ما الذي كان ينتويه وقد طار بعيدا, مهاجرا من زمان ضاق, واستحكمت نوائبه السود, فما عاد بصيص من حكمة أو هداية؟ ما الذي ينتوي؟ سؤال طواه بين جنبيه, هازئا بالحكاية. ليس يدري وخطوه يسبق الحلم سبيلا لحظة أو نهاية, عاقدا عزمه علي ترك هذي الأرض, ما عاد ماؤها يسعف القلب, ولا ناسها عدولا كما كانوا, ولا من أحبها ذات يوم واضعا عمره جوار لياليها, وفي حضنها, سبيلا لما يبقي, فهذي تشده حين تبقيه, شتيتا, موزعا دون غاية! اعقد الأمر, فالبعيد يناديك, وصوت البحار يجذبك الان, وومض الفنار يشغل عينيك, وفي الشاطئ البعيد المرجي, طيوف من فتنة وغواية. وطن صار خلفك الآن, فانظره مليا, فربما لاتراه بعد, وحدق, تلك أنواره تغيب, فلا يبقي سوي ضوء يتيم يقاوم الأفق المظلم, والصوت يخفت, ينداح, وما من يد تلوح عن بعد, ففكر فيما سيأتي, فهذي ساعة للخلاص جاءت, ولا عودة إلا متوجا بانتصاراتك فيها, ومثقلا بالغنائم. ما الذي يقدح الزناد؟ فهذا شرر في الضلوع, قبضة سكين, وشيء يلوب يعتصر النفس, وعين تعشي فلا يبصر القلب, وخطو علي السفينة يهتز, هو الموج؟ أم الخوف من زمان سيأتي؟ أنت شارد البال, هائم! أعبر البحر, امسك الريح, وأرفع علم النصر, قد نجوت, وأقلعت بعيدا, وتلك حورية حلمك, ميناؤها يطل, وعيناها تدوران بحثا عن القادم, هذا فتي الشرق, أتاها سيماؤه تستبيها ويداه تعانقان يديها, والسماوات باركت مشهد اللقيا, فلم يبق غير ما هو قادم. وصل الركب, والسفينة ألقت بالمراسي, أسرع, لا تنس ان تحمل الحلم, وبادر, فالأمر أسرع مما قد تخيلت دائما, لا يد باللقاء تمتد, لا وجه أنيس يطل نحوك, لاشيء توهمته, سيحدث والشاطئ خلو, والناس راحوا, فلم يبق دليل يقود خطوك أو وجه يضيء كونك, أو لحن يهز سمعك, أو دفء يلف قلبك, أو ظل يحوط خطوك, والدنيا كما تراها فضاء شاسع بارد, بلا أي رحمة. بعض ماء تريد؟ أم بعض كلام عربي, أم شيئا تقوله في رسالة؟ ولمن هذه الرسالة؟ هل خلفت في دارك البعيدة من ترجوه أو يرجوك حتي يكون صوتا تناجيه, وحضنا تأوي اليه اذا ضقت وأدركت ان عيشك خاو, والطريق طويل خوف وظلمة؟ لا تكن يائسا, غدا تشرق الشمس, ويأتيك ما سوف ينسيك, فلا تلتفت لما صار خلفك, واعبر حاجز الخوف والتردد, هذا مصيرك الآن في كفك غامر, وحقق الحلم, واثقب في الظلام الطويل كوة ضوء, وانفتح للحياة, وامنحها في كل صبح جديد طلة حلوة السمات, وبسمة. من رآه حكي لنا عن عذابات كفاح, وعن صراع مع القهر, وعن بعض نجاح يلقاه يوما فيوما, وعن شوق يعتاده وحنين للبلاد التي نمته صغيرا, ثم ضاقت به كبيرا, وألقته بعيدا يلقي غدا ومصيرا! واختفي لم يعد يري, أو يقول الرفاق عنه كثيرا أو قليلا, فصار ذكري وحلما لكثيرين مثله ينتوون الذي انتوي, وليكن ما يكون, فهو خير من ضجعة تشبه الموت, وعيش من البلي والسكون. كلنا يمتطي في غد حلمه ويغيب!