ترامب: تكلفة "القبة الذهبية" جزء صغير من 5.1 تريليون دولار عدت بها من الخليج    منذ فجر اليوم.. 98 شهيدا في غارات إسرائيلية على قطاع غزة    إسرائيل ترد على دول الاتحاد الأوروبي: تُعانون من سوء فهم تام للواقع    موعد مباراة توتنهام ومانشستر يونايتد في نهائي الدوري الأوروبي والقنوات الناقلة    بسبب المخدرات.. شاب يقتل والده خنقًا ويحرق جثته في بني سويف    انفصال أحمد السقا رسميا عن زوجته مها الصغير    آداب وأخلاق إسلامية تحكم العمل الصحفى والإعلامى (2)    «غزل المحلة» يعلن مفاوضات الأهلي مع نجم الفريق    الإيجار القديم.. محمود فوزي: الملاك استردوا استثماراتهم.. الشقة كانت تُباع بألف وتُؤجر ب15 جنيهًا    الدولار ب49.86 جنيه.. سعر العملات الأجنبية اليوم الأربعاء 21-5-2025    ملحن آخر أغنيات السندريلا يفجّر مفاجأة عن زواج سعاد حسني وعبدالحليم حافظ سرا    محافظ الدقهلية يشهد حفل تجهيز 100 عروس وعريس (صور)    محمد معروف المرشح الأبرز لإدارة نهائي كأس مصر    طريقة عمل المكرونة بالصلصة، لغداء سريع وخفيف في الحر    ننشر أسماء المصابين في حادث تصادم سيارتين بطريق فايد بالإسماعيلية    170 مليون دولار من قادة العالم لدعم ميزانية "الصحة العالمية"    رسميًا الآن.. رابط تحميل كراسة شروط حجز شقق الإسكان الاجتماعي الجديدة 2025    رابط نتيجة الصف الثاني الإعدادي الأزهري 2025 بالاسم ورقم الجلوس فور ظهورها    تقدر ب2.5 مليون دولار.. اليوم أولى جلسات الطعن في قضية سرقة مجوهرات زوجة خالد يوسف    هبوط عيار 21 الآن بالمصنعية.. مفاجأة في أسعار الذهب والسبائك اليوم الأربعاء بالصاغة    ترامب: بحث قضية نشر الأسلحة في الفضاء مع فلاديمير بوتين    «أهدر كرزة مرموش».. تعليق مؤثر من جوارديولا في ليلة رحيل دي بروين    بعد شهر العسل.. أجواء حافلة بالمشاعر بين أحمد زاهر وابنته ليلى في العرض الخاص ل المشروع X"    رياضة ½ الليل| جوميز يشكو الزمالك.. رفض تظلم زيزو.. هدف مرموش الخيالي.. عودة لبيب    تقرير سعودي: نيوم يستهدف ضم إمام عاشور.. وتجهيز إغراء للأهلي    مجلس الصحفيين يجتمع اليوم لتشكيل اللجان وهيئة المكتب    شاب يقتل والده ويشعل النيران في جثته في بني سويف    6 إصابات في حريق شقة بالإسكندرية (صور)    حدث في منتصف الليل| الرئيس يتلقى اتصالا من رئيس الوزراء الباكستاني.. ومواجهة ساخنة بين مستريح السيارات وضحاياه    52 مليار دولار.. متحدث الحكومة: نسعى للاستفادة من الاستثمارات الصينية الضخمة    إيهود أولمرت يهاجم إسرائيل: حرب غزة الآن بلا هدف    ترامب يتهم مساعدي بايدن بالخيانة ويتوعدهم ب«أمر خطير»    تفسير حلم الذهاب للعمرة مع شخص أعرفه    رئيس الجامعة الفرنسية ل"مصراوي": نقدم منحا دراسية للطلاب المصريين تصل إلى 100% (حوار)    محافظ الغربية يُجري حركة تغييرات محدودة في قيادات المحليات    وزير الشؤون النيابية عن الإيجار القديم: سيتم رفع الأجرة السكنية إلى 1000 جنيه حد