أثناء مناقشة رسالة الدكتوراه المخيف الآن، أن المسألة لم تعد قاصرة علي تلاعب السلطة بالدين ولا جمود التيار السلفي، ولا الصراع التقليدي بين الإسلاميين والليبراليين، إنما امتد التشدد ليشمل القاعدة المجتمعية ويتوغل فيها ليس من قبيل المبالغة أن نعتبر قضية نصر حامد أبو زيد من النقاط المفصلية في تاريخنا خلال القرن العشرين. بدأ القرن مع حلم ميلاد الجامعة المصرية، وأحلام النهضة والعقلانية والحداثة، وانتهي (كما أظهرت أزمة أبو زيد) بإعلان رمزي لاجهاض مشروع النهضة عبر تحويل الجامعة من إحدي قلاع العقل إلي محكمة تفتيش تفتش في الضمائر والعقائد متجاهلةً أبسط قواعد التفكير العلمي. أزمة نصر حامد أبو زيد، لم تكن فقط أزمة فرد تمت التضحية به علي مذبح الجماعة، كما قد يتراءي لنا من القراءة السريعة لها، هي بالأساس أزمة ثقافة تدور حول نفسها في دوائر مفرغة، وتعود دائما للبدء من نقطة الصفر. ثقافة ما تزال تخشي طرح الأسئلة الشائكة، وتفزع من المعرفة. هي أيضاً أزمة مجتمع يرفض الاختلاف ويفضل عليه التماثل غير المبدع. الآن وبعد أن وصلت قصة نصر حامد أبو زيد إلي خاتمتها، نظرياً علي الأقل بحكم الموت، يمكن لإعادة النظر في أوراق قضيته أن يكتسب أبعاداً جديدة. حيث يمكننا قراءة التفاصيل بعيداً عن الانفعال محاولين ربطها بسياقاتها العامة بحيث تكون مدخلاً لفهم أسباب الهلع من التفكير خارج الإطارات والحدود المرسومة سلفاً، وكيف يمكن أن يتحول جدال من المفترض به أن يكون عقلانياً إلي ما هو خارج عن العقل والمنطق، إذ ينتهي بتكفير باحث مرموق واصدار حكم قضائي بتفريقه القسري عن زوجته. نقطة البدء كانت من جامعة القاهرة، جامعة طه حسين، وأحمد لطفي السيد، ومصطفي مشرفة، لكن في زمن آخر تحولت فيه، والوصف للراحل لطفي الخولي، إلي "كيان مٌحسّن شكليا، من "كتّاب سيدنا" القائم علي أحادية الفكر، والتلقين المبسط الزجري الإرهابي، الذي يفرخ لنا حفظة نصوص مصبوبة في قوالب جامدة، تخاصم العقل، وحرية الفكر، وتجبن عن ارتياد آفاق الإبداع التي لا نهاية لها، من خلال ابتكار وتطوير مناهج، وأدوات البحث العلمي في جميع المجالات". بدأت القضية، حين تقدم د. نصر حامد أبو زيد بانتاجه العلمي إلي لجنة الترقيات بتاريخ 9/ 5 / 1992، واجتمعت اللجنة في 28/ 5 / 1992 حيث تم توزيع الانتاج العلمي علي لجنة القراءة والفحص المكونة من ثلاثة أساتذة من أعضاء اللجنة هم: د. محمود علي مكي، د. عوني عبد الرءوف، و د. عبد الصبور شاهين. اعتمدت اللجنة تقريرها الجماعي بشأن تقييم الانتاج بتاريخ 3/ 12 / 1992، بعد مرور سبعة أشهر، بالمخالفة لقواعد نظام العمل في اللجان العلمية الدائمة التي تنص علي ضرورة أن تقدم اللجنة تقريرها خلال شهرين علي الأكثر من تاريخ استلامها الانتاج. وفي 18/ 3/ 1993 صدر القرار برفض ترقية أبو زيد من أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة إلي درجة الأستاذية استناداً إلي أسباب بعيدة تماما عن المعايير العلمية الموضوعية، بل احتوي تقرير اللجنة، المفترض به أن يكون علميا، علي اتهامات واضحة بالكفر، وهو التقرير الذي كتبه عبد الصبور واعتمدته اللجنة، متجاهلةً تقريرين إيجابيين قدمهما د. مكي، و د. عبد الرءوف. تقرير د. عوني عبد الرءوف علي سبيل المثال خلص إلي أن "بعد دراسة كل عمل علي حدة وتقويمه، نتبين أن الدارس يدور في فلك خاص يتقن مادته ويتعمق في دراستها، وينظر إليها من زوايا خاصة جديرة بالاهتمام وإن كانت هذه المادة واحدة في الغالب الأعم وهو يستخدم معجما لغويا يتردد