القطعة الفنية المنشورة أعلاه (محاكاة ساخرة لخريطة أوروبا أثناء الحرب العالمية الأولي) هي أشهر النماذج الفنية الساخرة الآتية من ذلك العصر، رسمها الفنان الألماني الشهير والتر ترير ويستدل بها للتعريف بطبيعة الحركة الفنية (تيار المستقبلية) التي واكبت الحرب أو انبثقت عنها، ومدارسها وتأثيراتها علي مسار الحرب. كيف نقل فن هذا الزمان صورة الحرب، وكيف رسمت الحرب العظمي صورة فن وفناني الدول المتناحرة؟ السؤال السابق وهذه اللوحة بالإضافة إلي أعمال أخري، هي موضوع كتاب "لا شيء تغيّر عدا الغيوم" الصادر حديثا في أمريكا ويجوب معارض فنية حول العالم حتي مطلع العام المقبل. الكتاب ربما يبدو بسيطا؛ يتناول الفن والثقافة البصرية أثناء الحرب العالمية الأولي (1914 -1918)، لكن أهميته تكمن في التوثيق للصحافة الساخرة ومواقف فناني ورسامي تلك الحقبة من تاريخ العالم. ما جعلها ملائمة للعنوان العريض الموحي الذي استقبلت به الأوساط الثقافية في أمريكاوألمانيا بالذات هذا الكتاب وهو: "حرب الصور، صور من الحرب". يقدّم هذا "الدليل" الحرب العالمية الأولي باعتبارها "حرب الذبح الآلي" التي لم يَسبق لها مثيل، مثلما هي تمثل كذلك حرب الصراع والهيمنة الثقافية لأوروبا. وفي الحالين تُعد الحرب العالمية الأولي أول حرب يمثلها ويخوضها فنانو العصر الحديث بكثير من الإثارة، الإرباك، واليأس. يستلهم عنوان الكتاب المعني من مقطع للفيلسوف الألماني والتر بنيامين في مقالته الشهيرة (الحكواتي) الذي أعلن فيها موت مهنة راوي الحكايات وظهور فن جديد هو الرواية، يقول المقطع: "مع الحرب العالمية الأولي، بدأت تظهر للعيان عمليّة لم تمهلنا الوقت للتفكير. الجيل الذي كان يذهب إلي المدرسة علي عربة تجرّها خيول، يقف الآن أسفل سماء في الريف حيث لم يبق شيء لم يتغيّر، عدا الغيوم. أسفل هذه الغيوم، وفي حقل من السيول والانفجارات المدمرة، كان هناك جسد الإنسان الناحل والهشّ". نتعرّف من خلال فصول الكتاب الذي أعدّه كل من جوردون هيوز ميلون أستاذ مساعد في قسم تاريخ الفن بجامعة رايس؛ وفيليب بلوم، باحث مستقل، علي الطرق المميزة التي استخدمتها الدول المتناحرة في الحرب العالمية الأولي لما يمكن أن يسمي "الدعاية المرئية" ضد أعدائها، ويستكشف صاحباه كيفية تطوير فناني الحرب العالمية الأولي - كل علي حدة - للغة البصرية الخاصة بهم للتعبير عن الفظائع المروّعة التي شاهدوها أثناء الحرب، والتعامل معها. الفنانون الذين تعرض لهم هذه الموسوعة المصوّرة (بعضهم خدم في الحرب) من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا والولايات المتحدة، منهم: أومبرتو بوكيوني، وماكس بيكمان، أوتو ديكس، إرنست لودفيج كيرشنر، فرناند ليجيه، والإيطالي فيليبو توماسو مارينيتي وهو شاعر بالأساس ولد بالإسكندرية، ناتاليا جونشاروفا زوجة بوشكين، وأخيرا فيليكس فالوتون. أما الطريف وغير المتوقع؛ فهو احتواء الكتاب علي قراءة لأعمال للمصور والمخرج الهنجاري الأمريكي لازلو موهولي ناجي الذي عالج بوصفه ضابط استطلاع المدفعية أثناء الحرب، فكرة تفاعل الإنسان مع تكنولوجيا آلات الحرب الجديدة. والأكثر طرافة هو المقطع المخصص للفنان الألماني أوسكار شليمر مصمم الرقصات والمعروف بتصميماته النحتية التي تعالج خبرة المكان من خلال الرقص. شليمر حاكي تشوهات الجنود العائدين من الجبهة ثم استعانوا بأطراف صناعية في تصميم "باليه ثلاثي الأبعاد تكاملي مع أزياء غريبة للحرب". أما المواد الفنية والمصوّرة الأخري التي يضمها الكتاب فتتنوّع ما بين: الجرائد والمجلات الساخرة المصوّرة، بطاقات البريد، والصور الفوتوغرافية، والروايات الحيّة كالمذكرات أو يوميات الحرب، والمراسلات من الجبهة، وحتي "خنادق الفنون" التي صنعها الجنود بأنفسهم.