أدنى في المدن و500 جنيه بالقرى    غرق طفل أثناء الاستحمام بترعة نجع حمادي في المراغة    سعر الفراخ البيضاء والبلدي وكرتونة البيض في الأسواق اليوم الأربعاء 21 مايو 2025    تحول في الحياة المهنية والمالية.. حظ برج الدلو اليوم 21 مايو    لميس الحديدي عن أزمة بوسي شلبي وأبناء محمود عبدالعزيز: هناك من عايش الزيجة 20 سنة    توقيع عقد تعاون جديد لشركة الأهلي لكرة القدم تحت سفح الأهرامات    الجمعة 6 يونيو أول أيام العيد فلكيًا.. والإجازة تمتد حتى الاثنين    رابطة الأندية: بيراميدز فرط في فرصة تأجيل مباراته أمام سيراميكا كليوباترا    إرهاق مزمن وجوع مستمر.. علامات مقاومة الأنسولين عند النساء    بمكونات سهلة وسريعة.. طريقة عمل الباستا فلورا للشيف نادية السيد    نص محضر أبناء شريف الدجوي ضد بنات عمتهم منى بتهمة الاستيلاء على أموال الأسرة    عضو مجلس يتقدم بطلب لتفعيل مكتب الاتصال الخدمي بنقابة الصحفيين (تفاصيل)    «منصة موحدة وكوتا شبابية».. ندوة حزبية تبحث تمكين الشباب وسط تحديات إقليمية ملتهبة    نائبة تطالب بتوصيل الغاز الطبيعي لمنطقة «بحري البلد» بأسيوط    تفسير حلم أكل اللحم مع شخص أعرفه    المجلس الوطنى الفلسطينى يرحب بإعلان بريطانيا فرض عقوبات على مستوطنين    المدرسة الرسمية الدولية بكفر الشيخ تحتفل بتخريج الدفعة الرابعة    هل يجوز الجمع بين الصلوات بسبب ظروف العمل؟.. أمين الفتوى يُجيب    تعرف علي موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى المبارك 2025    فيديو- أمين الفتوى: قوامة الرجل مرتبطة بالمسؤولية المالية حتى لو كانت الزوجة أغنى منه    وفد صيني يزور مستشفى قصر العيني للتعاون في مشروعات طبية.. صور    وزير الصحة: ملتزمون بتعزيز التصنيع المحلي للمنتجات الصحية من أجل مستقبل أفضل    رئيس جامعة أسيوط يتابع امتحانات الفصل الدراسي الثاني ويطمئن على الطلاب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"بعد الجنازة" سيرة تكتبها رفيقته الإنجليزية الحياة الخفية لوجيه غالي

في عام 1964، قامت دار أندريه دويتش بنشر رواية وجيه غالي الرائعة "بيرة في نادي البلياردو"، فجذبت الاهتمام ونالت نقدا وعروضا متحمسة. هذا ما حدث أيضا عند صدور في عام 1968، وفي مساء 26 ديسمبر من العام نفسه كتب غالي في يومياته: "سأنتحر الليلة. لقد آن الأوان. أنا بالطبع ثمل. لو لم أكن لكان القرار صعباً جداً جداَ. (أعترف بأن هذه كتابة ثملة) ولكن ماذا بوسعي أن أفعل يا أعزائي؟ يا من أحبهم؟ لاشيء، فعلا لا شيء".
ابتلع 26 قرصا منوما اختلسها من علبة دواء أحد الأصدقاء:
"واللحظة الاكثر درامية في حياتي - اللحظة الحقيقية الوحيدة - لا ترقي إلي ما توقعت. لقد ابتلعت موتي بالفعل، ويمكنني تقيؤه إن أردت. ولكن، وبكل الصدق والإخلاص: حقيقة لا أريد. هذا من دواعي سروري. لا أقوم بهذا الفعل بحزن أو تعاسة، بل بالعكس، في سعادة وحتي في (حالة وكلمة طالما أحببتهما) "سكينة"، نعم في سكينة".
