حتي من أطلق عليه هذه التسمية ذاب في هواء البلد وبقيت التسمية, بحثوا عن أول من أنطقها فلم يجدوه, قالوا لمن يبحث عنه لو وجدته لن تكتشف أنه يعرف ما وراءها, ولكنها صارت مثلا, غطت علي اسمه: إسماعيل أبو إسماعيل إسماعيل, سلسال إسماعيلات, ينطقونها في البلد سماعين, نظر سماعين حواليه, فلم يجد أحدا, الأولاد وتزوجوا, وأصبحت بلادهم هي بلاد نسوانهم وخلفتهم, والبنات جرين وراء رجالهن.. أولاد وبنات.. أحفاد وحفيدات. في الأعياد فقط تزدحم الحياة, لكن الريح تصفر حوله في داره التي بناها في قلب الحقل قبل تجريم البناء في الأرض الزراعية.. وحداني. سأل نفسه: هل يختلف الحال هنا عن هناك؟ سيزرع ويقلع.. يروي ويحرث.. يقلب باطن الأرض وينتظر خيرها.. ولكن لمن؟ لا أحد يجري عليه.. أصبح بزوره.. يقولون عنه في البلد القريب.. براوي. ثم إن سماعين سابقا صاحب مصر حاليا, باع القراريط التي ورثها أبا عن جد واشتري خيمة تسع أكثر من مائة إنسان, وابتاع أدوات الطبخ, حلل كبيرة من الألومنيوم, فالنحاس راحت عليه وعلي أيامه, وعدة عمل الشاي, أكبر من عدة الدار, وأصغر من عدة الدوار, والجوزة والمعسل والفحم, قال لنفسه: مالها الكوالح التي كانت تملأ سقف الدار؟ سافر إلي البندر وعاد ومعه عربة كارو, نص نص, لا هي صغيرة, وليست كبيرة, وبغل تعب حتي وجده, نتيجة تلاقح حصان وحماره, يتحمل المشاق, وليست له طلبات كثيرة. تعب كثيرا في تجهيز الكارو حتي تصبح بيته ومستقره فيها ينام, وتحتها يطهو طعامه, ويعد شايه, ويعمر جوزته, لم يفصح في البداية عما ينتويه, ثم أحضر حفيدته التي تقرأ وتكتب, وجلس يتذكر ويملي عليها, مولد سيدي السيد البدوي من كذا لكذا. كان يحاول إملاءها بالتقويم الهجري, لكن نظرا لصعوبة نطقه لأسماء الشهور, وتعب الحفيدة من كتابتها, عدل وراح يملي بالتواريخ الميلادية, مع أن التواريخ تدور في ذهنه لا بهذا ولا ذاك, لكن مسري وكياك وبرمودة, التي قضي عمره يزرع حقله علي أساسها, بل إن أسماء بعض هذه الشهور أصبحت أقرب للأمثال الشعبية, كأن يقول: كياك صباحك مساك.. أو برمودة دق بالعمودة. يراجع نفسه أحيانا, يتساءل: متي انخلعت قدمه من الأرض التي تحتها وأمسك بخياله مرض الحل والترحال, ربما مر وهو لا يدري علي عراب أسود فوق كوم سباخ موجود بحري البلد عند الحد الفاصل بين زحف البيوت علي الأراضي الزراعية, أو ما تبقي منها. في هذه اللحظة أمسك بفؤاده, مرض الهججان والطفشان, هكذا أصبح بلد تشيله وبلد تحطه, كان عقله يروح ويجيء. أتعب الحفيدة الصغيرة معه لأنه ما ان يتذكر مولدا حتي ينادي عليها, يرفع صوته عاليا, ما صدق أن تذكر ويخشي من علة النسيان, مع أن ذاكرة الفلاح قوية لدرجة أن الأفندية يقولون عنها: ذاكرة أفيال. أيام وليال, حتي اكتمل العام بالموالد, عرضت عليه حفيدته نهي أن تكتب له جدولا, تثبت فيه الموالد من أول يوم في السنة حتي آخرها, لم يتحمس, أولا لأنه لا يفك الخط, وثانيا لأن ما علي الورق قد نضيع أما ما دونه في عقل باله, لن يمحوه ولا عزرائيل قابض الأرواح ذات نفسه. وهكذا استبدل الرجل الذي كانوا يقولون عنه في البلدي قدم في القبر وأخري في الدنيا. الفلاحة التي لم تمكنه من أن يفلح بالدوران والجري وراء الموالد علي مدي العام, أصبحوا لا يرونه إلا من الحول للحول, يقول لمن يراه: يا هلتري تتلاقي الوجوه, أو لا يكمل جملته. يبدأ من أقرب الموالد, وتقوده الموالد من بلد إلي بلد, حكمة الله جل وعلا, كل مولد يسلمه لمولد, يقيس سكك البر شبرا شبرا, تناديه الموالد فيشرق, تهمس له فيغرب, يسمع هدير الذكر فيبحر, تصله التواشيح الدينية فيقبل, إنه البراح المصري يبدو بلا نهاية. كان يجلس في آخر النهار, وقبل أن يغوط الليل, بعد أداة صلاة العشاء يقول لمن يجالسه إن كل شبر في بر مصر داس عليه مرات لا يتذكرها, عشرات المرات؟! يحاول أن يتذكر ويقول ربما مئات المرات, ثم يريح نفسه متسائلا هو أن عقلي دفتر. بدأ صاحب مصر رحلته لوحده, اتضح له ضرورة وجود ولد يساعده, ثم وجد نفسه أمام امرأة وحدانية, جعلته يضع عينه في وسط رأسه, عندما ينام يغمض عينا, وتظل العين الأخري مفتوحة طوال الليل, تعب من سؤال نفسه: كيف يشغل معه من لا يعرف أصلهما وفصلهما؟! لا يستبعد أن يكون الولد أبن المرأة, خاف علي حياته, لكن الزحام الذي يتحرك فيه أعطاه إحساسا زائفا بالأمان. هنادي تطبخ وتقدم الطعام لزبائن الموالد, وتزرد الشاي وترص المعسل في الجوزة, والولد رمضان يساعده في تركيب الخيمة, وفرش الحصر, وشراء ما يلزم من خبز وخضار وأرز ولحوم من الأسواق القريبة من المولد. وصفهم الناس بأنهم من عابري السبيل, يدوس في الإسكندرية بيمناه وعندما يحرك يسراه تدوس علي أسوان, لكنه عندما ينام الزبائن خلف خلاف في الخيمة, يؤجل الأمر الذي يؤجله كل ليلة, لابد أن يعرف بلدها وبلده, هل يسألهما عن البطاقات؟ وهل مع أهل الله أوراق من الحكومة لو جري البحث عن الورقات لما وجدت إنسانا وحيدا في هذه الموالد.