الابداع لا يأتي صدفة. قد يحتاج إلي مؤثر للخروج ولكنه يبقي في الوجدان حتي لحظة الاشتعال الحقيقية. وبينما مصر الأربعينات تموج بالأحداث والتراشق السياسي، والعالم يشهد الحرب العالمية الثانية يجلس الفتي يراقب ويسمع كلام الكبار ويتناول الطباشير ليرسم علي حيطان الزمن بخطوط بسيطة. يتناول القلم ويكتب الأشعار في كراسة الرسم. يشعر دائما طوغان أن ما بداخله يحتاج إلي كل عناصر الإبداع فهو يرسم الكاريكاتير وقد تعجز الريشة، يتناول السلاح ويذهب الي الجزائر واليمن يبحث مع الثوار عن الحرية وقد تعجز البندقية، فيكتب الرواية ويرسم اللوحات. الميلاد 1926 في المنيا والوفاة بالقاهرة يوم الأربعاء الماضي 12 نوفمبر 2014. الاسم طوغان، وتعني الصائد بالصقر، الجذور من الجزيرة العربية من نجد، تنتمي الي قبائل "القديديين". جاءت القبيلة واستوطنت في الجيزة. وكان طوغان أحد أبناء رئيس قبيلة (النجمة) في نزلة السمان والبطران، ولم يكن أبناء القبيلة يؤدون الخدمة العسكرية والإعفاء لأبناء القبيلة كان بسبب أنهم في حالة دفاع دائم عن الوطن، وفي مقدمة المدافعين عن مصر، ومن الأسرة ولد طوغان وسمي باسم الجد، وبدأ يكتب الشعر ويرسم أحياناً، وقد خطط لنفسة ليكون شاعراً ولكن هدير الحرب العالمية والتي استخدمت لأول مرة حيلة الرسوم الكاريكاتيرية للنيل من شعبية هتلر، فكانت وسيلة تشرشل في تجميع الرسوم الكاريكاتيرية في كتيبات ترسل الي الجنود لرفع الروح المعنوية وعمل بوسترات تزين حيطان دول الحلفاء. خرج طوغان في إحدي المظاهرات التي تطالب بالجلاء وبعد ساعات من التعب ركن إلي ركن الجرائد لتقع في يده مجلة تزين صفحاتها الرسوم الكاريكاتيرية التي تتناول شخصية هتلر بالسخرية الشديدة المبهرة بالألوان والمبالغة. ترك طوغان أقلام الشعر وانتقل إلي كراسة الرسم ليقلد الرسوم ويبدع وينقل ويعبر عن أفكاره الشعرية بالرسم وأمام وسيلته الجديدة ابتكر رسوماً خاصة به بعد فترة من التقليد وزاد انبهاره برسوم عمنا رخا، وعندما اجتمع لديه عدد من الرسوم الخاصة عرف بوجود مجلة "الساعة 12" يصدرها الطلبة السودانيون بالقاهرة وبكارت توصية من أحد الباشوات السودانيين ذهب الي المجلة حاملاً رسومه وأحلامه في أن يصبح رسام المجلة الأول، وعلي باب المجلة قابل رجلاً ضخم الجثة شديد العبوس دائماً مايتذكر عمنا طوغان ماقاله "الرسم ليس شيئاً بسيطاً. ليس أي فرد في إمكانه أن يرسم الست تلميذ .. عليك بالالتفات الي مدرستك"، ومزق الرسوم وانتهي اللقاء وقد اختفي الرجل من الحياة تماماً، وبقي طوغان يصنع من رسومه كل يوم أملاً جديداً للحياة. كادت الحادثة أن تنهي أحلامه ولكن بهدوء وبخفة ظل يتناول الساخر الكبير محمود السعدني قصاقصات الورق الممزق ويبتسم في وجه طوغان "تلاقيه رسام ومتغاظ منك". ويقول الاستاذ محمود السعدني "الفنان طوغان ربما الرسام الوحيد الذي لم يجر استدعاؤه للرسم من أستاذ في معهد الفنون أو عضو في جمعية للفنانين أو من رئيس تحرير جريدة ولكن ما استدعاه حدث لا يتكرر إلا أحياناً، وهو الحرب العالمية الثانية. لولا الحرب ربما كان طوغان الآن يقضي شيخوخة