كان من حق وجيه غالي تماما ان يحب "السكينة" التي راوغته طوال الأربعين عاما التي عاشها. ولد غالي مسيحيا في مصر ذات الأغلبية المسلمة، وفي طبقة اجتماعية ثرية في زمن ثورة اشتراكية، وتعلم في مدرسة إنجليزية في وقت صحوة قومية - أضف إلي ذلك أنه كان الفرد الوحيد المعدم في أسرة شديدة الثراء.
"رام". البطل في "بيرة في نادي البلياردو"، يشارك مؤلفه في خلفيته وسيرته الذاتية. شخصية مليئة بالتناقضات: شاب فقير يعيش حياة مرفهة علي حساب عائلته: "كون خالاتي ميسورات الحال جداً وأمي ليست كذلك لم يخطر لي علي بال. كنت أطفو علي سطح ذلك التيار الثري، أرتدي ملابس فاخرة مثل بقية الأطفال وأذهب إلي نفس المدرسة". منغمس في الثقافة الإنجليزية ويشارك في أنشطة معادية لبريطانيا، يتظاهر ضد الاحتلال "أهتف الجلاء الجلاء، مع الجموع، دون أن أفهم بدقة أهمية الجلاء - "وتتطور المظاهرات إلي رحلات للسويس الاشتباك مع القوات البريطانية المتمركزة هناك يعتمد مادياً علي أسرته ويمقت الوسائل التي كونوا بها ثروتهم، يجيب، مثلا، علي صديقة قديمة للاسرة تسأله إن كان قد دخل عالم الأعمال، بأنه اكتشف طريقة مبتكرة لاستغلال الفلاح: كل ما أحتاج إليه الآن هو رأس المال". تحذره السيدة: "لاتمزح في هذه الأمور يا حبيبي"، وهو بالفعل لايتسطيع التمادي في المزاح لأن الأسرة والتربية غرستا فيه إدمان الحياة المرفهة بما فيها من ملابس ماهرة التفصيل، ونبيذ جيد، وبعض المقامرة، ومع ذلك حين تأتي الثورة في 1952 يندمج فيها" بكل قلبي وبلتقائية تامة، بدون أي تعصب ولا هدف منظور.. الاشتراكية، الحرية، الديمقراطية.. نعم، هذا ما كانته الثورة المصرية، كل ما نأمله من خير ستقوم به الثورة. "وفي نفس الوقت، كان تعليمه في إحدي المدارس الإنجليزية بالقاهرة، وقراءاته الواسعة، وهنا يكمن اختلافه الأساسي عن طبقته الاجتماعية، يؤديان لشعوره بعدم الاستقرار، بالرغبة في الحركة، "كان عالم الشتويات ذات الثلج والجليد، عالم الأسقف الحمراء المائلة، قد بدأ ينادينا. عالم المثقفين وقطارات الأنفاق والشوارع المرصوفة بالبلاط والريف الأخضر، ذلك العالم الذي لم نكن قد رأيناه بدع كان يشير لنا أن نأتي. العالم الذي يسكن فيه الطلاب في غرف ذات طابع ومسميات خاصة، ويتصادقون علي فتيات الآلات الكاتبة ويشربون البيرة في أكواب ضخمة وينشدون الأغاني كان يصيح لنا أن تعالوا. عالم تخيلي كامل. مزيج من كل مدن أوروبا: تتداخل فيه حانات بريطانيا ببارات باريس ويؤدي شارع بيكاديللي فيه إلي الشانزليزية: فيه عمال المناجم شيوعيون ورجال البوليس فاشيون: فيه شيء اسمه البرجوازية وشخص يطلق عليه صاحبة البيت: فيه فنادق ال "جراند هوتيل" ومصانع سيارات الفيات ومصارعة الثيران: فيه تعرف الأمريكي من شكله المختلف والأناركيون يطلقون لحاهم وتجد شيئا اسمه "اليسار": وفيه تعيش أسرة كريستوفر إشروود الألمانية ويحظي المواطن السويدي بأعلي مستوي معيشي ويسكن الشعراء في غرف فوق الأسطح وتوجد حمامات سباحة بداخل البويت والمباني".
