يوقظني صوت الأرجوحة الصدئة. كأّنه يد جدّتي توقظني للصلاة والفلاح في الحقول. وكما كان يحدث في تلك الصباحات، أخفي أذنيّ تحت لحافي وأعود إلي أحلامي الدافئة. صوت الأرجوحة أعند من إلحاح جدّتي. أجلس في السرير. أتلفّت حولي. الآن، وأنا هنا، في بيروت، كيف لي أن أسمع صوت أرجوحة عزيز المتهالكة؟ لا أذكر متي سمعتُها للمرّة الأولي. كان عزيز- مالكها - يتركها تحت المطر والشمس، من العيد إلي العيد التالي، كأنّه لا يجوز للأطفال التأرجح إلا في مناسبة جليلة. كان يشوّقهم إليها كي يدفعوا ما جنوه من "عيديّات"، وكانوا يفعلون بطيب خاطر، كأنّهم، بدورهم، يتعمّدون الاشتياق إليها. كانت عند مدخل الحيّ. ولكن، برغم بُعد المسافة، واستحالة أن يكون هناك من يتأرجح بعد منتصف الليل القارس، كنتُ أشعر بأنّ الصوت المفزع، الذي يوقظني من نومي، هو صوت حديد الأرجوحة الصدئ المغلّف بطبقة من الجليد! كنتُ طفلة، وكانت الأسئلة ترعبني. من يتأرجح؟ أطفال الحيّ أم دخلاء؟ عجوز مجنونة أم جنّية أم غول؟ كان الصوت يوقظني بين عام وآخر. لم أربط بين التواريخ ودلائلها، لكنّها كانت ليالي شديدة الظلمة والبرد. انقطع الصوت بعد زواج فاطمة وانتقالها إلي بيت آخر، وعاد في مرّة يتيمة، عشيّة وفاة والدك، التي أجبرتك علي المجيء إلي الحيّ. كان الصوت كأنين ساعةٍ تراوح مكانها. كحركة طفل يدفع الأرجوحة بالسرّ، بعدما نام الكبار الذين يحرمونه من التأرجح. هل هو أنت؟ مرّةً، قرّرتُ أن أكسر أصفاد الخوف وأخرج. خبّأتُ كفيّ تحت إبطَيّ، لا أرجو دفئاً، لأنّ قلبي نفسه كان متجمّداً. كانت طفلةً بقصّة شعر قصيرة مشعثة، ترك البرد قبلاته الحمراء علي خدّيها وأنفها. حتي فستانها الصوفي المشغول بصنّارتين رشيقتين بدا بردان. نظرتْ إليّ ففهمتُ ما تريده. اقتربتُ من دون خوف، دفعتُ الأرجوحة، فطارت كأنّها ريشة! كانت خفيفة. أخفّ من روح! فاحت رائحة "عطر الليل" حين تحرّكت، فرحتُ أدفعها بسرورٍ لم يدخل قلبي منذ زمن. ثم قالت من دون أن تلتفت إليّ: "مرق من هون بس ما شافني". سألتُها: مين إنتي؟ ردّدتْ: مين إنتي؟ أنا عم إسألك أنا عم إسألك... راحت تكرّر ما أقوله، ثمّ اختفي وجهها وقدماها الحافيتان. لكن بقي فستانها الصوفيّ المشغول بحبّ وعناية يتأرجح برفق. قيل في الصباح التالي إنّ الجان كانوا في الحيّ، وكانوا يتأرجحون. تُليت الآيات القرآنية عدّة ليالٍ، حتي اطمأنّ أهل الحيّ إلي أنّ الجنيّات لن يعدن. أنا غرقتُ في صمت لأيّام. لم أتكلّم إلا لأطلب من ماجدة أن تعلّمني قطبة "السنبلة"، التي كانت تزخرف فستان فتاة الأرجوحة. كانت ماجدة تهمّ بجمع غسيلها الذي تنشره أمام بيتنا ليستفيد من شمس الظهيرة، وكانت الصنارتان لا تفارقانها حتي في الجلسات الخاطفة. لم تُبدِ حماسةً لطلبي، ولكن، حين شرحتُ لها تفاصيل الفستان، نظرت إليّ متعجّبة، وقالت إنّها سبق أن اشتغلت لي هذا الفستان وأنا طفلة، بطلب من جدّتي. شعرتُ بقلبي يبطؤ قبل أن يتوقّف نهائياً وبروحي تفارقني. أشفقت ماجدة لحالي وقالت: "تعي شوفي كيف بنشتغلها، راقبيني". اقتربتُ وراقبتُها وهي تعمل. تغرز رأس الصنارة في خيوط الصوف ذهاباً وإياباً، تلفّ الخيط فوق سبّابتها، وتتأنّي قليلاً، لألحظ ماذا فعلت. أعطتني الصنّارتين. لم ينجح الأمر من المرّة الأولي أو الثانية. في حالات مشابهة كنت أستحقّ جولات أخري، لكنّ ماجدة فقدت الحماسة بسرعة. قامتْ لتجمع غسيلها. تابعتُ العمل، ويبدو أني أفسدت السنبلة تماماً. لم تغضب مني أو تنهرني، بل ضحكَتْ، وبضربة لن أنساها أخرجت الصنارتين من الصوف، وراحت تكرّ الخيط الطويل، وتفكّ القطب التي أفسدتُها قائلةً: "هيدي مش سنبلة، هيدا قمح مجروش!!"