أعرف أن الدكتورة مني مينا ستعاتبني عندما تقرأ هذه الكلمات لأنها شديدة التواضع والتجرد والحياء والبساطة أيضا, لكن فوزها بمقعد في مجلس النقابة العامة للأطباء وبأكثر من 14 ألف صوت, بعد نحو 20 عاما من وضع النقابة في ثلاجة تحالف النقيب الوطني ومجلس الإخوان بفضل القانون 100 غير الدستور وغير الديمقراطي, يعد في رأيي واحدا من الأحداث المهمة لثورة 25 يناير. بل والمبهجة أيضا عندما تتوالي الوقائع الدامية الحزينة علي خلفيات سلطوية وطائفية بغيضة من أطفيح وإمبابة الي ما ريناب أسوان وماسبيرو. أول مرة تعرفت فيها بالدكتورة مني لم تكن في عيادة خاصة تعجز غالبية المصريين عن دفع الفزيتا أو في منتدي سياسي أو ثقافي يضج بثرثرات مثقفي الصالونات أو بمقر حزب معارض كسيح يختنق بندرة الهواء والضوء بين جدران بلا نوافذ, بل كانت في الشارع في مظاهرات التضامن من أجل شعوب فلسطين ولبنان والعراق, تلك المظاهرات المحاصرة دوما بجحافل أمن نظام مبارك ومعها عرفت ابنتها الجميلة الرائعة تكبر معنا عاما بعد عام ومظاهرة تلو أخري, ولاحقا مع مولد حركة كفاية في نهاية عام 2004 كانت الأم وإبنتها حاضرتين في قول كلمة حق في وجه سلطان جائر علي الملأ وفي الشارع وفي مواجهة كل أشكال القمع الأمني. وعرفت وجه الإنسان الطبيب أكثر في حافلة أقلتنا صيف عام 2006 بإتجاه مقابر السادس من أكتوبر لوداع قديس اليسار والحركة الوطنية المحامي نبيل الهلالي, وذلك حين أصاب الأعياء أحد رفاق الرحلة, وقتها ربما وجدت الإجابة علي السؤال: لماذا هي مختلفة عن بقايا يسار إنخرط في لعبة التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني, أو في خدمة الرئيس الأبدي أو الإبن الوريث أو الست الهانم في مجلسها لحقوق المرأة, أو حتي في الإلتحاق بمؤسسات ثقافية رسمية عملت كآلة دعاية غبية, استهدفت إسلاميين علي قاعدة التنكر لحقوق الإنسان والمواطن, وأسهمت في استفحال التصحر السياسي والإنحطاط الفكري والفشل الحضاري,وفي كل ذلك كانت هذه البقايا عكس قيم اليسار وأفكاره وحضوره بين الناس وتراثه الديمقراطي والوطني المؤمن بالإنسان. عرفت فيها المناضلة قليلة الكلام متوقدة الذهن, عرفت الإيجابية المبادرة نحو كل عمل مؤثر من أجل حقوق زملائها الأطباء ومواطنيها معا, وذلك حين تزاملنا في عضوية لجنة الحق في الصحة التي أخذت علي عاتقها الدفاع عن حق المصريين في تأمين طبي كفء وفعال وفي متناول الفقراء والكادحين وأبناء الطبقة الوسطي, وفي كل مرة تكلمت فعلت,وقدمت نموذجا بسيطا ساحرا في الربط الذكي بين هموم ومعاناة غالبية الأطباء وسعيهم لأجر عادل كريم وبين حق مواطنيها في رعاية صحية مجانية أو شبه مجانية, ولذا كانت حاضرة في نضالات حركة أطباء بلا حقوق بمقر نقابتها دار الحكمة وأمام مستشفيات وزارة الصحة التي تعمل بها وكذا التأمين الصحي, كما كانت حاضرة في قاعات محاكم القضاء الإداري التي أصدرت حكما تاريخيا ضد تحرك حكومات مبارك لسرقة ما تبقي من حق المصريين في تأمين صحي عام بالمخالفة للدستور والقانون. وأزددت معرفة بالدكتورة مني في أيام ثورة 25 يناير بميدان التحرير, وقتها لم تكن هناك أي فرصة لتجاذب أطراف الحديث عن الأحوال العامة أو الأولاد, فقد كانت الطبيبة شديدة الإنشغال برعاية المصابين والجرحي تنتقل بين المستشفيات الميدانية في جنبات التحرير وبين المستوصف التابع لمسجد في خلفية الميدان, تقدم خبرة السنين لزملاء مهنة ورفاق رسالة من شباب الأطباء بكل حب وتواضع, وربما بفضل هذه الأيام القريبة تشكلت القوائم الإنتخابية لائتلاف شباب أطباء التحرير وحركة أطباء بلا حقوق التي تولت مسئولية منسقها العام وأساتذة الطب في حركة9مارس لإستقلال الجامعة, وهي القوائم التي أسهمت في كسر إحتكار تحالف الإخوان والحزب الوطني لمجالس نقابة الأطباء ولمناصب النقباء. لا أستشعر قلقا علي وحدة نقابة الأطباء مع مني مينا لأنها مؤهلة وقادرة مع زملائها في تيار الإستقلال علي الاختلاف والصراع من دون صدام وإنفجارات مع منهج الأغلبية الإخوانية المثقل بالحسابات السياسية لقيادة الجماعة والمشدود الي تربية تقليدية محافظة تفتقد ثقافة الضفط والتفاوض من أجل إنتزاع الحقوق النقابية والمهنية. ولأنها ستجد حتما وبالممارسة والتفاعل بين صفوف الأعضاء الاخوان أناسا صادقين مخلصين علي استعداد لكل تفهم وتعاون. ولا أجد وصفا لانتخاب الدكتورة مني مينا لمجلس النقابة العامة للأطباء في زمن المخاض الصعب العسير والدامي بعد ثورة 25 يناير إلا إنها بشارة تغيير آت. البشارة بأن مصر ستكون للجميع بلا إقصاء أو تمييز نتيجة الأصول الإجتماعية الطبقية أو الدينية الطائفية أو بسبب الجنس أو حتي الإنتماء الفكري والسياسي, والبشارة بأن من ناضلوا بين صفوف شعبهم بطول سنوات الديكتاتورية والإفقار والتبعية والتطبيع سيتقدمون الي واجهة الأحداث. وربما يرفع عني عتبها أن أختتم بالقول أن هذا المقال لم يكن شخصيا أبدا لأن مني مينا لن تكون إستثناء بأي حال وكلنا ثقة في أن هذا البلد الولاد العديد من الدكتورة مني. المزيد من مقالات كارم يحيى