هذا العالم الذي يصفه رام هو العالم الذي تخيلته أعداد كبيرة من المثقفين المصريين أصحاب التعليم الأجنبي، فتافت إليه وبحثت عنه منذ بدء القرن العشرين وحتي عام 1956.
لم تكن حرب السويس وحدها هي ما نزع الغمامة عن عيني رام، هي في الواقع أكملت ما بدأته ساعات الانتظار في وزارة الداخلية البريطانية "كنا نقول هذا ليس كريكيت" (أي ليس من أخلاق الرياضة)، ولا ندخن ونحن نرتدي زي المدرسة لاننا وعدنا ألا نفعل. زرعوا فينا توقع النزاهة من الإنجليز، وكانت هذه ظاهرة غريبة فينا، أن نتوقع النزاهة من الإنجليز في الوقت الذي بعدت فيه تصرفاتهم تماما عن النزاهة وربما - في احتجاجاتنا اللاحقة ضدهم - كان يكمن الاعتقاد بأنهم لو علموا أن ما يفعلونه ليس من أخلاق الرياضة في شيء لكفوا عنه. فبالرغم من كل الكتب التي قرأناها، والتي تبين - المرة تلو المرة - خبث وقسوة السياسة الخارجية لبريطانيا، كانت تجربة حرب السويس هي التي أقنعتنا في النهاية. وبالطبع فشعوب إفريقيا وأسيا مرت بخيرات "السويس" الخاصة بخا من قبلنا، وأكثر من مرة.
لم يحزم رام أمتعته ويعود إلي الوطن كما فعل الكثيرون، ظل في لندن وانضم إلي الحزب الشيوعي: "إذا قرأ شخص كمية ضخمة من الأدب.. وكان شخصاً منصفاً وحنوناً ويهمه أمر البشر من جميع الأجناس، ولديه الوقت الكافي للتأمل، كما أنه صادق ومخلص، فإن هناك أمرين ممكن أن يحدثا له: ينضم إلي الحزب الشيوعي ثم يتركه ويظل يشكو من نواقصه، أو جين. ترك رام الحزب، ولم يشك من نواقصه، وعاد إلي مصر أملا أن يستطيع أن يشارك بعمل مفيد. "أن أقوم بالتدريس أو شيء مشابه، أو حتي أساعد بشكل ما في القري". لكنه يجد أن "الحياة هنا لم تتغير بالمرة، أعني كيف أذهب للعمل في الظروف الصعبة للقري بينما هو يتنقل في يخت فاروق الذي تتكلف صيانته فقط الملايين؟ وكل عمليات التأميم هذه مثيرة للضحك.. فالمال يذهب لذلك الجيش عديم الفائدة. حتي سد أسوان، عندما يتم بناؤه سيكون عددنا قد أزداد عشرة ملايين".
ينضم رام إلي منظمة سرية. مهمته أن يحصل علي صور لضحايا التعذيب من معسكرات الاعتقال ويرسلها إلي الصحف القومية. الصحف، خاضعة للرقابة، لاتنشر الصور أبدا، ويمر رام بلحظة تنوير مرعبة يدرك فيها أن "بعض الصور لن تكون بهذه الوحشية لو لم نكن ندفع فيها مالا".
في 1958 يستسلم رام ويتزوج الشابة الجميلة الثرية ديدي نخلة، التي كانت دائما تحبه. ومعها يجد "الطمأنينة التي بالكاد يصادفها أحد مثلي أو حتي يعرف بوجودها" يريدها، يقول، أن تضفي علي بيتهم السكينة".
في 1958، غادر مؤلف رام مصر للمرة الثانية، وفي الأغلب أن عائلته، بوضعها الاجتماعي وصلاتها، تلقت معلومات أنه علي وشك أن يقبض عليه بسبب نشاطه السياسي. جاء إلي انجلترا التي - بالرغم من تحفظاته السياسية - ظل البلد الوحيد، إلي جانب مصر - الذي يتصور الحياة فيه، البلد الوحيد الذي تصور أنه يمكنه أن يشعر فيه بالانتماء. لكنه - حين انتهت صلاحية جواز سفره - وجد نفسه في ورطة، فقد رفضت السلطات المصرية - كما تفعل في مثل هذه الحالات - أن تجدد له الجواز وأعطوه "كارنيها" يصلح فقط للعودة إلي مصر، وفي مصر كان علي الأرجح سيعتقد.
