مع عصفور فى نقابة الصحفيين بعد أن أتممنا - نحن أقرب المقربين إلي نصر - الإشراف علي شعائر الإعداد لدفنه، بعد أن توفي في مستشفي مدينة زايد التخصصي، في الساعة الخامسة والنصف من صباح الاثنين الماضي الموافق الرابع والعشرين من رجب 1431 هجرية الخامس من يوليو 2010 ميلادية، صحبنا جثمانه الطاهر لكي ندفنه مع أهله الذين سبقوه إلي الرحيل في مقبرة أسرة أبو زيد، بقرية قحافة التي أصبحت بعض أطراف مدينة طنطا، صلينا علي روحه المباركة بإذن الله في أحد مساجد القرية، ما بين صلاة الظهر والعصر، ودعوت له بالرحمة مع التكبيرة الثالثة بأن يثيبه الله خير الجزاء علي كل ما كتبه باسم الإسلام العقلاني المستنير، وعلي كل ما حاول أن ينجزه في سبيل تجديد الخطاب الديني الذي أصابه الجمود والتصلب والتخلف، ولم أنس في التكبيرة الرابعة أن أطلب من الله تعالي أن يعوضه، في نعيم جناته عن كل ما لقيه من اضطهاد علي أيدي الأصوليين المتطرفين الذين يسيئون إلي الإسلام أبلغ إساءة، ويشوهون صورته النقية في أعين الدنيا بأسرها، هؤلاء الذين آذوا نصر بلا ذنب ارتكبه سوي أنه أعلن شعارا يقول "أنا أفكر، فأنا مسلم". ومضي في طريق الاجتهاد الذي رآه فريضة علي كل من تصدي لعلوم الدين علي العموم، وخطاب الفكر الإسلامي علي الخصوص، غير خائف من الخطأ، فقد كان يؤمن بحق الخطأ، ويعرف أن المجتهد له أجر في كل أحوال اجتهاده، وأن هذا الأجر يتضاعف في حالة الإصابة، ويبقي منفردا كالعَلَم، مقررا حتي في حالة الخطأ ولذلك لم يخف الخروج علي الإجماع الجامد، وعلي العقل الإسلامي الذي تكلس، وفقد القدرة علي جسارة الاجتهاد والإبداع، فمضي في الطريق الذي اختاره لنفسه، وهو طريق العقلانية الإسلامية التي أوصلت الحضارة الإسلامية إلي أزهي عصورها، والفكر الإسلامي إلي ذري إنجازه التي قامت علي مبدأ تعدد الاجتهاد، والإيمان بأن اختلاف علماء الأمة _ دون قمع _ رحمة وسبيل إلي المزيد من الإنجاز والحضارة . ولم يكن مصادفة أن يختار نصر لأطروحة الماجستير موضوع التأويل عند المعتزلة وقد أكدت هذه الأطروحة في وعيه أنه لابد من التأويل، عندما يتعارض العقل مع النقل، وأن العقل هو الأصل في التكليف، والأساس في معني الثواب والعقاب، وأن الإنسان مكلف من خالقه بأن يُعْمِلَ عقلَه في الكون، وفي فهم نصوص خالقه، في اتجاه تجسيد القيم الدينية الكبري من ناحية، وفهم مقاصد الشريعة الإسلامية من ناحية ثانية ولذلك لم ينكر المجاز كما فعل بعض السلفيين القدامي، بل أكد وجود المجاز باعتباره أمضي أسلحة التأويل التي لا هدف لها، في النهاية، سوي صيانة العقيدة من الخرافة والجمود، والإعلاء من حضور الإنسان الذي جعله الله أسمي مخلوقاته، ومنحه العقل الذي هو أعظم ما فيه، وحجة الله عليه وما أكثر ما كان نصر يقول لي، في حواراتنا، لا تنس دلالات الحديث القدسي أول ما خلق الله خلق العقل، فقال له أقبل فأقبل، وقال له أدبر فأدبر، قال بعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أعز عليّ منك بك أثيب، وبك أعاقب وكنت أوافقه علي سمو دلالات هذا الحديث حتي لو طعن فيه البعض وكانت حجتي في ذلك اقتران العقل بالنور عند الكثيرين من علماء الإسلام وفلاسفته ومتفلسفيه وكان يوافقني علي ذلك مؤكدا أن النور من صفات الله عز وجل الله نور السموات والأرض وهو من مسميات العقل الإنساني، فيما يؤكد الغزالي في إحياء علوم الدين ويضيف نصر، نقلا عن الغزالي، أنه حين يذكر النور في القرآن الكريم يراد به العلم، مقابل الجهل الذي هو قرين للظلمة: "يخرجهم من الظلمات إلي النور". وكانت نتيجة هذا المنحي الفكري الذي تأكد في وعي نصر بعد الفراغ من أطروحة التأويل المجازي عند المعتزلة، أن دخل نصر عالم التأويل مرة أخري، ولكن من منظور المتصوفة بوجه عام وابن عربي بوجه خاص، نافذا من مفهوم التأويل إلي الإنسان الذي هو أسمي المخلوقات، وواصلا بين العقل الاعتزالي والحدس الصوفي بوصفهما مصدرين للمعرفة، يتكاملان مع الآيات المحكمات في النقل، مقيما نوعا من التوفيق بين العقل والحدس، من ناحية والنقل الذي يعطفه عليهما التأويل من ناحية، أو العكس من ناحية موازية . هكذا اكتمل وعي نصر العلمي وأصبح قادرا علي السباحة في بحر يعرف أن أعاصير الظلمة تنوشه من سبل كثيرة، شعاره العقل الذي رآه نورا يقذف في القلب، ومصباحا إذا صفا ضوؤه كشف لنا عن كل ما يزال، وسوف يزال، في حاجة إلي كشف، سواء من الخطاب الديني أو الدنيوي ولذلك أصبح العقل قرين الاستنارة، وأصبحت الاستنارة قرينة تجديد الأدوات المعرفية الحديثة التي أخذنا نعرفها منذ السبعينيات، عندما عرفنا البنيوية بنوعيها الشكلية والتوليدية، والهرمنيوطيقا والسميوطيقا، وهي معارف حديثة رأي نصر أنها قادرة علي إرهاف قدراته التحليلية في مواجهة أشكال الخطاب السائد، والإسهام في تأسيس مدخل جديد لفهم النص الديني المقدس، وتحليل خطابه البشري الذي لا يتمتع بالقداسة، والذي هو في حاجة إلي تجديد في التحليل والتفكير علي السواء، ومن ثم وضع هذا الخطاب الديني موضع المساءلة وللأسف، بسبب جدة مصطلح الخطاب الديني لم يفهم كثيرون أن الخطاب الديني شيء و الدين شيء آخر، فالخطاب الديني هو كلام البشر عن الدين، ولأنه كذلك فهو بشري ونسبي في آن، وقابل للمساءلة والرفض والتجديد في الآن نفسه وكان سوء الفهم هذا هو بداية الأعاصير التي ظلت تتجمع إلي أن انفجرت انفجارها القمعي مع الأبحاث التي تقدم بها نصر للترقية إلي درجة الأستاذية، بعد أن تمت ترقيته إلي درجة أستاذ مساعد قبل ذلك . المفارقة الطريفة التي كنت أفكر فيها، وأنا عائد من المقبرة، بعد دفن أقرب أصدقائي إلي نفسي، وأحبهم إلي قلبي، أن نصر كان يريد مواصلة طريقه في الدراسات العليا في مجال الدراسات الأدبية والنقد الأدبي، ولكن أساتذتنا الكبار، رأوا أن القسم في حاجة إلي متخصص شاب في مجال الدراسات الإسلامية، وبدل أن يمضي نصر في الطريق الذي سبقته إليه وأغريته به، وهو التعمق في دراسة النقد والبلاغة، شاءت إرادة أساتذتنا بعد إرادة الله طبعا أن يمضي نصر في طريق الدراسات الإسلامية التي لم يكن بقسم اللغة العربية، وقتذاك، متخصص فيها وهكذا تقرر أن يسير في طريق الدراسات الإسلامية ولم تفلح محاولاته أو محاولتي في إثناء الأساتذة الذين رأوا أنهم علي حق، ويراعون الحاجة الموضوعية لقسم اللغة العربية بآداب القاهرة، بل نهرني بعضهم متهما إياي بالتعاطف مع نصر لسابق علاقتي به التي أفقدتني النظرة الموضوعية إزاء ضرورة تخصيصه في الدراسات الإسلامية ولم يكن أمامه وأمامي سوي الإذعان وأذكر أننا تحاورنا قبل الشروع في التخصص عن المشاكل المحتملة في فضاء الدراسات الإسلامية ولكني حاولت التخفيف عنه بالسخرية المحبة، وسألته ضاحكا وماذا يمكن أن تفعل يا عم نصر؟ إنك لن تقعد الدنيا، ولن تقيمها، فأنت ستكتب أطروحتين علميتين عن موضوعين، يصلان ما بين علوم الدين التي أعرف غرامك القديم بها، ومجال الأدب الذي لا يزال يجذبك إليه منذ الصبا، حين كنت تتقمص نَفَسَ صلاح جاهين الشعري، وتكتب قصائدك العامية التي كان ينشرها لك الشيخ أمين الخولي صاحب ورئيس تحرير مجلة الأدب ولم أكن أنتبه، أو حتي أعرف، في ذلك الوقت، أن نصر سيمضي فعلا في طريق أمين الخولي في عقلانيته الإسلامية ذات المنزع الاعتزالي من ناحية، وفي دعوته إلي أهمية الدرس الأدبي للقرآن الكريم من ناحية مقابلة ولم أكن أعرف أن الدرس الأدبي للقرآن الكريم هو الذي أهاج أصحاب العقول الجامدة علي المرحوم أحمد محمد خلف الله، عندما كتب أطروحة الدكتوراة، تحت إشراف أمين الخولي عن القصة في القرآن ، وذلك بسبب ما ذهب إليه من إمكان فهم بعض القصص القرآني بوصفها مجازات ورموزا وتمثيلات، وليست وقائع تاريخية، فهاجت عليه العقليات السلفية في الجامعة وخارجها في الأربعينيات، ونقلت الجامعة الرجل الذي رفضت أطروحته إلي وزارة المعارف، واضطر إلي كتابة أطروحة أخري عن الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، إن لم تخني الذاكرة لم تكن هذه المعلومات في ذهني، عندما هوّنت من مخاوف نصر مما يمكن أن يحدث من مشاكل في الطرق الإشكالية في فضاء الدراسات الإسلامية المليئة بالمتفجرات، في زمن كان التأسلم السياسي قد أخذ يستعرض عضلاته القوية، وينشر نفوذه، بعد تحالفه مع السادات، سامحه الله وبالطبع لم أكن أتخيل، ولا حتي يمكن أن أتقبل أن نصر الطيب المسالم الحاني الذي أعرفه من الستينيات الأولي، متحمسا لفكر الإخوان المسلمين، سوف تثير كتبه ضجة هي الكبري من نوعها في تاريخ الثقافة العربية الحديثة، بعد ضجة طه حسين سنة 1926، وتحديدا منذ يوم الخميس الثالث من ديسمبر سنة 1992، يوم أن رفضت لجنة الترقيات برئاسة أستاذنا شوقي ضيف، سامحه الله ورحمه، ترقية نصر إلي درجة أستاذ، وهو اليوم الذي بدأت فيه العاصفة السوداء التي لم تتوقف حتي وفاة نصر حامد أبو زيد رفيق عمري في زمنه الجميل الذي مضي . وانقطع سيل الذكريات عندما عدت إلي منزل أسرة نصر الجديد، فقد رحل الكثيرون من أقربائه الذين كنت أعدهم أقرباء لي، ولم يبق سوي شقيق نصر الأصغر أسامة الذي ترعرع بيننا في المحلة الكبري، وكان يري في شخصي وسعيد الكفراوي وزكريا التوابتي ورمضان جميل ومحمد صالح وأحمد الحوتي وجار النبي الحلو ومحمد فريد أبو سعدة أشقاء نصر وأخوته الكبار الذين لهم الولاية عليه وعانقت أسامة الذي رأيت سنوات عمري التي جاوزت الخامسة والستين منعكسة علي وجهه، بعد أن أصبح أبا عارك الحياة وعاركته وبكي أسامة في صدري، ولم أمنع نفسي من إطلاق الدمع في صدره وجلست ما بين أحمد مرسي وسعيد الكفراوي أمام المنزل، وأصابني الخرس، وتركت نفسي لسيل الذكريات التي تجمعني ونصر، منذ أن لقيته سنة 1963 للمرة الأولي مع رفاق قصر ثقافة المحلة الكبري، مع زكريا التوابتي الذي كان عضوا في تنظيم الإخوان المسلمين السري، ومع سعيد الكفراوي الذي كان يشبه نصر في تعاطفه مع فكر سيد قطب، ويعتز بما قرأه من آراء فيما أصدره من مجلدات في ظلال القرآن وبينما كان سعيد متعصبا لأفكار زكريا التوابتي، قريبا كل القرب منه، كان نصر رزينا، هادئا، يقبل اختلافي معهم، فقد كنت قريب العهد بمعرفة الفكر الماركسي، متحمسا تحمس المبتدئ الذي يظن بنفسه المعرفة التي هي نوع من الجهل