دائما في معظم هذه الأعمال لوحدة المادة المتناولة، ونتبين أن الكثير من مفرداته مصطلحات مستعارة من ميادين غريبة علي موضوعات دراساته ترفضها العين أول الأمر، ولكن تصبح مقبولة بعد ذلك، لالحاح الدارس علي استخدامها. وهو في كل هذه الأعمال يتناول الفكرة التي يعرضها بوعي تام وفهم عميق بجدية علمية، فجاءت الأعمال كلها إضافة هامة يفيد منها الطلاب المختصون. وهي بهذا ترقي به للحصول علي درجة أستاذ". تجاهل مجلس الجامعة هذا التقرير ومعه تقرير د. محمود مكي، وانحاز لتقرير عبد الصبور شاهين رغم ما شابه من مخالفات من ناحية الشكل ومن ناحية المضمون تخرجه عن أصول التقارير العلمية التي تتفق مع تقاليد الجامعات وقانونها. كما تجاهل أيضا تقرير قسم اللغة العربية القاضي بأحقية أبو زيد في الترقية، والذي فنّد تقرير اللجنة الرافض للترقية وأوضح ما شابه من قصور. ومن ضمن الملاحظات التي أوردها تقرير قسم اللغة العربية في نقد تقرير شاهين: خروج التقرير عن المهمة الأصلية للجنة الترقيات وهي "فحص الانتاج العلمي وحده دون التعرض لأي اعتبارات أخري". حيث احتوي التقرير علي عبارات تشكك في سلامة عقيدة صاحب الانتاج. ومنها: ما ورد في الصفحة الخامسة (السطر الثامن) من وصف لبعض اجتهادات ابو زيد بعبارة نصها: "وهذا كفر صريح". وقد استبدلت بها عبارة تقول: "وهذا تصور غريب ومرفوض". ولكن ظل الاصل المشطوب يلفت العين إليه. أيضا ما ورد في الصفحة السادسة (السطر التاسع من أسفل) من وصف لأحد آراء أبو زيد بأنه "رأي كافر مردود"، ثم شُطبت كلمة كافر ولكنها ظلت لافتة. ورد في الصفحة السابعة (السطران الخامس والسادس) وصف لكلام الباحث بأنه "كلام أشبه بالإلحاد"! من بين الأوصاف الأخري التي وردت في تقرير شاهين "العلمي" أوصاف من قبيل: "هو كذب وجهل وافتراء"، "وهذه في الواقع سمادير لا يقول بها كاتب مفيق". واتهامات لأبوزيد بأنه "يبذر الحب لفتنة طائفية". الملاحظات التي سجلها تقرير قسم اللغة العربية عديدة وكلها تؤكد لا علمية تقرير شاهين وكونه تفتيشا في عقيدة الباحث، لكن الغريب هو انحياز إدارة الجامعة لتقرير شاهين، بل أنها قامت بتمريره في جلسة طارئة عقدت لمناقشة موقف حكومة السودان من فرع جامعة القاهرة بالخرطوم، بدلا من عرض الموضوع في الجلسة الدورية العادية (موعدها كان 21/ 3 / 1993، أي بعد ثلاثة أيام فقط من الجلسة الطارئة) حيث تم عرضه في نهاية الجلسة والموافقة عليه بسرعة دونما نقاش. ومع تحول الأزمة إلي قضية رأي عام، حاول بعض المسئولين في جامعة القاهرة مساومة أبو زيد علي تهدئة الأمور في مقابل ترقيته بعد شهرين، إلا أنه رفض لأن القضية بالنسبة له لم تكن قضية ترقية أستاذ جامعي، إنما قضية مبدأ ومعركة من أجل حرية البحث العلمي والتفكير والاجتهاد، معركة لصالح العقل في وجه من يحاولون تغييبه واغتياله. العقل الذي تم تغييبه واغتياله في الجامعة، لم يكن حظه أفضل حين خرجت القضية للرأي العام، فصحيح أن أبو زيد وجد من يدافع عنه وعن قضيته العادلة من كبار الكتّاب والمفكرين والأكاديميين، إلا أن معسكر المهاجمين والمكفرين كان أعلي صوتاً، وأكثر تأثيراً في وعي من لم يقرأوا كتبه ورأوا فيه "المرتد" الذي يمثل خطراً علي عقيدتهم. ربما يكون هذا ما دفع أبو زيد لأن يكتب في مقال له بالأهالي بتاريخ 1/12/ 1993 عنوانه "المعقول واللامعقول في حياتنا.. تعليقات سريعة علي ما حدث" مذكراً بمقولة "اعرف الرجال بالحق، ولا تعرف الحق بالرجال" التي يتناساها الجميع تقريبا ويفعل عكسها. في المقال يحاول نصر تفسير