اختار غالي ألا يعود، ورفضت السلطات البريطانية - ما تفعل أيضا في مثل هذه الحالات - أن تسمح له بالبقاء في بريطانيا. أما الألمان، الذين كانوا في أوج برنامج إعادة إعمار بلادهم بعد الحرب، فلم يدققوا. جد غالي عملا في ميناء هامبرج وبدأ في كتابه روايته. لكنه لم يرتح في التعامل مع الألمان؛ لم يجد مكانا ل "القفش" والسخرية المصرية، ولا للفهلوة والابتكار، ولا لمفهوم الجدعنة. في الشتاء الذي أنهي فيه روايته كان يعيش في غرف بدروم بلا تدفئة، إلي أن اكتشف وسيلة تمكنه من مد سلك كهرباء من المنزل المجاور إلي غرفته.. والمدفأة التي ارتجلها - وكان يفتخر بها - كانت لفة عنكبوتية من السلك ممدودة بين تكوينين بسيطين من الطوب. وبعد أن نجح في بيع روايته دق الباب علي جيرانه وأخبرهم بما فعل وعرض عليهم أن يدفع ثمن الكهرباء - فاستدعو الشرطة.
في 1961، دخل في مراسلات مع دار أندريه دويتش للنشر. ستصبح ديانا آتهيل المحررة المسئولة عن روايته في الدار، وسيستكمل كتابها "بعد الجنازة" قصة وجيه غالي بدءا من حضوره حفلا في بيتها في عام 1963 حيث كان في زيارة قصيرة إلي لندن.
أسلوب ونغمة آتهيل واضحان من الصفحة الأولي: تنظر للمؤلف من عل من قبل أن تلتقيه. "صديق ألماني وصفه بأنه كائن متواضع ورقيق كالغزال.. كنت منحازة للأجانب المضطهدين، وبالتالي فإن أجنبيا مضطهدا يشبه الغزال، ويتغاضي عن المعاناة ليري الأمور بسخرية وفطنة كما ظهر في كتابه، سيعجبني طبعا.. سيكون صديقا". وسرعان ما نجد آتهيل تناظر نفسها حول ما إذا كانت ستقع في هوي هذا الصديق الجديد أم لا. "بالطبع لن أحب وجه العنزة الصغيرة هذا أكثر من حبي للوك" - حبيبها القاطن معها. "لكن الوقوع في الغرام لا علاقة له بالحب". "المناظرة تنتهي علي يد وجه العنزلة الصغيرة الذي استجاب بدفء لصداقتي.. وأوضح بما لا لبس فيه أنه لا يريد أكثر من ذلك".
خلال العامين التاليين زادت حالة غالي النفسية والعاطفية اضطرابا وهشاشة، وكان مقتنعا أن هذا بسبب حياته بألمانيا، وأنه إذا "استطعت أن أبقي في لندن لثلاثة أو أربعة أشهر فبالتأكيد سأجد طريقة ما للتعامل مع موضوع تصريح العمل. سأجد عملا وسأكون بخير. هذا المكان يقتلني" تحصل له آتهيل علي تأشيرة دخول وتسجل بدقة أنها ورطت نفسها" أكثر مما كنت أتوقع، لكني أعترف أني أنا التي ورطت نفسي. فديدي - "الاسم الذي أطلقته علي غالي" - حين شعر أنه يستطيع أن يثق بي، أخذ بشغف ما عرضته، هو لم يطالبني بشيء، فقط قبل ما أردت أن أعطيه. "لم تتضمن تأشيرة الدخول حق العمل، فاضطر غالي أن يقنع ب"أعمال متناثرة" - مرة في الترجمة، ومرة في النقاشة، ومرة كجليس أطفال - "أعمال يؤجر عليها" بدون علم الحكومة".
