَاة ْ... !
نشر في شموس يوم 14 - 12 - 2012

إذا أمْعَنَّا النَّظرَ وأجَدنَا تَسَلُّلَ التَّوقُّع في سَنَا يَاسَمِين ما رَسَمَه الأدِيب التُّونِسي "محمود المسعدي" مِنْ نَجَمَاتٍ مِنْ فَرْطِ حُلْمِهَا تَكَادُ تُضِيءُ ، لإنْتَبَهْنَا أنّ هَذا المُبْدع كان فيلسوفا راقِيًّا في أحوال الحياةِ وشاعرًا ، مَزَاهِرُ الشّذى فيه نَضَّاخَة الأكْمَام والأبْعَاد ، مُبدع أرادَ تَخْلِيصَ الفِكْر مِنْ أوثَان فُجَاجهِ ... أرادَ بدَهْشَةِ كِتَابَاتهِ أن يَتَمَادى فِيه الإنْغِمَارُ تَلَطُّفًا والإحْسَاسُ بجَوَانِح الأ ُقْحُوَان وأطْيَاف إنْعِتَاق كَفَاتِحَةِ تَاج وأسَاسْ ... أرادَ أنْ يَكُونَ مَلْمَحًا إسْتِثْنَاءا ... فَأسَّسَ مَنْشَأ مُتَفَرِّدا ... وإنْتَشَى في يَنَابيع رُبوعهِ كَوْنٌ حَدَاثِيٌّ رَخِيمٌ ، حَاوَرَ مِنْ خِلالِهِ طُلُولَ عَقْلِهِ ووَازَنَ بَنَفْسَجات شَدْوهِ وأخَذ برَمْز جُلُّنَار بَحْرهِ وبَاطِن سَوْسَن خَثَارَات لَذاذات فِكْرهِ إلى عَالَم جَمِيل رَحْبٍ يَطْمَحُ أنْ تُزْهِرَ الأمْطَارُ مِن بُدُورهِ كَفَيْرُوز التَّوَامُض والفِرَاسَةِ والزَّعْفَرَان .. عَالَمٌ لنْ يَفْهَمَ تِلالَ بَوْحِهِ إلاّ مَنْ أعْلَى البَصِيرة النَّافِذة التوّاقة إلى أمَل الخَلاص مِنْ بَرَاثِن القَدِيم الجَالِس قُدَّامَ بَوتَقَة المَوْتِ القَادِم مِنْ شَجَر التَّفَجُّع والإضْمِحْلال .. عَالَمٌ لنْ تُفَتَّحَ مَرَاميهِ إلا لِمَنْ صَادقَ التَّمَعُّنَ الجَيِّدَ والخَيَالَ الثَّاقِبَ ورَمَزَ لِصَوَابِ المَكَان لِلإلْتِحَافِ بِكَيْنُونةِ الوُجُودِ والشَّاهِدة والحَياة ...
وبرغم أنَّه أ ُتّهمَ بإشْتِعَالاتٍ وُجُوديّةٍ عَبَثيّة يَتَقدّمُ بهَا الفَيَضَانُ في أحَافِير التَّرَاشُق بذبُول التّراتِيل جَرَّاءَ خَلْط نَدَهَاتِ الصَّحْو بخَيْلاء الغُمُوض رقَّط وحَرَّرَ ما به من صِنْو زئبق ودُمُوع تُرَابْ ، فَقَدْ كان هذا الإتِّهَامُ رَهْبَة إخْفَاق في الإحَاطَة بتَوَاشيح أدَبهِ بمَا تُقَرُّ به عَيْنُ العَقْل القريب مِن تَبَاهُج الإدْرَاكِ وفَوَانِيس الإلْتِمَاع ..
وكُلُّ مَنْ لَمْ يُحَاكِ ما به مِنْ أنْسنة وأ ُبْنُوس صُعُود وإنْفِتَاح فِضَّة وإسْطِرلاب ماء ، وكُلُّ مَن لم يُدَرِّبْ أقانِيمَ زَهْوهِ وجُمَانة تُكَاشِفُ الهَوَائِج على المُخَاطَرة ، وكلُّ مَن لم يَصْبر على " المسعدي " وعلى دُخُول مَمَرَّاتِ طَالِع الخيال في نُسَيْمَات حَريرهِ تَسَرَّعَ لَحْظ الوَقْتِ في كَعْبِ إخْتِلاجه وتَسَربَلَتْ شِفَاهُ الوَقْع / أغْصَانُ الطَّشِيش فِيهِ جَيَّاشة ، مُكْتَظَّة بتَمَاوُج المَتَاهَة وحَيْرة الغُمُوض وطَلاسم الفِكْرةِ والبَيَان ...
