سأسميه ديدي.. إنه اسم غير لائق، ولكن الاسم الذي تستخدمه أسرته في تدليله غير لائق أيضًا. توجد أماكن تحافظ علي طراز معين بعد تلاشيه من أي مكان آخر، رواسب عادة تخلفها إمبراطوريات تتراجع. جيوب صغيرة للإمبراطورية الأسترو هنجارية في شرق أوروبا، أو للإمبراطورية العثمانية في اليونان. تبدو لي مصر - أو بالأحري طبقته داخلها- واحدة من تلك الجيوب. هي تحافظ علي بعض ملامح إنجلترا في العهد الإدواردي . إحدي تلك الملامح هي أسماء التدليل: دودو، فيدو، فيفي، بوسي. وهو يقول إنهم ما زالوا يلعبون الكروكيه في حدائق نادي الجزيرة. لم أزر مصر أبدًا، ولم أقابل سوي القليل من أقاربه. لا أعرف عن عائلته إلا ما قاله هو أو أقاربه لي، أو ما خمنته أنا، ولكن عندما يدفع الحنين شخصًا ما إلي صنع أسطورة من عائلته، فإن هذا النتاج في ذاته له دلالة. إنهم ملّاك أراضٍ، وهم بالتالي في موقع غير مرضٍ لنظام ناصر. أُخذَت منهم الممتلكات التي صنعوا منها ثرواتهم - أو من المفترض أنها أُخذت منهم. هناك فارق كبير بين خال ما زال يعيش قريبًا من الأرض في الصعيد، وبين من يعيشون في القاهرة أو الإسكندرية. عندما تحدثت عن الذهاب إلي مصر، ورغبتي في زيارة بعض أفراد العائلة، قال ديدي: "إيه! الخالات لن يسمحن لكِ أن تقابليه، ستكنّ حريصات جدًّا جدًّا في اختيار من سيسمحن لكِ بمقابلته." لقد أصبح وضع العائلة غير مستقر، ولكنهم كانوا متعايشين وناجحين في ذلك إلي حد مدهش، أو هكذا كان يبدو الأمر لمن يراه من الخارج. قالت إحدي خالات ديدي، وهي تتحدث عن التسوق في روما: "يا عزيزتي لم يعد المرء يستطيع. الأسعار رهيبة. من المستحيل إيجاد شيء يصلح للارتداء بأقل من 150 جنيهًا استرلينيًا." هناك أطباء ومحامون وأساتذة جامعة في العائلة، ويتم تقديمهم دائمًا علي أنهم مميزون بشكل ما. "كانت أمي وأخواتها جميلات جدًّا ولماحات"، "كان أبي أفضل طبيب في مصر"، " العم فلان كان مدمنًا علي الكحول من عمر السابعة عشرة"، "كان العم فلان أكثر شخص لماح في العالم، ولكنه كان مجنونًا. لقد أطلق النار علي نفسه." وفي شرح المعلومة الأخيرة قال أحد أبناء خالات ديدي: "لقد كان أحد أجدادنا مصابًا بالزهري، لذا فنحن مجانين عادةً". إذا كان ديدي يتذكر الجاذبية أو اللماحية أو الأناقة أو الذكاء، فإنه كان يفعل ذلك ببعض من الرثاء الوقور . فظائع يتذكرها ببريق متلذ . جداه لأمه مهمان، ولا يجري الحديث عنهما بدون بريق سعادة ومحبة في عينيه. إنهما يمثلان الحكمة والفضيلة والعطاء بالشكل المتأصل في البلاد. كان لديهما بيت كبير مليء بالأخوال والخالات وأولادهم، وهو المكان الذي قضي ديدي فيه طفولته المبكرة، "حيث كانت المهمة الوحيد للجميع هي أن يكونوا سعداء ويضحكون. كنا نضحك كثيرًا في ذلك البيت". كانوا يتقيؤون أيضًا. "لقد كان ذلك تخصصًا في عائلتنا، عندما نقع في الحب كان ذلك عضويًا، كنا نتقيأ. كان الجميع في حالة حب في بيت جديّ - كل أبناء الأخوال والخالات - لذا كان هناك دائمًا شخص ما يتقيأ. عندما كنت في السادسة كنت أحب ابنة خالي كيكي - كانت تكبرني بثمان سنوات، ولكنه كان حبًا حقيقيًا. في أحد الأيام عندما كنت وحدي في الحديقة، تقيأت قليلاً بشكل محزن، ورأتني فقالت: "إذن أنت تحبني فعلاً!" إنها عائلة تعبر عن مشاعرها بأشكال عنيفة أخري. كانت "المشاجرات الكبيرة الرهيبة" متكررة. المشاعر القوية تبررها قوتها. عندما قابلت ديدي لأول مرة، كنت معجبة بسيطرته علي نفسه، والطريقة المترفعة التي تحمّل بها الصعوبات المكئبة للنفي إلي ألمانيا، ولكني عرفت بالتدريج أن سيطرته تلك حيلة لحفظ توازنه. إنه يعجب بالسيطرة علي الذات، ولكنه في الحقيقة يستسلم لقوة الجاذبية بارتياح لا ينقصه التصميم. تعتقد العائلة أنها تمتلك سخاءً مهولاً في المشاعر. من أعرفهم جيدًا بعد ديدي، هما أم وابنها (دوللي وميمي). ميمي كان طالبًا في إنجلترا، وأتت والدته لقضاء الصيف معه؛ لأنه كان "يقتلها" أن تكون بدونه، مع أنه كان يعود إلي الوطن في الإجازات. أجّرت دوللي شقة مفروشة، وأتي ديدي من ألمانيا كي ينضم لهما لعدة أسابيع.. جزيرة وسط منفاه الذي كان مستمرًا منذ خمس سنوات. في الأغلب كانت كلمة "الحب" من أكثر الكلمات المستخدمة في تلك الشقة. وبغض النظر عن كونهم يتحدثون مع بعضهم البعض، أو عن بعضهم البعض، كانوا دائمًا ما يعلنون جميعًا حبهم. كان ذلك هو الوقت الذي قابلت فيه ديدي لأول مرة، ولكني كنت بالطبع قد تبادلت المراسلات معه حول كتابه. عندما اتصلت به للمرة الأولي في شقة دوللي، أجابت ببحتها الفرنسية الجميلة، ورحبت بي فورًا.. "من فضلك يجب أن تأتي سريعًا، سأطبخ لك وجبة مصرية. يجب أن تقضي نهاية الأسبوع معنا. نحن نحب كل أصدقاء ديدي." لذا ذهبت إلي هناك في إحدي عطلات نهاية الأسبوع لتناول الغذاء. ومن الطريقة التي تناولت بها دوللي يدي في يديها الاثنتين، أدركت فورًا أننا سنتبادل القبلات عندما نفترق. لقد أعدت وجبة معقدة ورفيعة الذوق، وأدهشتني مهارتها؛ لأنه بدا أن لديها خدمًا في منزلها، مهما كانت ثروتها متناقصة. "هل تطبخ خالتك عندما تكون في بيتها؟" سألت ديدي عندما كانت خارج الغرفة. "يا إلهي لا. لا أظن أنها حتي تدخل المطبخ." سألتها عندما عادت كيف تفعل ذلك. "إنها وراثة يا عزيزتي.. الوراثة. أمي - هل تذكر يا حبيبي؟ - كانت تقيم مائدة رائعة. كانت تعلم كيف يجب صنع كل شيء بالتحديد. المسألة فقط أن تعرف كيف يجب أن تكون الأمور." كانت ساحرة بوجهها المرهق قليلاً، وشعرها جيد التصفيف وقوامها الجميل. ترتدي تنورة من صوف التويد، وكنزة من الكشمير متناسقة تمامًا. كانت لها طريقة ما في التألق عند ذكر الأسماء.. "أعبدها - يا لها من ساحرة. لها طبع رائع!". كنت أعرف هذا الأسلوب، لقد رأيته في السيدات الإنجليزيات اللاتي تنحدرن من عائلات كبيرة وثروات ضخمة، وهو لا يمنع أية تقييمات خبيثة أو أحكام لاذعة، ولكنها مسألة "ذوق جيد"، ينبع ربما من الفترة نفسها التي أتت منها أسماء التدليل. ما تعنيه تحديدًا هو "نحن نملك أن نكون كرماء وساحرين في ردود أفعالنا اتجاه الأشخاص، كما نملك ذلك حيال أي شيء آخر." إنه نثر للفخامة. دوللي كانت فعلاً كريمة وساحرة. لم يكن هناك شيء يقال سوي: "أحب خالتك". لقد تجاوزت في كرم ضيافتها هذا الأسلوب المنطلق. كانت يمكن أن تتقاسم غرفة نومها أو حتي سريرها نفسه، حتي يمكن لميمي أو ديدي أن يستضيفا أصدقاءهما، وكان من المستحيل الاقتراب من غسل الصحون. كانت صورتها عن نفسها كشخصية كريمة ومحبة غير بعيدة عن الحقيقة، ولكن كان بإمكانها - كما علمت لاحقًا - أن تتراجع عن المثاليات التي تعكسها هذه التصرفات. كان العديد من أصدقائها الإنجليز ذوي أصول عريقة، وكانت تعتقد حقًا أنها تحبهم لشدة عطفهم، أو طيبتهم، أو خفة ظلهم، أو كرمهم. ولكن تلك الصفات كانت ستنال احتفاءً سطحيًا إن كانو أقل ثراءً او أدني اجتماعيًا. كانت تستمتع بفخامتهم في حد ذاتها، وللدقة.. كانت ترتاح إليها... (هكذا يجب علي الناس أن يكونوا)، وظلوا أصدقاءها حتي في تلك الأيام الرهيبة عندما "هو مستحيل كما تعلمين، لم يعد لدينا شيء. لم نعد نستطيع أن نأتي بقرش من الفلاحين." هرب منها هذا التعليق الأخير عندما دعت أشخاصًا يشبهونها علي بعض المشروبات. نظرت حولها بإحساس بالذنب؛ لتتأكد أن ابنها وابن أختها لم يسمعاها، لعلمها أنهما كانا سيصابان بالقرف من تلك العبارة. كانت دوللي تتحدث الإنجليزية بطلاقة، ولكن الفرنسية كانت أكثر طبيعية بالنسبة لها. كانت جميع نساء العائلة يتعلمن في مدارس الإرساليات الفرنسية، والرجال في المدارس الإنجليزية. كانوا يندفعون في الحديث بالعربية أحيانًا في المداعبات العائلية، أو المشاجرات، ولكنهم يقولون لي إنهم يتحدثونها بشكل سيئ. كانت هناك مقاطع بالعربية، عندما كنا نخطط لغش شركة التأمين. كان ديدي يملك سيارة فولكس فاجن صغيرة وشديدة القدم. بعد وصوله بفترة قصيرة اصطدم بها شخص ما، وكان يجب إصلاحها، ما سيستغرق ثلاثة أسابيع. من حسن الحظ أن التأمين كان مدفوعًا، ولذا لم تكن كارثة كبيرة، بل ربما كانت ضربة حظ، فقد كانوا يحتاجون للنقود. تمكن ديدي من تدبير أدني مبلغ يكفي لرحلته. أما دوللي، فما استطاعت أن تخرجه من مصر (كان علي تصدير العملة محاذير كثيرة) كانت تصرفه ببذخ واستهتار.. كانوا يصنعون من مصاعبهم المالية كوميديا سوداء، بنفس التكرار الذي كانوا يتكلمون به عن الحب. لم يستغرقوا أي وقت في رؤية الخطوة التالية. كان ديدي يحتاج إلي سيارة، وكانت الحادثة ستجبره علي تأجير سيارة أخري، وكان علي شركة التأمين أن تدفع. أين هو الصديق الذي يملك سيارة، ومستعد أن يقول إنه قد أجرها لديدي، وأن يعطيه إيصالاً يمكن تقديمه لشركة التأمين بمبلغ ... كم؟ 30 جنيهًا استرلينيًا؟ هراء؛ فلمدة ثلاثة أسابيع سيكون المبلغ أكبر من ذلك، ماذا عن 50 جنيهًا استرلينيًا؟ نعم، ولكن ما هو معدل إيجار السيارات هذه الأيام؟ لن يجدي طلب مبلغ يبدو غير منطقي. "كما ترين.. لو أجر ديدي سيارة فعليًا، فسيكون علي شركة التأمين أن تدفع" كانت دوللي تشرح لي بين علامات تنصيص وهي متوترة من "إنجليزيتي". كان ذلك حقيقيًا، وإلا لم تكن شركة التأمين لتقبل بصدق الفاتورة التي ألفتها وطبعتها. كنت أحب في دوللي الجانب الذي كان علي استعداد فوري للقبول بتلك الخطة، يسمونه في مصر "الحداقة".. صفات القوة والخبث عند المهزوم، وهو يفرح بأنه ينال من المنتصر، وهي صفة محفورة في الشعوب المستعمرة، لدرجة أن نذرًا منها تبقي حتي في الأرستقراطيين من أبناء هذه الشعوب. من الصعب رؤيتها كفضيلة (إلا لكونها تساعد علي التحمل)، ولكنها مسلية. وقد رأيت أنها صفة مثيرة للتعاطف، وكذلك كانت قوة اقتناع دوللي بأي شعور تقوم بالتعبير عنه. لم يكن ممكنًا ألا تشعر اتجاهها بالحب، وقد بقي ذلك حقيقيًا، حتي بعد أن صدمت بالطريقة التي كانت أفعالها تخذل إعلاناتها السخية عن الحب. عندما كانت عائدة إلي مصر، ذهب ديدي إلي المحطة ليودعها، وأتي فيما بعد إلي شقتي مضطربًا. أدركت فورًا أن شيئًا ما خطأ قد حدث، ولكني استغرقت بعض الوقت، قبل التمكن من استخراج ذلك منه. ظهر أن دوللي كانت قد وعدته بأن تترك له بعض النقود، وهي تعلم أنه لم يعد يملك شيئًا، ولا حتي أجرة عودته إلي ألمانيا، ولكنها في اللحظة الأخيرة علي رصيف المحطة قالت له إنها قد صرفت كل شيء. لو لم يكن معتمدًا عليها، لما كان في هذا الحال، مفلسًا تمامًا. كيف سيتصرف؟ وكيف لها بعد كل حديثها عن المحبة أن تضعه في مثل هذا الموقف؟ كان هناك "مشهد رهيب"، وبينما هو يصف تبادل الاتهامات والدموع والعويل وهي تقول "إنك لن تحبني بعد الآن" بدأ ديدي يضحك برغم كل كآبته. "حب دوللي! ولكن الأمر المضحك هو أنها - كما تعلمين - تحبني فعلاً." صدقته. لم تكن من نوع الناس الذين بإمكانهم الاعتقاد في نفاذ المال. وكان هناك شيء آخر (معترف به أو غير معترف به؟)، كانت تعرف أن ديدي ليس عالقًا؛ لأني سأنقذه؛ ففي نهاية الأمر لم أُحرم أنا من حقي الطبيعي. لا بد أني أكسب الكثير من المال في عملي، كنت "أحب" الصبي، ولن يؤذيني ذلك. قبل زواجها كانت دوللي تربي ديدي. "كان معي منذ أن كان طفلاً صغيرًا. إنه بمثابة ابن لي." كانت ترعاه لأن أمه - شقيقتها الصغري - لم تكن ترغب في ذلك. كانت أمه جميلة العائلة كما قال لي ثلاثتهم - وتزوجت في مراهقتها رجلاً يكبرها بكثير، ولم تكن تحبه كما قالوا. كانت أصغر من أن ترغب في طفل، وما جعل الأمور أسوأ وفاة زوجها بعد ولادة ديدي بوقت قصير. قال لي "لم يكن لدي أمي الكثير من الوقت لي". يتحدث بدفء عن طفولته مع دوللي في منزل جديه. يحب رسم صورة مثالية لطفولته، وكيف كان المفضل لدي جدته، وكيف كانت تبقيه دائمًا بجوارها يضحكان علي نميمة الكبار، حتي عندما كان بالكاد قد تجاوز سنوات الطفولة الأولي. كما كان يحب الحكي عن كم