وبالطبع يجد هذا النوع من النوع من الوظائف محبطة وصعبة، وأجرها لا يكفي ليعيش عليه، وبالطبع لا يكفي للشراب والمقامرة اللذان صارا لزاما. لم يمض وقت طويل حتي أصبح مدانا يشعرب العار. أن يعيش المرء علي حساب الأسرة والأصدقاء كان سهلا نسبيا في مصر: تخلف فاتورة في جروبي أو في النادي ويسدد أحدهم الحساب بهدوء لاحقا. أما هنا، في انجلترا، فكان من الضروري أن تطلب المال صراحة، والكل يعرف أن لا أمل حقيقي في إعادته. ما بقي من احترام غالي لنفسه كان في تدني مستمر. إحساسه الحاد بوضعه المالي المهين، ورغبته - حتي النهاية - في أن يكون ال"جنتلمان الحقيقي" الذي تربي علي صورته يظهران بوضوح في الحسابات الدقيقة التي ظل يدونها، وفي الرغبة الأخيرة التي صرح بها: أن أي مبلغ مالي تأتي به كتاباته بعد موته يستعمل لتسوية ديونه. وكون هذه الديون لم تصل إلي الألف جنيه يزيد من مأساوية وضعه.
بعد حرب 1967 يقرر غالي زيارة اسرائيل. لا توضح مذكراته سوي أن أتخذ القرار و-يا للعجب - منح تأشيرة الدخول، وهناك عاصفة من علامات التعجب بعد هذا الخبر، وشرح موجز "ستكون تقليعة ذكية" مصري يجري أحاديث صحفية مع إسرائيليين" باع فكرته لجريد التايمز، فتكفلت بمصاريف الرحلة كمبلغ مقدم من أجر المقالات التي سيكتبها. كانت المقالات "وكانوا مقالين" التي كتبها عقلانية ومتوازنة، بل كانت أكثر توازنا من أن ترضي أيا من الطرين، وأغلق الباب إلي الأبد أمام أي إمكانية للعودة إلي الوطن؛ فزيارة اسرائيل - أو حتي دخول سفارتها في أي مكان بالعالم - خيانة وفقا لقانون وقت الحرب المصري، وتستوجب عقوبة الإعدام. كما زنها عمل مضاد تماما لمشاعر الناس في بلد يعاني آثار هزيمة كارثية. هذه الزيارة هي الشيء الوحيد الذي بقي من وجيه غالي في ذاكرة المصريين القليلين جدا الذين لازالوا يذكرونه.
وجد غالي صعوبة بالغة في كتابة المقالين. ولابد أنه رأي أنه لن يكمل روايته الثانية، ولن يحصل علي تصريح عمل، ولن يستطيع أن يكسب قوت يومه. سيغرق أكثر وأكثر في الديون. سيبقي في حال ذل وهزيمة، ولن يستطيع أبدا العودة إلي الوطن. هو الآن في عامه الأربعين ولا يري لنفسه طريقا.
عندما قرأت "بعد الجنازة" تحيرت: لماذا كتبت ديانا آتهيل هذا الكتاب؟ حسب ما نراه هنا، فإن "ديدي" ببساطة لا يستحق أن يكتب عنه كتاب - حتي وإن كان كتابا سيئا. تعرض الكاتبة أمامنا سكيرا رنانا، أنانيا يعيش علي حساب من حوله، يجرحهم ويهينهم، ويضجرهم ويضجرنا بلا حدود. والشيء الأكثر بؤسا في هذا الكتاب البائس هو أنه، وبالرغم من إصرار آتهيل علي سحر غالي وذكائه وكياسته وخفة دمه ويقظته، لا يظهر هذه الصفات أبدا. فإن حاولنا تقييم حياته القصيرة وجب علينا أن نشيح بوجوهنا عن شخصية "ديدي" وننظر إلي رام - الصورة الشخصية التي رسمها غالي في روايته التي لمن تجدها في الأسواق اليوم" (بيرة في نادي البلياردو".
