إشكالية مناقشة هذا العنوان أن طرفي أي حوار (أحدهما أصولي والآخر حداثي) لا يقفان علي الأرضية نفسها، وهو ما يجعل الحوار غير مجد وغير منتج في الوقت نفسه. أولا بسبب أن أحد طرفي الحوار يؤمن بتاريخية النص فيما يؤمن الآخر بأزليتها، وبسبب أن أحد طرفي الحوار - نتيجة لإيمانه بالتاريخية - يعتقد في عدم وجود إسلام واحد، بل خطابات إسلامية متعددة، فيما يعتقد الآخر بوجود إسلام وحيد، هو قطعا من يمثله، بما يعني أنه ينحي جانبا الصيغ الأخري للإسلام باعتبارها انحرافا عن الأصل. أزمة الاعتقاد في أزلية النصوص لدي رجل الدين الأصولي أنه يشعر طوال الوقت بالاصطدام بالزمن، ومن ثم فإن خياره الوحيد يكون في "تبرير" النص. في "تلفيق" حكمة إلهية ما في وجود النص، نص تعدد الزوجات كمثال، فضلا عن أنه في رحلة تبريره والبحث عن مسوغات لقبوله يصطدم بحقيقة أن النص قد فرض ممارسات ظالمة كثيرة، وأن ثم رجال يتسلحون بالنص لتبرير غرورهم وشهوانيتهم، فلا يكون لدي رجل الدين غير وضع قيود مختلقة، بواسطة نصوص أخري، كي يحد من المظلومية التي تخلقها النصوص بسبب تفاعلها مع الواقع. إضافة إلي أن هذا التقييد لرخصة استخدام النص يضطر رجل الدين الأصولي إلي اعتماد نسخته باعتبارها النسخة الصحيحة فيما ينفي عن النسخ الأخري التي يصنعها رجال دين آخرون صفة الصحة. متجاهلا أصلا ليس فحسب أن نسخته صحيحة فقط في سياقها ولكن أيضا أن نسخته هي نفسها انتقائية لأنه يتبني وجهة نظر فقهية وحيدة تستبعد وجهات نظر فقهية أخري داخل التراث الفقهي الشامل (كالمعتزلة أو كالشيعة مثلا) وتستبعد وجهات نظر فقهية داخل التراث الفقهي الأصغر (كالمدارس الفقهية غير المعتمدة) وتستبعد وجهات نظر حداثية في قراءة التراث الفقهي كقراءة نصر أبو زيد أو غيره باعتبارها غير جديرة فقهيا، أو باعتبارها رؤية استشراقية من خارج دائرة الإيمان. وفي ظني أن هذه الاشكالية لن تنتهي إلا بتسليم رجال الدين بتاريخية النصوص، أو علي الأقل بأن القراءات التاريخية للنصوص لها وجاهتها ويمكن الاعتماد عليها فقهيا، إضافة إلي تسليمهم بأن ما يعتقدون فيه هو محض قراءة انتقائية مثلها مثل القراءة الانتقائية التي لدي القاعدة أو داعش أو الإخوان المسلمين أو غيرهم. خصوصا وأنهم لا يخاصمون التاريخية بالكلية، ويضطرون أحيانا إلي الالتجاء إليها لتبرير آيات القتال مثلا في حال الرغبة في دفعها (من يسموا أنفسهم الوسطيين) أو لاستخدامها أي آيات القتال في حال الرغبة في تبرير قتلهم (من يسمون أنفسهم الملتزمين)، كما أنهم بالكلية لا يخاصمون الانتقائية بالكلية حين يضطرون لمخاصمة أكثر التراث لبناء نموذجهم عن الإسلام، سواء دعاة الوسطية أم دعاة الالتزام.