هادئة بعد خروجة من وظيفته علي المعاش، ولكنه في كل رسوماته كان وضحاً أنه يعبر عن مزاج الشارع المصري". وينصحة بالذهاب الي حديقة نقابة الصحفيين حيث يجلس رائد الكاريكاتير رخا يلعب الطاولة يومياً مع فكري أباظة وبكوب ليمون بارد، يستقبله بابتسامه الأب الحنون وينبهر بأعماله ويقدمه للفنان زهدي ليرسم معه في مجلة "المساء" التي كانت يصدرها اتحاد محرري الصحف. ويعتبر طوغان نفسه محظوظاً لوجوده مع عملاقين، رخا وزهدي. بقي طوغان بالمجلة سنتين يرسم ويبحث لنفسه عن أسلوب خاص، فقد بدأ متأثراً بالشكل السائد من الرسوم الكاريكاتيرية وهي خليط من خطوط صاروخان وسانتيس، وكانت الريشات الكاريكاتيرية كلها تحاول الخروج من التأثير المباشر وقد تأثر البعض وخرج البعض إلي أسلوبه الخاص، وإن كان تأثر البعض اخذ الكثير من الوقت للخروج في حالة الفنان عبد السميع، وقد حاول طوغان التخلص من التقليد والتأثر واتخاذ خط خاص يتميز بالحركة الشديدة وتقليل حيز المبالغة في الشكل إلا فيما ندر مع التأكيد علي التشكيل وهو الاقرب في أعمال طوغان بالإضافة لقدرته علي التلوين وإدراج مساحة اللون داخل اللوحة وقد أخذ بعض الوقت للوقوف إلي أسلوب يستريح له ينفذ به أعماله حتي الآن. وبعد تجربة طوغان بالمساء يرسم في الملايين والصرخة والكاتب وروزاليوسف يرسم لوحات مقاومه للاحتلال وينبئ بالثورة، يرسم الحصان الجامح ويكتب علي ظهره الثورة ويداً ترتدي خاتماً "في إشارة للملك"، وتحاول أن تقف الحصان الجامح قبل قيام الثورة بشهرين، ثم تقوم الثورة وتولد منها أحلي رسوم طوغان فهو من ابناء الثورة المخلصين جداً. وبعد إصدار "أخبار اليوم" يعمل بها لفترة ويختلف ويترك الأخبار إلي جريدة الثورة "الجمهورية" ليعمل مع صديقه انور السادات الذي تعرف عليه علي قهوة عبدالله بالجيزة حيث يجلس عقول مصر السعدني وزكريا الحجاوي وأنور المعداوي وعبد القادر القط ومن الشباب يوسف إدريس وسمير سرحان وصلاح جاهين. وبعد الاستقرار الفني والعملي بجريدة "الجمهورية" تحركت داخله الرغبة في البحث عن حرية الأوطان وعدم الاكتفاء بالجلوس علي مكتبه يرسم فقط. لابد أن يحمل أفكاره وأحلامه ويذهب إلي هناك، إلي الأحداث يكسر الراديو، الذي يذيع الحدث من وجهة نظر واحدة ويذهب الي حيث الحدث نفسه "بالفعل ذهبت الي الجزائر وشاهدت بنفسي مقاومة الاحتلال وعشت أياماً مع الثوار في الجبال ودونت هذة التجربة رسماً بعد عودتي في كتاب ايام المجد في وهران"، وكان قبلها قد رسم 30 صفحة عن المقاومة الجزائرية سنه 1959، ولكنه لم يكتف بالمعرفة الورقية ولكن من قلب الحدث، يعود إلي مكتبه بجريدة الجمهورية يرسم أحلي الرسوم التي كانت تناقش علي مائدة مجلس الثورة وقد علق الرئيس عبد الناصر علي أحد رسوم طوغان عن محمد مصدق رئيس وزراء إيران الأسبق، فرسمه في السجن وبابه الحديد مكون من علامة الدولار والاستريني في إشارة الي الانقلاب الذي حدث ضده بعد بعثة عن دور وطني لبلده بعيداً عن سيطرة الغرب وقد مدحه عبد الناصر وخصص وقتاً طويلاً لشرحه في مجلس قيادة الثورة، ثم خصصت "الجمهورية" مساحة ثابتة للكاريكاتير