لماذا اختارت آتهيل إخفاء هوية صديقها؟ ولماذا اختارت اسم الدلع "ديدي" اسم الفتاة الثرية التي يتزوجها رام بنهاية الرواية - ليكون اسمه المستعار؟ أري في هذا استصغارا له. هي لم تأخذ الرجل بجدية أبدا، ونري هذا في تكرار جمل مثل "ديدي الصغير المسكين"، و"هذا الكائن الصغير المسكين الخبول"، و"كان يستحق أن أضربه علي مؤخرته"، ولابد أنه خبر هذا الاستصغار خلال سنواته معها. ربما كان لكل هذا علاقة بغريزة الأمومة المحبطة التي تسهب آتهيل في تحليلها - والتي لابد أن غالي وجدها تضعفه أكثر وأكثر. تتبني آتهيل حالته فيسكن في غربة للإيجار في بيتها. يطمئن أبدا لزوال تهديدها بأن تقع في غرامة، لكن آتهيل كانت قد رضيت بدور الأم. لا نستطيع أن نلوم عليها رصانتها/ ثباتها الإنجليزي البرجوازي، لكننا نستطيع أن نري تأثير تصرفاتها واستجاباتها علي ذلك الشرقي المتقلب المضطرب الموجود الذي وضعه حظه تحت رعايتها. حين تطلب أتهيل من ديدي، بعد سنتين، أن يرحل. فتستأجر له غرفة في بيت آخر (تتضح حقيقة الموقف وتتحصل علي الاعتراف الذي طالما انتظرته وقف وأشاح بوجهه بعيدا، ورفع ذقنه عاليا، وعيناه محجوبتان- لحظة انتزعها بعنف من نفسه ليبدي تماسكا متكبرا حاد العاطفية، ثم وبدون إنذار جري متخبطا عبر الغرفة ورمي بذراعيه حولي وبرأسه علي كتفي وأخذ ينشج.. كان طفلا في الثامنة يبكي في حضني. ظهرت حقيقة الموقف. وتتعامل أتهيل مع هذا بأن تتجه إلي المطبخ لتعمل لهما فنجانين من الشاي بينما ينتظر هو في ألفة واستسلام، وقد انهارت خطوط دفاعه تماما.
من المحتمل بالطبع أن يكون التزام ديدي بالعواطف هو الذي دفع راعيته أكثر وأكثر إلي ذلك الاتزان المتبلد. عائلة ديدي ناس يعبرون عن عواطفهم بقوة.. فالمشاعر القوية تبرر بقوتها. "أدركت اتهيل" تدريجيا أن تحكمه في مشاعره ماهو إلا تحايل من أجل الاتزان، هو يقدر التحكم في النفس، لكنه كثيرا ما يترك نفسه لقوة الجاذبية في ارتياح متحد، ولكن، ألم يكن هذا جزءا مما جذبها إليه أصلا؟ بالرغم من محبتها في نفسه) في رسالته الأخيرة لها قال إنها "الشخص الذي يحبه أكثر، لنا أن نتصور كم عاني غالي مما استشعره من ثقل في شخصية أتهيل. وبما أنه- كما تؤكد هي- كان يجدها منفرة جسديا، لنا ان نتصور أيا كم استبشع تلك الضبابية العكرة في مشاعرها الأمومية إنما أنني لم أنجب أبدا فلست متأكدة إلي أي مدي قد تلون المشاعر الجنسية الأموية، ولكن، وبما أنني أري الآن مدي تداخل مشاعر الأمومة في علاقاتي الجنسية مع أي شباب انجذب إليه، فأعتقد أنها كانت لتؤثر فيها بقوة- أي أنني كان عندي الاستعداد لأكون جوكاستا حقيقية لو سنحت لي الفرصة".
وقد سنحت الفرصة أخيرا، وجد ديدي الثمل طريقه لمخدع ديانا الثملة. وتحملته بغيرية لاهية، كريمة ومسيطرة، أم إلي النهاية حجم السكر نطاق وعيي، لكنه لم يفقدني إياه. وحين وسعت الممارسة تدريجيا نطاق ما أدركه، كنت أنا التي أدرك، وعرفت أنه سيكون من الخسارة أن نفسد ما يحدث بأن نتركه يستمر طويلا، الحنان سيطفؤه ضجر جسدي غير المستثار، فعلي الآن إنهاء وصلة ممارسة الحب هذه بتصنع بلوغ قمة اللذة ومساعدة ديدي في الوصول إلي ذروته. "لم تتكرر الواقعة أبدا. ولكن لماذا حدثت؟ ولماذا انتهي ديدي في فراش راعيته بعد أن تجنبه بأدب لمدة أربعة سنوات؟ وما موقع هذا الفعل في عملية مسيرة الذات التي مشي فيها؟ لاتتعامل آتهيل مع هذه الأسئلة، بالرغم من أنها قرأت تلك الفقرات في مذكراته التي يصف فيها نفوره الجسدي منها- فقرات تعرضها علينا بحماس.