في حقيقة الأمر . وكان من الطبيعي أن أصطدم مع زكريا التوابتي، رحمة الله عليه، فقد كان يراني مارقا منحرفا، كما يري في محمد صالح مشروع شاعر، لكن أحمق الخطو والاختيار ولذلك ظلت علاقتي به متحفظة، علي النقيض من علاقتي بنصر ومحمد صالح وسرعان ما أدركت مدي الطيبة التي ينطوي عليها سعيد، وتوقه الذي لم يكن يعلنه إلي التحرر من سطوة زكريا والذي تدل عليه كتاباته . وكان نصر قارئا نهما، واسع الأفق، وكنا علي حوار لا ينتهي، لا يخلو من الاحتداد، أحيانا، عندما كان يضيق بما كنت أصدمه من دوجماتية يسارية فجة أحيانا لكنه لم يكف عن المجادلة بالتي هي أحسن أذكر مرة أننا ذهبنا، في أحد الأصياف، إلي فرح أخت صديقنا المرحوم أحمد عسر، وكان سعيد نائما علي الفراش، بينما كنت أنا ونصر، نتناقش طوال الليل، بينما كان سعيد يفتح عينيه كل ساعتين تقريبا، فيرانا مستمرين في النقاش، فيصرخ فينا قائلا لسه بتناقشوا القضية، ناموا واتهدّوا، أنا عايز أنام وكانت القضية مستقبل مصر، هل تتجه إلي الدولة الدينية التي كان، ولا يزال، يدعو إليها الإخوان المسلمون، أم تتجه إلي الدولة المدنية الماضية في طريق التحول الاشتراكي الذي كان يدعو إليه عبد الناصر ويباركه اليسار وقد ظلت هذه القضية تؤرقنا جميعا، وتمايز بين جيلنا الذي انقسم ما بين اليمين واليسار، إلي أن حدثت محاكمة سيد قطب وتم قمع الإخوان المسلمين بعنف بشع، وذاقوا التعذيب الرهيب الذي عرفه الشيوعيون المصريون من 1959 إلي 1964 وجاء الدور بعدهم علي الإخوان ليخلو الطريق لليسار وحده ويصمت أو يختفي كل من خالف أو اختلف مع طريق التحول إلي الاشتراكية التي كانت رأسمالية دولة في حقيقة الأمر . وأذكر، خلال محنة الإخوان المسلمين، تعاطفي مع نصر في حزنه علي إعدام سيد قطب، فمبدأ إعدام المفكر أو اضطهاده لأفكاره لا يزال مبدأ مرفوضا بحسم في قناعاتي الفكرية والسياسية وأذكر كيف أخبرني نصر بذهابه إلي قريته لكي يدفن كتب سيد ومحمد قطب بعيدا عن الأعين وقد أصابنا الهلع جميعا بعد القبض علي زكريا التوابتي، فيما أصبح مؤامرة بزعامة سيد قطب للانقلاب علي الحكم، واتضح من التحقيقات أن مقر التنظيم، في المحلة الكبري، والعيادة الطبية وبعض الأسلحة عثر عليها في مسكن زكريا الذي كنا نلتقي فيه للنقاش حول الأدب، ويبدو أن زكريا، رحمه الله، كان يستخدمنا بوصفنا ستارا يضلل أي مراقبة أمنية وقد أخبرني زكريا بعد سنوات، حين أفرج عنه السادات ضمن من أفرج من معتقلي الإخوان، أنه ذكر اسمي بوصفي عضوا في التنظيم السري الذي كان فيه، ليضلل المعذبين عن أسماء الأعضاء الحقيقيين ولم يجد حرجا في ذلك، فقد كنت من الكفار في نظره، رحمه الله، فقد سامحته علي ما فعل منذ سنوات طويلة . ولا أزال أذكر أن نصر لم يتخل عن نزوعه الإسلامي، كل ما حدث أن هذا النزوع ظل فكريا محضا، لم يكتسب أية صفة سياسية، قط وكان سلوك نصر مصداقا لهذا السلوك، فلم أعرفه كاذبا، أو متهجما علي أحد، أو عنيفا وكان بالغ الأدب والحياء، لا يرتفع صوته إلا عند مشاكستي الفكرية له وظل علي نزوعه الإسلامي الذي تزايدت عقلانيته التي دفعت به إلي دائرة الاجتهاد، فألقي به الله في تجربة الخارجين علي العقول الجامدة الجادة . ولن أنسي الجانب الحياتي لنصر، فقد كان مثلنا في الانتساب إلي أسر فقيرة، لولا مجانية التعليم ما تعلم أبناؤها وقد كان والده يريد له طريق الأزهر، ولكن موته