كانت دوللي وأمه جميلتين ومرحتين - كان دائمًا ما يضمّن أمه في ذلك - عندما كانتا تأتيان لتقبيله قبلة ما قبل النوم، قبل خروجهما لحفلةٍ ما. ولكن ميمي قال لي: "كانت أمه فظيعة معه كما تعرفين، ولكن المضحك في الأمر أنه كان يعبدها وما يزال." ديدي نفسه أنكر هذا الأمر "أنا أستمتع بقضاء وقت معها أو كنت عندما رأيتها لآخر مرة منذ سنوات لأنها جذابة جدًّا ومسلية. هي تعجبني كامرأة، ولكني لا أحبها." مع ذلك، فقد لاحظت أنه كثيرًا ما يتعمد أن يعرفني إن كانت إحدي قطع ملابسه القليلة قميص رخيص أو اثنان وبعض البيجامات قد أُرسلت له من قِبلها كهدايا. وكرر لي مرارًا إنها قد أعطته أغلي ممتلكاته، سيارته الصغيرة. كان ميمي وليس هو من أخبرني القصة التالية: "عندما كان ديدي في حوالي الثامنة أو العاشرة من عمره، عاد من المدرسة ذات مساء، ولم يكن أحد بالمنزل - كان قد ترك منزل جديه لمنزل والدته عندما تزوجت مرة أخري. ظل يدق الجرس مرارًا ولم يرد أحد، فانصرف وتجول متأملاً المحلات والأشياء، ثم عاد وضرب الجرس مرةً أخري، ولكن لم يكن هناك أحد أيضًا، فانصرف وعاد، ثم انصرف وعاد، وعند الحادية عشرة نزل خادم من شقة بالطابق الأعلي، وقال: "ها أنت ذا، لقد رحلت والدتك وزوجها لمدة أسبوع، وطلبا مني أن أخبرك، وأعطيك هذا. ثم أعطاه قرشًا واحدًا .. مجرد قرش واحد؛ كي يبحث عن هاتف ويطلب من أي شخص مكانًا ينام فيه" كانت دائمًا تفعل أشياءً مثل هذه. عندما فاز بجائزة في المدرسة - وكانت قد وعدت بحضور حفل تسلمه لها - لم تذهب. وعندما بكي وسأل لماذا لم تأتِ، كان كل ما قالته: "لماذا لا يتوقف عن كونه مزعجًا". لا يستطيع أحد معرفة ديدي جيدًا علي الإطلاق دون فهم أن قدرته علي الحب عميقة وتلقائية. ولا يمكن لأحد التواجد معه في نفس الغرفة لخمس عشرة دقيقة، دون إدراك أن كبرياءه فائقة الحساسية. لم تكن أمه قادرة علي تقبل حبه، أو مبادلته إياه بشكل كامل، وباقي عائلته داسوا علي كرامته. أغلبهم كانوا أثرياء بعضهم شديد الثراء وديدي كان القريب الفقير. "كان دائمًا فقيرًا" يقول ميمي "وعائلتي فظيعة. يتحدثون كثيرًا عن حبهم للناس، ولكن إن كان هناك حفل، علي سبيل المثال، وجميع أولاد الأخوال سيأتون، فلن يقوموا بدعوة ديدي. سيقولون إنه لا يملك الملابس المناسبة، وذلك سيسبب له الحرج." "ولديهم كل هذه النقود كما تعلمين - كل تلك النقود من والده، لقد رفعوا قضايا وحصلوا عليها كلها". سألته "كيف كان عندما كان طفلاً؟" "كنت أصغر منه كثيرًا بالطبع" يقول ميمي "لذا لم أعرفه جيدًا في تلك الأيام، ولكن ما أذكره عنه عندما كان طفلاً هو أنه كان دائمًا شديد الغضب ويصرخ." نادرًا ما يُلمح هذا الطفل في ديدي الآن. لديه حس شديد بما يطلق عليه "الأرستقراطية"، والتي يعني بها أساسيات التربية الجيدة، سواء كانت موروثة أو "طبيعية". ورغم جميع الصعاب، فهو يصنع من الرقي فنًا. من السهل عليه أن يبدو متأنقًا. هو يملك