في تقليد جديد لم يسبقها فيه سوي جريدة "الأخبار". وقد يستريح المحارب داخله ويجلس يستمتع داخل مكتبه ولكنه يذهب إلي موقع الأحداث باليمن يسجل هناك المقاومة الحقيقية، وليست الأخبار علي الورق. يبقي دائما الواقع أهم من الأوراق المكتوبة تلتهب ريشة الفنان كلما وجد الحدث يذهب إلي اليمن ويشارك في الحرب يحارب ويرسم ويصدر سبعة كتيبات منها "رسالة للموقع 7 ولقاء عند جبل براش والضمير وكلمة حق"، وكلها رسوم تحمل بارود الحرب وصوت المدفع ودافع للنجاح والانتصار. ويبقي المحارب داخل طوغان يحمل ريشة ودواية الحبر وشجاعة نادرة وقوة عزيمه لا تلين. يرسم الكاريكاتير الصادم يصور فيه الصهيونية بوحشية غريبة، وتجري مكن الطباعة وسهام معاداة السامية، وهي الجريمة الجاهزة التي طالت كل وطني شريف ولم تسلم ريشة طوغان من التصنيف علي رسمة المنشور بجريدة "الجمهورية" بعد توقيع اتفاقية "كامب ديفيد"، وتقدم وزارة الخارجية الاسرائيلية احتجاجا لمصر علي هذا الرسم واتهمت طوغان بإفساد العلاقة بين مصر وإسرائيل. وكان المطلوب منه أن يخف الرسم ولكنه لم يفعل وقد طالته ففي جريدة "الجمهورية" في 12 أكتوبر 2008 يصور شخصاً صهيونياً يبتسم ابتسامة فرح شديدة ناظراً إلي الأمام يمسك جريدة مكتوب عليها تمزيق العراق وفي "الخلفية المخطط الصهيوني". وأعلنت المنظمات الصهيونية العالمية أن هذا الرسم يشكل معاداة السامية الواضحة في الإعلام العربي حيث قامت المنظمة بمهمة الترجمة الحرفية لمفردات العمل الكاريكاتيري المنشور، وفي رد فعل سريع أعلن الفنان طوغان صاحب الكاريكاتير "أن العرب كلهم ساميون وبالتالي لا يعادون السامية بل الصهيونية والفرق بينهما كبير"، وأضاف: "المعادون للسامية هم الذين يرتكبون جرائم القتل والتجويع وتزييف الحقائق وإفشال أي جهود للسلام وهؤلاء لن يستطيعوا البقاء في فلسطين طالما أنهم مستمرون في هذه السياسة"، واعتبر طوغان أنه من غير المقبول الدفاع عمن يقتلون الأطفال وهم ذاهبون لمدرستهم وأكد طوغان علي سبب وضع رسامي الكاريكاتير علي قائمة "أعداء السامية" لقوة تأثير فن الكاريكاتير وأنه فن موجع. يؤثر في المتعلم والأمي واعتبر اتهامه بمعاداة الصهيونية شرفاً عظيماً حتي إذا اتبع ذلك الاغتيال في مرحلة أخري وقال: "شبابنا كل يوم بيموتوا علي أيديهم وأنا كبرت خلاص وكلامهم لن يهمني ولن أكف عن الرسم .. لو بطلت أرسم أموت". ويبقي شعور الفنان طوغان أن الكاريكاتير لابد أن يبقي، ولا يكتفي بمجرد النظر إليه في جريدة ولكن الكتاب أبقي وأهم، لذلك يخصص الوقت الأكبر من وقته في تجميع أعماله في كتب رخيصة الثمن عظيمة القيمة يجلس في بيته يكتب ذكرياته عن الناس والوطن، يشاهد الشباب ويقدم خبراته يصنع كل يوم مشروعاً للقادم يشعرك بالشباب وحتي في أشد حزنه بعد فقد ابنه الشاب جلست بجانبه استشعر الحزن في عيونه يبتسم ابتسامة رضا خاصة ويخبرني بمشروعة القادم رسم مصر من الاربعينات وحتي الآن في لوحات تشكيلية خاصة، ولكن عندما تنظر إلي كم الحزن داخله يخلق داخلك رغبة شديده بالحياة" .. وهي معادلة خاصة لا يعرف سر تركيبتها غير عمنا طوغان.