في عام 2000 تأسس مركز المصطبة للموسيقي الشعبية المصرية.. الحديث عن مركز "المصطبة" يتطلب تناول سيرة الريس زكريا إبراهيم بشكل مباشر. حينما التقيت به في الشقة المخصصة للمركز بشارع مجلس الشعب بالسيدة زينب كان أول كلامه عن المركز حكايته هو عن السمسية، والتهجير، وآلات الموسيقي الشعبية. المركز كان ثمرة تولدت علي مدار سنوات من التنقيب عن أصول الموسيقي المصرية. نبش زكريا أرض القناة بحثاً عن فرق تفرقت ومطربين اعتزلوا. كان يفتش في المكان عن موسيقي تعزف في ذاكرته، الموسيقي التي كان يسمعها في بورسعيد قبل التهجير، أي كل ما كان يعزف قبل 1967. قبل الحرب كان زكريا، مواليد 1952، عضوا بفرقة تقدم التراث البورسعيدي "كنت أجيد الغناء والرقص..رقص البمبوطية". ذكريات عن حلقات جماعية للعزف والغناء والرقص، لم تعد موجودة عند العودة، وتعمير بورسعيد في الثمانينيات. عاد زكريا لبورسعيد مدفوعاً بالحنين للمكان والموسيقي..أغاني من تأليف إبراهيم الباني "تقدر تعتبره شاعر التهجير البورسعيدي..فترة التهجير قابلته، وسمعت أغانيه، كان هو الوحيد الذي استطاع التعبير عن وجع التهجير، والخروج من البلد.. عرف يجيبني ويمسك الوجع فعلاً". حينما عاد كانت المدينة تغيرت، الغناء لم يعد شعبياً، كان الصوت الأعلي للغناء التجاري، الغناء الهادف لجمع النقوط فقط. عايزين نعيدو التراث.. ونقوله من تاني الكلمات السابقة تنتمي إلي أحد أغاني فرقة الطنبورة، التي أسسها الريس زكريا عام 1988، ببورسعيد، لكن قصة تكوين الفرقة تعود إلي عام 1980.. في هذه الفترة كان زكريا يبحث عن مطربي السمسية ولا يجد أحداً. كأنهم اختفوا. لم يعد أحد يغني السمسمية، الجميع توقف، بعد ثمانية سنوات من البحث وجد عازفاً، هو محمد الشناوي، وحده لم يكن محبطاً. كان الشناوي الوحيد الذي اقتنع بالطريق الثالث، بعيدا عن الغناء التجاري وكذلك قصور الثقافة. كانت الفكرة أن يستمع شباب جديد متحمس لتراث الأغاني من أفواه القدامي، لينتقل التراث، وكذلك ليتم تطويره. كان الشباب يستمعون للاغاني ويعيدون توزيعها، وتطويرها. جلسة سماع وغناء، موعد منتظم، لقاء أسبوعي لأعضاء الفرقة، هكذا تكونت أول فرقة. في عام 1994 توالت الفرق، فرقة في الإسماعيلية، وأخري من السويس. "أردت أن أوسع دائرة إحياء التراث.. ألا يكون خاص ببورسعيد فقط.." يقول زكريا. الفرقتان قامتا علي الخلطة نفسها: مطربون وعازفون قدامي وشباب جدد في لقاء أسبوعي منتظم. كان الدينامو لفرقة الإسماعيلية الريس محمد الوزيري "كان معتزلاً.. لكنه كان يحفظ تراث محافظة الإسماعيلية". حكي الوزيري لزكريا كثيراً عن السودانيين، كان كلام الوزيري خاصاً بالزار السوداني، طقوس الزار وأنغامه وآلاته.. الطنبورة، الرنجو، والمانجور (حزام تتدلي منه حوافر الحيوانات، يربط علي الوسط يصنع العازف من خلال رقصه وحركته الإيقاع) وطبلة "التوزا". لكن زكريا كان يستمع لحكايات الوزيري عن الزار بشكل مختلف، كان يري أن هذه الآلات الخاصة بطقس الزار يمكن توظيقها في الموسيقي بعيداً عن الطقس الخرافي. في هذا الوقت كان الريس زكريا قد مل الإيقاع الثابت لآلة السمسمية، "كنت أفكر في كيفية تطويرها.. نغمة السمسمية معدنية، حادة، تحتاج إلي نغمة مختلفة تسندها".. هكذا حضر زكريا الزار السوداني. شاهد الطقس المرتبط بظهور الطنبورة، في دقة الزار، كانت توضع في كيس، أو جلباب، وحينما تكشف يتم إطلاق البخور فوراً." كان عازفو "الدقة" يحيطونها بقدسية شديدة لأنها الآلة التي تجلب الأسياد إلي الزار!". كلام الوزيري وأنغام الطنبورة جذبا زكريا، هكذا وجد عازف السمسمية أن النغمة المفقودة قد حضرت.. انتظم لمدة عام في حضور دقات الزار، طوال عام يحضر، حتي استطاع -أخيرا- الحصول علي الآلة..هكذا وجدت السمسية أختها في العزف، وتحول اسم فرقة السمسية إلي فرقة الطنبورة..