لقد بدأت أكرهها. أجدها لاتطاق.. ردود أفعالي ناحية ديانا يشعلها نفوري الجسدي من ديانا. أجد من شبه المستحيل أن أعيش في بيت واحد مع شخص وجوده الجسدي يدفع بجسدي للانكماش نفورا، ولذلك أجدني أبغض كل ما تفعله أو تقوله أو تكتبه. أحاول جاهدا أن أفهم بشاعة هذا الموقف الذي أتخذه، وفي الحقيقة لا أستطيع تفسيره إلا بقبول حقيقة أني مريض، معتل، غير سوي. أجلس في غرفتي أشاهد برنامجا غبيا في التليفزيون، غاضب علي نفسي لأني لا أطفؤه وأجلس للعمل.. ومن غرفتها أسمع الآلة الكاتبة: تك تك تك تك تك، أقول في نفسي هاهي تطقطق تلك الزبالة التي لا قيمة لها- تغرف جملة غبية مملة بعد جملة غبية مملة، وتفكر- لا تتظاهر- بأن هذه كتابة. ويمسك بي مزاج رديء. ثم أتذكر كل ما فعلته ولاتزال تفعله من أجلي، فأدق بابها فنجان من الشاي ياصديقتي؟ تظاهر بأنها مستغرقة تماما، فبالكاد تسمعني. تنهي جملة، تنظر إلي- هي لا تعي تماما ما حولها أنها غارقة تماما في فنها. ثم نعم، فنجان من الشاي ياصديقي، بعدها أعود إلي غرفتي. أنا فعلا وغد، أهمس مكررا، أنا فعلا وغد".
ربما كان وغدا. لكنه كان كاتبا. وكان علي حق في تقديره السلبي لأسلوب كتابة محررته ديانا آتهيل. ربما كان في كل هذه القصة ما يستحق المعاناة لو أن التركيز علي جنوح ديدي أنتج كتابا جيدا. لكن، وبالرغم من الفحص الذاتي الجارح (سطحيا)، وبالرغم من الإصرار علي تراكم التفاصيل، فإن "بعد الجنازة" يمكن أن يصنف كتدريب علي كيف لاتكتب السرد": بعد أن جلسنا لتناول وجبتنا بفترة قليلة قال أحدهم شيئا مثيرا للانتباه، له علاقة مباشرة بخبرة المتحدث، وتغير وجه العنزة المتهكم في الحال. بدت عيناه وكأنها فعلا أضيئت. حلت الحيوية محل الاكتئاب. بدأ يصف شيئا تناغم مع ما قبل. وكان فكاهيا فأضحكنا. "تقرأ الكتاب فتجد تلخيصا مليئا بالكيشيهات، تلخيص يبسط الأحداث والمشاعر، وضع ديدي في الخارج يعرف بخفة سريعة بأن "عبدالناصر قام بنفيه" وهذا بمثابة إسدال الستار علي عالم من الخداع والمواربات. تتلخص كل مشاكل ديدي في احتياجه لحنان الأم، وفي هذا تجاهل للشق الأكبر من شخصيته وتاريخه، وفيه أيضا عذر لرغبة آتهيل في إمداده بكميات من الحنان المشبوه. هي تقول إنها كتبت "هذه الوثيقة من أجله ولأولئك الذين ينوون إنجاب الأطفال. "كان العمل الأفيد- والذي سيرضي هو عنه- أن تنشر مذكراته.
كتب المقال ونشر بالإنجليزية في اللندن ريقيو أوف بوكس في يوليو 1986.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.