أقُولُ برغم مَنْ يَتَمَشَّى في مَحَاجر اليُبْس فهُناكَ مُدِلٌّ يُورقُ بَيْدرهُ بَهْجَة وعِنَاقًا ، وبرغم هَيْدَبٍ تَتَنَصَّتُ النَّوَاعِيرُ فِيهِ على جَدَائِل الإنْتِمَاء ، وبرغم أنَّ ضَجَّة إتِّهَام " المسعدي " بالوُجُوديَّةِ العَبَثِيَّة التي طَرَأتْ على مُغَالَبَةِ وعَقِيق التَّمَاثُل النَّظِير ... وكَثَّفُوهُ بعَتِيق إسْتَيْأسَ وقَطَرَتْ نَوَاطِيرهُ وتَفَرَّع مَرشُوقُ الكَلام وقَالُوا تَأثَّرَ بما أدْرَكَ مِنْ " ألْبَار كَامُو " أو " سَارتر " أو هَوْسٌ جَهْمٌ أفْقَدَ زَمَانَ الحُروفِ تَلَمُّسَ دفْقة أو وقْدة مَا تَحَرَّرَ عَلَنًا أو رشاقة ، فإنَّ " المسعدي " كان مُبْدِعا خلاّقا مُغَامِرًا لا تَذوي خَلجَات الخُطَاف فِيه ولَيْسَتْ تَتَغَرَّبُ دَوالي اللآلىء فيه أو تُطْمَرُ ، طَرَّ زَ لَنَا كِتابة مُضَمَّخة الدِّيبَاج والتَّوزُّع ، قَلِيلُونَ مَنْ يَجْرُؤُونَ على سَرْمَدِ مَيَامِينِهَا أو حتَّى طَلّ المَسَاس بأطْرَافِ إحْتِمَالاتِهَا ...
إذنْ هَا هُوَ ذا " المسعدي " يُنَاسِبُ كلَّ إبْداع بطرفٍ ... يُنَضِّدُ الفلسفة على إعْتِبَار أنَّهَا نَقِيضٌ للشِّعْر أو على الأقلّ مُقَاربة تَتَقَاطَرُ إخْتِلافا ومُغَايَرة لِفَهْم هذا العالَم ، وبرغم أنّ الفَنَّ القَصَصِيّ يَكَاد يُجَانِب فُجَّة الإثنين مَعًا فَقَدْ أجَادَ " المسعدي " المَسْكَ بخُيُوط التَّمَيُّز والتَّمَايُز وأحْسَنَ حَبْكَ الإشْتِغَال على تَفَاريح الإنسان والكَيْنُونة وسَبْر أغْوَار أبْكَار مَا بالأحْلام مِنْ الوُجُود بمَسَالِك طَوَّع التَّفَيّؤ في زُمرها بعَبْقريّة.
سَوْسَنَ الفلسفة على أنّها إعْتِمَارُ أ ُسْلُوب وفُسْتُقُ تَحْلِيل وشَامة إسْتِقْرَاء تَنْهَلُ من بَاب الفَرَضِيَّات ومَشْرَب البَرَاهِين ونَيْسَم الأسباب ومَبْسَم النّتائج في تَقرِّي تَفْسِيرهَا لِبَوَارج الظَّواهر أو في تَهَجِّي طَرْحِها لِبَارح الأسئلة ... وعَزَفَ الشِّعْرَ مُعْتَمِدًا أسَاسًا على كَمَان الإسْتِعَارة ومَنَارة المَجَاز وسِحْر أسْرَاب غزلان الصُّوَر التي تُبَاغِتُ البَيَاض في شَتَاتِهِ فتَكْسر حَاشِيَّة قَوَانِين العَقْل وتََتَجَاوزُ عَتبَات قواعد اللُّغة القريبة مِنَ الإنْضِبَاط ...