يُحكي عن إبراهيم باشا نجل محمد علي أنه جلب رقيقاً سودانيين إلي مصر، ليدخلوا الجيش، مما عرف بجيش الرقيق، وكذلك ليعملوا في جمع القطن.. لكن السودانيون هربوا إلي مصر ما هو أهم..آلاتاً موسيقية، لكن ما جذب زكريا لهذا التراث ما حكاه الوزيري عن أنغام، وموسيقي، حي "عريشية العبيد" بالإسماعيلية، المُخصص للسودانيين، الذين كانوا فترة إنشاء الإسماعيلية عبيداً. حينما زار المكان لم يجد هناك عازفي الزار، ولا الآلات لكنه سمع عن عازف الرانجو الأخير. كان آخر عازف مشهور هو عباس مستورة، توفي حينما بدأ الريس زكريا رحلة البحث عن آلات الزار الشعبية السودانية، لكنه وجد بالصدفة من يعرف العازف الأخير علي قيد الحياة، وهو حسن برجمون. في عام 1996 التقي ببرجمون لأول مرة، كان الرجل قد توقف عن العزف، "آخر مرة عزف علي الآلة كانت قبل التهجير". لم يجد زكريا من يملك الآلة، لهذا بدأ رحلة البحث عن الآلة." حكاية البحث عن الآلة طويلة، زرنا بيوت المعلمين الراحلين في الزار السواني، سألنا أولادهم عن الآلات وأخيراً تمكنا من الحصول علي واحدة". من خلال زيارة بيوت السودانيين استطاع أن يجمع آلات الزار السوداني كلها..هكذا تمكن من تأسيس فرقة رابعة..فرقة "الرانجو" كان المشروع كله محاولة للحفاظ علي التراث البورسعيدي توسعت لتطوير آلات السمسية، وإدخال آلات جديدة.. حتي وجد نفسه يدير، فجأة، 11 فرقة تتنوع بين السويس وبورسعيد والإسماعيليةوالسويس، وأخيراً الجركن لموسيقي البدو، تأسست عام 2003. الفرقة لم يمسها زكريا، ألف لهم أغنية واحدة، وهم لحنوها، الفرقة التي تتخذ من الجركن عنواناً لها، تتخذ منه آلة موسيقية رئيسية أيضاً، يدق العازفين علي الجركن، كما يستخدموا الصناديق الحديدية لذخائر الرصاص كوسيلة لصنع الإيقاع. حاول زكريا في البداية أن يلحن لهم، لكنه فضل ان يقدموا موسيقاهم كما يحبونها. أعضاء الفرقة من منطقة أبو حصين بصحراء سيناء، تبعد 30 كيلومتراً عن العريش. يقول مطرب ومؤسس الفرقة أن الموسيقي البدوية تسمي الهجين، لأن البدو ألفوه وهم يركبون علي ظهر الجمال/ الهجن، وحسب إيقاع خطو الجمال تولد إيقاع هذه الموسيقي، وهكذا تم اكتشاف الآلات من البيئة، جركن، صندوق ذخيرة.. لكل هذا ترك زكريا موسيقي "الجركن" دون تدخل من جانبه لتكون كما نشأت في الصحراء. كما صنع زكريا من كل آلة ثلاثة أحجام، مثل الفيولينا والكونترباص والهارب، هناك ثلاثة أحجام من الطنبورة والسمسيمة في الفرق التابعة لمركز المصطبة.