، ثم لفّت الخيط الصوفي مجدّداً وصنعت منه كرة، لكنّ الخيط بقي مجعّداً. تركتْ رائحة غسيلها في أنفي، ومشهد كرّ الصوف في عيني. لو أنّني أتمكّن من كرّ قميص طفولتي ومراهقتي! لو أنّ قُطَب السنوات الماضية تعود القهقري، لتبدأ صنارتان جديدتان حياكةَ عمري قطبة مختلفة! لو أّنني أعود طفلة تتأرجح أمام منزلها، وحين تغرب الشمس تأتي أمّها وتعيدها إلي البيت، تغسلها وتُلبسها فستان نوم وتطعمها، ثم تضعها في فراش ناعم. لو أنّني أعود طفلة جميلة بشعر ناعم ووجنتين متورّدتين! فتاة مراهقة تذهب إلي المدرسة وقد عقصت شعرها علي شكل ذيل حصان. فتاة شكواها الدائمة هي أنّ أيّ ربطة، مهما كانت قوية، لا بدّ من أن تزلق من شعرها لشدّة نعومته، كما كانت تشكو بعض التلميذات الغافلات عن النعمة التي هنّ فيها، واللواتي طالما أغرينني بشدّهنّ من شعر كلّ منهنّ، ونتفه عن آخره، ليتوقّفن عن الشكوي. رغم الأماني، حدث أمر واحد: تقدّمت في السنّ. التعب الذي اختزنتُه جعلني أشعر بأن عمري مضاعف. علي أبواب العقد الثالث، أخاف كثيراً من الشيخوخة. لا يخيفني أن أهرم، بل أن أتحوّل إلي نسخة من عيشة. رأيتُ كيف تحوّلت نساء كثيرات حين كبرن إلي نسخات من أمّهاتهنّ وجدّاتهنّ. بعد الخمسين نتشابه، وتتقلّص الفوارق، ونجد إجابات عن معظم الأسئلة التي حيّرتنا منذ الطفولة. لذا نتساوي لحظة الموت، وأحياناً تتساوي قصصنا، برغم اختلاف التفاصيل، وتتشابه تواريخ حيواتنا، تصبح مجرّد نسخ متتالية لكاتب غير بارع، يُعيد الكتابة ويُعيد بشكل مملّ. لحظةَ الموت نحاول استذكار ما مضي، ونخلص إلي التالي: وُلدنا وعشنا وعانينا، فرحنا قليلاً وحزنّا كثيراً وضاعت أحلامنا، ثم تعبنا ونضبت مياهنا ومتنا. لنا جميعاً التسلسل نفسه والحبكة نفسها. صارت خالتي تشبه عمّاتها حين بانت تجاعيد وجهها الأولي. برغم اختلافات كثيرة، عثرتُ علي جينات والدة جدّي وبناتها في وجه فاطمة. عيشة أيضاً صارت تشبه جدّتي. جيلاً بعد آخر، لسنا هنا سوي نسخٍ متتالية، ومع كلّ نسخة تفقد الصورة الأصلية شيئاً من أصالتها وحقيقتها. نصبح وهميين أكثر. حين رأيتُ جدّتي في وجه عيشة المحتضرة هلعتُ، هل سأتحوّل إلي نسخة من عيشة حين أهرم؟ تأكّدت هواجسي حين نصحنا الطبيب، نحن بناتها، بفحص مبكر للسرطان، بحجّة أنّه وراثي! ستورثنا إرثين ثقيلين برغم أنّها معدمة: سرطانها وشكلها.
صوت أذانٍ بعيد يجهد في التسلّل بين أصوات المكيّفات. نومي المضطرب وقلقي لا يسمحان لي بمعرفة إذا كنت قد رأيت "منام الأرجوحة" أو تذكّرته فقط. كان هذا أفظع من كابوس "الشرفة والعصفور". ولكن، كيف كان الليل بارداً بينما موجة الحرارة المجنونة إلي ارتفاع؟ وكيف كانت تلك الفتاة ترتدي فستان صوف حاكته صنّارتان أسمع الآن أزيز احتكاكهما... "أنا روح، روح العصفور"، تتردّد جملتها الأخيرة. هل يحدث فوق هذه الأرض أن نري روح العصفور؟ كانت جدّتي كثيراً ما تنهرني إذا بالغتُ في التذمّر: "خلاص اسكتي... روحي قدّ روح العصفور". للروح حجم إذاً، ولكن ليس ما عنته جدّتي هو ما أبحث عنه. الروح شيء صغير جداً يتسلّل من قبر محكم، وكبير جداً لا يتّسع له مكان. لماذا نزور المقابر وليس فيها سوي عظام موتانا، بينما أرواحهم طليقة في مكان أرحب. إنّ زيارة القبور مضيعة وقت. فقط حين نموت نزور موتانا فعلاً، لأنّنا نلحق بهم. أشعر أحياناً أنّ موتي سيكون أسهل شيء في حياتي. برغم المفارقة إلا أنّها حقيقة مريحة. سيكون الموتي هناك في انتظاري، يقودونني خطوة خطوة. كما يحدث حين نولد، نجد دائماً من يعتني بنا ويعلّمنا، مع اختلاف الفرص التي تسنح لكلّ منّا. ألهذا انقطعتُ عن زيارة قبر أبي؟ هل نجحتُ يوماً في تناسي السبب الحقيقي؟ ذات يوم، في جوار قبر أبي تعثّرت بقبرٍ محفورٍ علي شاهده اسمي وكنيتي، فزعتُ وضربتُ يدي فوق ثوبي كي أتأكّد أن جسمي هنا، معي، وليس تحت الشاهد. كانت تلك عمّتي التي سُمّيتُ باسمها تكريماً لذكراها، أو ربما لسبب آخر يتعلّق بغريزة عيشة التي تمنّت موتي، أو رأت روحاً ميتة في عينيّ، حين رفضتْ إرضاعي وأنا في الساعات الأولي من عمري. بعد تلك الحادثة انقطعتُ عن زيارة قبر أبي.