ومَشَّط وَهَجَ الفَنّ القَصَصِيّ على أنّه مَسْكٌ باللَّحْظَةِ المُوَاتِيَّة وخُرُوجٌ عن الإعْتِيَادِ المُعَادِ والمُكَرَّر، وتَألُّقٌ لإسْتِكْشَافِ البَوَاطِن الحِسِّيَّة لِشَخْصِيَّات الأحْدَاث، (عَناصِرٌ ثلاثة ، يَكُونُ لِقاؤهم في خَيَال واحدٍ وإبْداعُهُمْ في تَخْييل مُتَعَدِّدٍ ) مُعْتَمِدًا في كلِّ هذا على سُلُوكِيّات ظواهر تَخْفَى على العَقْل المُجَرَّد إذا لَمْ نَذهَبْ به بعيدا إلى شُمُولِيّة التَّوقّع والتِّبْيَان وبذلك إسْتَطَاع أن يُرَتِّبَ حَيْرَتهُ الفلسفيّة / الشّعريّة والقصصيّة إبْدَاعًا مُتَمَاسِكَ الفَوْضَى والجَمَال ...
إذنْ بَنَى " المسعدي " كَونَهُ بالإعْتِمَادِ على وَمْض الشِّعْر ورَغْوَةِ الفلسفة التي تَنْقَسِمُ في عَالَمِهِ إلى فلسفة مع حَكْي مَسْمُوع يَكَادُ يَكُون مَرئيًّا لِشَفِيفِ نَضَارَتِهِ ، فهو بَحْثٌ وتَحْصِيلٌ لِلْحِكْمَةِ مِنْ خِلال الفلسفة وسُمُوٌّ ورفْعَة وإبْدَاع مِنْ خِلال الشِّعْر، وهو إمْتَاع ومُؤَانَسَة من خلال قَصٍّ وحَكْيٍّ يَبْحَثُ له دائِمًا عن نِهايةٍ ولكِنَّه أبَدًا لا يَنْتَهِي ... لِيَجْعَلَ كلّ هذه العناصر الثّلاثة تَلْتَقِي في آنْ أو في رَاويَّهْ ... أو تَلْتَقِي في لُجَّة واحدة لِتُؤَسِّسَ كَونًا لَمْ نَعْتَدْ تَشَاخُصَ بُرهَته فكَانَ في بدايَاتِهِ غَريبًا عصيًّا حتَّى على أفْذاذ الأدَبِ واللُّغة ، وها نحن في كلّ حِين في مُقَاربة تُبَاركُ أصْدَاء الإهْتِمَام وكَامِن الإنْتِمَاء ... وهَلْ لنا أنْ نَتَخَيَّرَ ما في حَضْرَةِ كِتَابَاتِهِ مِنْ ذوق يَأتَنِسُ البَذرة قَبْلَ الثَّمْرَة ْ ... !!!
هكذا كان إبداع " المسعدي " مع تَوَفُّر وتَوَافُر أدَوَاتِهِ الإبْداعيّة وهو لَعَمْري تَفَرُّد يُذكَرُ فَيَنْدلِقُ خَاتَمًا حَافِلا بألَق الطُّيُوبِ وشَمِيم الأعْمَاق فَيُلْزمُكَ أنْ تَنْتَبهَ له ولا تَمُرّ دُونَ أنْ تَسْألَ عَن أحْوَال القَلْب ونَعِيم العَقْل وبَقَايَا الحَيَاةِ فِيكَ ... فكانَ التَّمَرُّد على وَاجم المُعْتَادِ والنَّفَاذِ إلى بَاطِن الوجْدَان وإفْشَال كلّ عَقْل إقْتَنَعَ بمَسِير مَحْو يَكُونُ آخِره لَيْلٌ مُدقعٌ بعِبْءِ الجُمُودِ وكَاسِر الغَثَيَان ...
وكأنِّي به يَقُولُ لنا ...
أنا أ ُنْبئُكُمْ عن تَقَاعُدِ التُّفاح مِنْ صَيْرُورَةِ ذاتهَا ... أنا أ ُنْبئُكُمْ عن مَاءٍ طَاعِن في الحُبِّ ... أنا أ ُنْبئُكُمْ عَن تَعَاطُفِ حََيْوَنة التُّرَابِ مع كُرُومِهَا ...
أنا أ ُنْبئُكُمْ عن صَحْرَاء الوُجُودِ قَبْلَ أنْ تُعْربَ عن أسَفِهَا ... وتُوقِظ فِيكُمْ الجُمُوحَ أو جَمْرَكُمْ المُبَقَّع أو المُقَمَّط بأمْر رُشْدِهَا ...
كَأنِّي بالمسعدي الآنَ يَقُولُ لنا ...
" هَذا صُبَّارٌ لِلْمَاء ولنْ تُفْلِحَ إنْ أرَدْتَ المَسْكَ بأنْدَائِهِ ...
