خلال سنوات المواجهة بين الجماعات الدينية المسلحة و السلطة، منذ بداية التسعينات، دخلت مسألة ترقية نصر أبوزيد الي الأستاذية في حبالها، في ظل حالة الإنشطار الفكرية والثقافية داخل المجتمع المصري، مما حول الترقية الي ساحة للمواجهة ووسيلة للضغط علي إدارة الجامعة، التي رضخت مضحية بحرية التفكير واستقلالية أحد أساتذتها، نظرت ادارة الجامعة الي أن المسألة مسألة ترقية أستاذ يمكن أن يتقدم بعد عدة أشهر للترقية مرة أخري ولا داعي لوجع الدماغ. رفض أبوزيد طريقة المواءمات والإنحناء للريح، فتجددت عملية للوأد لمدرسة جادة للدراسات الإسلامية كما حدث مع مدرسة الشيخ أمين الخولي وتلامذته في نفس الكلية قبل أربعة عقود، أدرك أن الإستمرار في هذا المناخ سيؤدي في النهاية الي انتهاء الباحث داخله فلم يعد هناك مكان لمفكر وباحث مستقل. عليك أن ترتمي في حضن أي من الجبهتين لكي تستمر. دفاعا عن جامعة طه حسين التي حلم بها أبوزيد واجتهد في سبيلها متحديا الفقر و تحمله مسؤلية أسرة كبيرة بعد وفاة الأب وهو في الرابعة عشر، متحديا العمل كفني لاسلكي ليدرس ويدخل الجامعة ويتخرج الأول علي دفعته بل ويحارب من أجل التعيين في الجامعة أمام محاولة منعه من التعيين، قرر أبوزيد أن يقبل دعوة جامعة ليدن للتدريس بها. خرج أبوزيد الذي قد بلغ الخمسين ولم يملك شيئا غير العلم الذي جاب شرق الأرض ومغربها من أجله، يُعلم أبناء الوطن سعيا الي مجتمع العدل والحرية. ظل يحمل المرارة بداخله والحزن علي بستان زهور تلاميذه ومدرسته الفكرية التي كان يرعاها. وانقطع عن العودة الي مصر. لكن فعل التفكير عند أبوزيد الباحث لم يذبل أو يشيخ وبدأت جهوده الفكرية تأخذ منحي انساني واسع. يكتب بالعربية والإنجليزية، وبدأ بستان زهور جديد من طلابه يزهر، هذه المرة طلاب من كل مكان في العالم الإسلامي وخصوصا أندونيسيا، وكتب عن حقوق المرأة والإنسان في الإسلام وأصبح يحاضر في أكبر الجامعات في العالم، وأخرج مؤلفه الماتع »هكذا تكلم ابن عربين« وساهم في تحرير الموسوعة القرآنية، ستة مجلدات باللغة الإنجليزية اشترك في تحريرها خيرة متخصصي الدراسات الإسلامية في جامعات العالم. وكان أبوزيد قد درس تأويل المتكلمين وعلماء اللاهوت المسلمين للقرآن في رسالته للماجستير عن المعتزلة، ودرس تأويل المتصوفة للقرآن في دراساته عن ابن عربي، وتناول تأويل البلاغيين للقرآن في دراساته عن إمام البلاغيين العرب عبد القاهر الجرجاني، ففي جامعة ليدن وأترخت استكمل الضلع الرابع بدراساته عن تأويل القرآن في العالم الإسلامي في العصر الحديث في القرون الثلاثة الأخيرة في الهند وايران وتركيا والعالم العربي وأندونيسيا التي تكونت فيها مدرسة كبيرة من طلاب نصر أبوزيد. فأخرج دراسته المهمة باللغة الإنجليزية عن حركة الإصلاح في الفكر الإسلامي. خلال السنوات القليلة الماضية حدثت انتقالة مهمة في فكر أبوزيد بانفتاحه علي تجارب تحديث الفكر الإسلامي في العالم الإسلامي وليس العالم العربي فقط وضاقت عدسة الباحث لتركز علي الدراسات القرآنية، وكذلك الموقف النقدي من جوانب التعصب في العالم الغربي. لكن الجانب الأهم هو الإنتقال في تعريف مفهوم القرآن من كونه نص الي العودة الي الظاهرة القرآنية قبل جمعها بين دفتي مصحف كمجموعة من الخطابات، وسعي نصر أبوزيد في دراساته الأخيرة البحث في رؤية العالم الكامنة في القرآن الكريم. ولقد ألقي أربعة محاضرات كباحث مقيم بمكتبة الأسكندرية في ديسمبر 2008م لخص فيها جهوده في الدراسات القرآنية، وفي محاضرة مهمة بجامعة نوتردام الأمريكية التي ألقي أبوزيد محاضرة افتتاح المؤتمر بها تحدث عن الرؤية اللاهوتية للعالم في القرآن التي اهتم بها علماء الكلام واللاهوتيين المسلمين، وكذلك الرؤية الصوفية المثالية، وتحدث عن الرؤية الفقهية للعالم التي تبناها الفقهاء، والرؤية الفلسفية للعالم في القرآن التي اهتم بها الفلاسفة المسلمين. وكانت دراسات أبوزيد الأخيرة وكتابه الذي كان علي وشك الإنتهاء منه عن الرؤية التكاملية في التعامل مع القرآن وعدم اهمال أي من هذه الأبعاد أو إهمال بعضها لحساب البعض الآخر. ان حلم أبوزيد الذي تمثل في معهد دولي للدراسات القرآنية الذي يفتقد اليه العالم الإسلامي الذي لا توجد فيه معاهد لتدريس الدين والوعظ وليس للدراسة العلمية للقرآن، لكن لم يهمله القدر لكي يتم حلمه الذي يحتاج مراكز بحثية لكي تقوم به وأصيب وهو علي وشك الإنتهاء من الدورة التدريبة الثانية في المعهد الدولي للدراسات القرآنية في أندونيسيا. فهل سيحدث مع أبوزيد ما حدث مع ابن رشد الذي أهمل فكره في الشرق واحتفي به الغرب فتقدم، وهل سيحدث نفس الشيء مع فكر أبوزيد الذي أصبح تلامذته في أندونيسيا وتركيا والهند وايران. نحتاج الي تجميع كل هذا العمل الذي فقدناه من نصر أبوزيد خلال العقد ونصف الماضيين، وهذا جهد أنا متأكد من عزم رفيقة حياته التي لولا وجودها في حياته خلال العقدين الماضيين لخسرنا الباحث ، متأكد من عزمها ونحن معها علي اتمام هذه المهمة. ان رحل جسد أبوزيد فسيظل فكره وتجربة حياته آية علي القيم النبيلة في حياتنا مهما طفي علي سطحها الغث. والي لقاء متجدد مع فكرك يا شيخي الجليل.