حلتين، واحدة زرقاء داكنة، وواحدة رمادية بمربعات باهتة، ولكلتيهما تصميم كلاسيكي. قال لي مرة إن والدته أرسلتهما له، ومرة أخري إنه اشتراهما في ألمانيا عندما تلقي دفعة مقدمة من أجر كتابه (هذه هي الحقيقة كما أعتقد). وهو يحافظ علي الحلتين بحرص مبالغ فيه، ويلبسهما دائمًا مع قميص أبيض، وربطة عنق داكنة من الحرير المغزول. كما يملك أيضًا سروالاً واحدًا بجيوب متهالكة، وبلوفرين أو ثلاثة. لم يكن يملك معطفًا، حتي أرسلت له معطفًا رخيصًا واقيًا من المطر؛ بمناسبة الكريسماس. وسواء كان يرتدي إحدي الحلتين أم لا، فإنه يستطيع أن يبدو مناسبًا. إيماءاته وهيئته أنيقة بطبيعتها، وأخلاقه متسقة مع مظهره: كياسة جادة ورسمية، تكون أحيانًا متكلفة بعض الشيء، ولكنها آسرة بشدة أو مرح متجاوب وطبيعي. بدا الأمر وكأنه يريد أن يثبت أنه "أصيل" أكثر منهم جميعًا، مهما امتلك قدرًا قليلاً من الأموال أو المكانة داخل العائلة. إنه هو وليس هم من يحفظ جوهر الجدَّيْن المحبوبين. يفكر الكثيرون من نفس خلفية ديدي الاجتماعية في الحياة خارج البلاد بشوق، ولكنهم يبقون في الوطن؛ لأنهم لو فعلوا ذلك، فسيفقدون جوازات سفرهم، ولن يستطيعوا أخذ أية أموال معهم. هم يكرهون النظام لأنهم علي يمينه، وديدي مجبر علي الحياة في الخارج لأنه علي يساره. في البدء كان في المعارضة (ككل معاصريه) للبريطانيين، أكثر الشعوب الأجنبية التي يحبها ويعجب بها، ثم للثورة؛ لأنها لم تستكمل الطريق بما يكفي. وإن لم يوجد هذان الوضعان كي يعارضهما، كان سيجد شيئًا آخر. بالتأكيد كانت الرغبة في الوقوف ضد السلطة مزروعة فيه من قِبل عائلته. برغم أن أيًّا منهم - ما عدا دوللي - لم يمنحه أي حب، وبالرغم من أنهم أهانوه، فقد فعلوا من أجله ما كانوا يرونه صحيحًا. أرسلوه إلي مدرسة "جيدة"، ولاحقًا إلي الجامعة، ثم إلي الخارج لدراسة الطب. المدرسة الجيدة تعني مدرسة إنجليزية الطابع، يديرها ناظر إنجليزي. ولكن ربما لم تكن المدارس المصرية الإنجليزية، إنجليزية بالقدر الذي يعتقده المصريون. يقول ديدي "لن أنسي أبدًا أول يوم أتي فيه "س" إلي المدرسة. كان ضخمًا وأكبر منا بكثير. فلاحًا حقيقيًا. كان يكاد لا يتحدث الإنجليزية علي الإطلاق، وكان شكله غريبًا وسط كل هؤلاء الأولاد الصغار. ثم قال فجأة في وسط النهار "يبدو لي أن هذا موعد الغداء"، وفتح حقيبته الصغيرة، وأخرج موقدًا صغيرًا وزجاجة زيت وليمونًا وثومًا وفولاً، وبدأ في طبخ غدائه في هدوء. بينما يحدق به باقي التلاميذ، نظر حوله فرآني أجلس علي أحد الجوانب كنت دائمًا جالسًا علي جنب أنظر إليه (ما زال يجلس إلي أحد الجوانب ويراقب)، فقال لي: "يا أنت. أنت تبدو علي ما يرام. لمَ لا تأتي إلي هنا؟" وبعد ذلك أصبحنا نفعل كل شيء معاً، دائمًا. كان رائعًا. هل تعلمين كيف أقول دائمًا إن أكثر ما أحبه في مصر هو النكات؟ إن إلقاء النكات الرائعة كان طبيعيًا عند "س" كما هو طبيعي أن يتنفس."