وهَذهِ قَانِيَّة مُبْصِرَة مِنْ أحْلام طُفُولَتِهَا تَمْرَحُ وتُسَرِّحُ شَعْرَ جَدَاولهَا على مَقْعَدٍ مِنْ حَرير فَيَّاض في قَلْبِ سُلالَتِهَا ...
وهَذهِ شَمْسِي تَجيءُ مُتَأخِّرة عَن قَلْبهَا ... !!! مَنْ عَلَّمَهَا أنْ تُضِيء خَارجي ... ومَنْ سَانَدَهَا على إتِّقَاء مُهْجَتِي ... ؟؟؟
أنَا سَأ ُودِّعُنِي اللَّحْظة عَلَّنِي أجدُنِي دَاخِلَ مَلْهَاة هَوَاجسِي أو عَلَّنِي أمُوتُ قَبْلِي وأنَا وَحِيدٌ في رمَال الفُؤادِ ...
سَأ ُمْسِكُ بي الآنَ كَيّ لا تَضِيعَ مِنِّي نَفْسِي فَأنَا حِينَ خَرَجْتُ مِنْ مَبَادِىء الرُّوح تَنَعَّمَ وفَرحَ وتَنَغَّمَ فِِيَّ قَبَس المَكَان ... "
لا أقُولُ هذا رَسْمٌ على المَاءِ ...
بَلْ أقُولُ هو حَفْرُ ضَفَائِر المَاء ... وهذا هو " المسعدي " إنْ أرَدْتَ أنْ تَعْرفَهُ ...
إنَّهُ مُبْدِع إنْتَبَهَ لِخَلَل في مَزَايَا نَوَافِذِ الكَلِمَات ، فَأخَذ بأيَادِي مَغَانِيهَا لِتَتَسَنَّى لنا رُؤيَتهَا مِنْ بَعِيد ...
مُبْدِع يُشَاكِسُنَا في عُقْر قُلُوبنَا ومَصَابيح عُقُولنَا ولا يَتْعَبُ بَلْ يُوَاصِلُ فَيَبْنِي لنَا أحْجَارًا تَفْهَمُ عِزَّ الذهَابِ إلى تَوَتُّر الأشْيَاء فَتُغْدِقُ عَلَيْنَا شُمُوسًا تَصِلُ إلى كَيْفِيَّةِ نَفْسهَا قَبْلَهَا ... وتُضِيءُ حُسْنهَا بلَمْسِهَا ...
مُبْدِع رَائِدٌ وفَيْلسُوفٌ نَوَّرَ خَارطة هَدِيل عَقْلِه وحَرَّكَ حَافِلَ شُمُولِيَّتِهِ ووَحَّدَ تَبَاعُدَ المَرْجَان بأفْلاذِ تَقَشُّر الوَصَايَا والنَّجَمَاتْ ... غَامَرَ فَأجَادَ لازَوَردَ المُغَامَرة وكَتَبَ فَإنْسَاقَتْ لهُ تَحَايَا الكَلِمَات وجَاءَتْهُ تَوقُّعَات السُّهُول والصُّوَر طَائِعَة فَأحْدَثَ كَونَهُ الجَمِيل وقَالَ أ ُدْخُلُوا لو إسْتَطَعْتُمْ ... ومَا أجْمَلَ أنْ تُحَاولَ مَسْكَ حُلْم يَعْتَلِيكَ ويَعْتَريكَ رَذاذهُ عَسَلا مُزَوّقًا بالحُرِّ والقَسْطَلْ ... !!!
لَقَدْ ظُلِمَ " المسعدي " حِين أ ُتُّهِمَ بالإقَامَةِ في مَجَاهِل الوُجُودِيَّةِ العَبَثِيَّةِ وهو الذِي أتَمَّ حِفْظ القُرآن قَبْلَ بَدْء تَعْلِيمهِ الإبْتِدائيّ .. فَكَيْفَ يُتَّهَمُ مَنْ حَفِظ القُرآن وجَالَ في تَمَام نَفَائِسِهِ بغَيَاهِبِ الوُجُودِيّة العَبَثِيّة ؟
وهَلْ مِن السَّهْل أنْ يَكُونَ المُفَكِّرُ العَربيّ المُسْلِم على نَحْو مِنَ الشُّرُودِ والتَّمَرئِي خَارجَ بُنُودِ الذاتِ وتَدَلُّل الإنْسِيَاق إلى مَرَاتِيج الإنْغِلاق الحَبيس بنَاطِرَاتِ الخَلْط والتِّيه ؟
ولِمَنْ عَابَ على " المسعدي " أ ُسْلُوبَهُ أو مَنْهَجَهُ أو بَيَانهُ ، أقُولُ أنَّ السَّدِيدَ وشَامِخَ الوُجُودِ أنْ يَكُونَ الوَاحِد فِينَا مُوَرَّدَ التَّفَكُّر والكِتابَة ولو كان مَبْحُوحَ الطّوَى والتَّصَيُّف ، أمَّا تَرَدّم الأشْيَاء وتَرهُّل تَلَمُّظهَا فهو حَقيقة الضَّيَاعات التي تُعْلِنُ عَنْ شَفِيفِ حَلِيبهَا ...