سبب انحياز الكثيرين لجانب "خصمه" عبد الصبور شاهين "وهو من هو: أستاذ جامعي مرموق، ورمز من رموز الخطاب الديني المعاصر، وعضو لجنة ترقيات الاساتذة المساعدين والأساتذة، وعضو لجنة الشئون الدينية بالحزب الوطني الحاكم، ونجم تليفزيوني لامع في العالم العربي كله. أما نصر أبو زيد فهو أستاذ مساعد مازال يجاهد في طريق الوصول إلي كرسي الأستاذية. رجل من "غمار الموالي، بسيط الأرومة والمنبت" علي حد تعبير الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور علي لسان الحلاج". الكلمات السابقة لأبو زيد، والمقال ككل، لم تهدف لإثارة التعاطف، إنما كانت محاولة للفهم والتحليل، فصاحب "هكذا تكلم ابن عربي" رفض دوماً أن يوضع في خانة الضحية، حتي أنه حين غادر القاهرة إلي هولندا في يوليو 1995 للتدريس بجامعة ليدن، كان كأنما يسعي بالأساس للخروج من دور الضحية الذي قد يستعذبه آخرون، " في أوروبا لم أكن يوما (ضحية).. فمنذ اليوم الأول لوصولي عوملت كباحث". يقول أبو زيد في حوار لأخبار الأدب (أجرته عبلة الرويني) خلال زيارته الأولي لمصر بعد خروجه منها بثماني سنوات. في الحوار نفسه يذكر أنه "كان من المستحيل بالنسبة لي أن أقوم بالتدريس تحت الحراسة.. لقد دخلت الجامعة لمناقشة رسالة علمية وسط كلاب بوليسية ومصفحات وقوات وكان ذلك مرعبا بالنسبة لي... الجامعة عندي ليست كما عند الآخرين.. لقد كانت رحلة طويلة حتي أصل إليها.. كانت حلما لهذا كانت المرارة وكان الغضب". المفارقة أن أبو زيد الذي اضطر لمغادرة وطنه بعد اتهامه بالردة، لعب دوراً مهماً من منفاه الهولندي في اظهار الوجه المتسامح للإسلام أمام العالم، لكنه لم ير في الأمر أية مفارقة، بل وضعه في إطاره الصحيح وهو محاربة الجهل في كل مكان سواء في مصر أو في أوروبا. يقول: "لقد كان خوفي الدائم أن يُحتفي بي بصفتي (مضطهداً) خاصة وأن المقارنات كانت تعقد دائما بيني وبين سلمان رشدي (لست ضده لكنه حالة مختلفة). كنت حريصا دائما علي تأكيد أني باحث، وأن انتقاداتي من داخل الإسلام، وأني لست مستشرقاً. بعد 11 سبتمبر كان الوجه الآخر للخطاب الإقصائي، وكان لابد أن أضع هذا الخطاب في إطار نقدي". قرار الجامعة كان مقدمة لمسلسل عبثي وصل لحكم قضائي بردة أبو زيد عن الإسلام، في حينه، وتفريقه عن زوجته د. ابتهال يونس، التي علقت علي الدعوي التي رفعها محمد حميدة عبد الصمد للتفريق بينها وبين زوجها بقولها: "لسنا مجرد زيجة عادية، تجمعنا فقط قسيمة زواج، نحن أصدقاء وزملاء ورفقاء حلم كبير (.....) أشعر بالألم لأنهم انتهكوا حرمة بيتي، وتعدوا علي حريتي الشخصية. إنهم يحاولون تحطيم حلم حياتي في مجتمع متقدم". بدوره علق أبو زيد علي حكم التفريق بعده بسنوات معتبرا أنه أحدث صدمة لدي الناس، مردها أنه ارتبط بتفريق أسرة، والأسرة في التقاليد المصرية، شيء مقدس. كان موقناً بأنه ليس مرفوضا من جملة المجتمع المصري، باعتبار أن الصراع هو دائما بين (النخبة) بين (التيارات): الإسلاميين والليبراليين. رؤية أبو زيد للمجتمع قد تكون حالمة بعض الشيء، لأن المخيف الآن، أن المسألة لم تعد قاصرة علي تلاعب السلطة بالدين ولا جمود التيار السلفي، ولا الصراع التقليدي بين الإسلاميين والليبراليين، إنما امتد التشدد ليشمل القاعدة المجتمعية ويتوغل فيها، وتكفي قراءة تعليقات بعض "القراّء" علي خبر وفاة المفكر الراحل المنشور في أكثر من موقع إلكتروني، بكل ما احتوته (التعليقات) من شماتة وتشفٍ وإساءات لمفكر مهم لم يقرأوا أفكاره، يكفي هذا لنعرف إلي أي منحدر وصلنا.