وفي هذا أقُولْ ...
رَجُلٌ يَتْعَبُ ... ويَكْتُبُ ...
ورَجُلٌ يَتْعَبُ ... ولا يَكْتُبُ ...
ورَجُلٌ لا يَتْعَبُ ... ولا يَكْتُبُ ...
فَيَا حَبَّذا لَو نَتْعَبُ ... ونَكْتُبُ ...
أقُولُ رَحِمَ الله " المسعدي " الذي حَثَّنَا على التَّفْكِير والتَّفَكُّر والتَّدبُّر وأخْلَصَ لنا نَبَاريس أعْمَالِهِ فَجَعَلَنَا في كلِّ مَرّة نَلِجُ عَالَمَهُ ونَتَنَاولُ حَبَّات نشاطاتهِ إلاَّ وكانت الأسْئلة سَيِّدة المَكَان وقُمْصَان الذاكِرة وخَلاص قِيعَان المَاء والسَّادِرة التي لا تَكُون أبَدًا عَاطِلَة ... عَن الحَيَاة ْ... !!!
... / ...
* هوامش:
محمود المسعدي ( 23 جانفي 1911 16 ديسمبر 2004 ) .
* حياته في سطور:
كاتب ومفكِّر تونسي ولد بولاية نابل ( تونس ).
درس وأتمّ حفظ القرآن قبل أن يلتحق بمرحلة التّعليم الإبتدائي . في العام 1933 أتمّ دراسته الثّانويّة بالمعهد الصّادقي بتونس مُلتحقا في العام ذاته بكليّة الآداب بجامعة السّربون ليتخرّج منها سنة 1936 . بدأ حياته العمليّة بالتّدريس الجامعي في كلّ من تونس وفرنسا .
إلى جانب التّدريس الجامعي إنخرط المسعدي في الحياة السّياسيّة حيث كان مناضلا ضدّ الإستعمار الفرنسي ولعب دورا كبيرا في شؤون التّعليم بالبلاد التّونسيّة حينذاك.
أمّا بعد الإستقلال وفي سنة 1956 تولّى وزارة التّربية القوميّة التّونسيّة حيث أ ُقِرّت في عهده مجانيّة التّعليم لكلّ التّونسيين وأ ُسِّست الجامعة التّونسيّة .
وفي سنة 1976 تولّى وزارة الشّؤون الثّقافيّة التّونسيّة ليُنهي مشواره السِّياسي كرئيس لمجلس النّواب .
إضافة إلى كلّ هذه المسؤوليّات فَلَمْ ينس المسعدي نشاطه الثّقافي ، حيث أشرف عام 1944 على مجلّة " المباحث " كما أشرف في العام 1975 على مجلّة " الحياة الثّقافيّة التّونسيّة " إلى جانب ما كان له من حراك وافر في منظّمتيّ اليونسكو والأليكسو ومجمع اللّغة العربيّة في الأردن .
* مؤلّفاته :
" حَدَّثَ أبو هريرة قال ": ( سنة 1939 ليُعاد طبعه كاملا سنة 1973 . تُرجم إلى الألمانيّة سنة 2009 ) .
" السدّ " : ( سنة 1940 ليُعاد طبعه كاملا سنة 1955 . تُرجم إلى الألمانيّة سنة 2007 ) .
" مولد النسيان ": ( نُشر سنة 1945 وتُرجم إلى الفرنسيّة سنة 1993 والهولنديّة سنة 1995 والألمانيّة سنة 2008 ) .
" من أيّام عمران " .
" تأصيلا لكيان ": جُمعتْ فيه كلّ متفرقات كتاباته الأدبيّة والفكريّة طوال حياته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.