المبكر، دفع الصبي اليتيم، نصر أكبر إخوته، إلي الاكتفاء بالتعليم المتوسط، ليعمل كي يرعي أسرته، فاضطر إلي دخول مدرسة الصنائع الثانوية _ قسم لاسلكي في طنطا، والتحقق بوظيفة فني لاسلكي في شرطة نجدة المحلة الكبري، حيث عرفته وكان مفتونا بشعر صلاح جاهين، يكتب مثله، ولا يكف عن الكد في سبيل توفير ما يضمن العيش المستور المتقشف لأسرته التي كان عليه رعايتها، أمه التي كانت تذكرني بالأم الصارمة الوتد في رواية خيري شلبي الشهيرة، وإلي جانب الأم أختان وأخوان محمد رحمه الله وأسامة مد الله في عمره ولا أزال أذكر قلقه حين كان ينتهي الدقيق من المنزل أو يقترب، فيحرم نفسه من كل شيء كي يجمع ثمن جوال الدقيق الذي كان يشتريه، جملة، لتخبز به أمه خبيز الشهر كله وكان يضن علي نفسه بأي ثوب جديد إلا بعد أن يؤمن لأخواته الأربعة كساءهم وغذاءهم وما كان يقبل مساعدة من أحد، أو أي دعم مالي، وكنت أشهد بعبقرية التدبير والتوفير التي ورثها عن أمه التي أصبحت أمنا ورغم ظروفه المالية القاسية، لم يكن يبخل بشراء الكتب خصوصا المستعملة ولا يكف عن توسيع معارفه ليستكمل حلمه بالتعليم الجامعي، فحصل علي الثانوية العامة من منازلهم بمجموع مرتفع، أتاح له الالتحاق بكلية الآداب _ جامعة القاهرة التي دخلها، للمرة الأولي، بصحبة سعيد الكفراوي ومحمد صالح وأحمد عسر، رحمهما الله، وشوكت فضل، الطفل المدلل لشلتنا، لحضور مناقشة رسالة الماجستير التي حصلت عليها سنة 1969. ودخل نصر إلي الكلية التي انتسب إليها، والقسم الذي نشأت فيه، وقمت بتدريس النقد الأدبي القديم له في عامه الجامعي الثالث، وأشهد أنه كان طالبا شديد الاجتهاد والمثابرة، نابغا أكثر عمقا في ثقافته من بعض من قاموا بالتدريس له، وذلك لخبراته الثقافية المتراكمة وكان جزاؤه التخرج بتقدير ممتاز وتعيينه معيدا بعد تخرجه بهذا التقدير الذي لم يسبقه أحد إليه لسنوات سوي رفيق عمره الذي هو أنا. ولا أنسي كيف تم نقله من فني لاسلكي في شرطة نجدة المحلة الكبري إلي شرطة نجدة قسم العجوزة في القاهرة، فقد كان الأمر كله مصادفات طيبة، كنت أردها إلي طيب نفسه وصدق طويته وبره بأهله، فقد كان صعبا عليه متابعة الدراسة والتفوق فيها، وهو في المحلة وتصادف أن كانت زميلتنا نادية عيد المعيدة بقسم اللغة الإنجليزية صديقة حميمة، ومرة كانت تكلمني عن والدها الذي كان رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للاتصالات السلكية واللاسلكية، فحدثتها عن صديقي نصر، ومدي صعوبة أن يتفوق وهو في المحلة، وأعجبتها عصاميته، ونقلت هذا الإعجاب إلي أبيها، فأصدر الرجل في اليوم التالي، مباشرة، قرارا بنقل نصر إلي شرطة نجدة العجوزة بالقرب من جامعة القاهرة، علي أن يتم تنفيذ النقل فورا، ووقع نصر في حيص بيص، فكيف كان يمكن أن ينقل أسرته إلي القاهرة فورا، وهو عائلها الوحيد وراعيها الدائم، وإذا بالمصادفة الطيبة تتكرر، ويصدر قرار بنقل صديق طفولتي رشاد شعبان من مدرس بالثانوية الصناعية بالهرم إلي المحلة الكبري وكان يستأجر وأسرته شقة متواضعة بالدور الأرضي في عمارة أكثر تواضعا، في إحدي حواري العمرانية، وذهبت معه لإقناع صاحبة المنزل التي كانت تكن له المودة، كي تسمح بانتقال أسرة نصر إلي الشقة التي سيتركها وترك نصر المحلة، واستقر في العمرانية، وأصبح جارا لأحمد مرسي صديق عمرنا، وحصل علي الليسانس كما أراد، وبالتقدير الذي كنا نتوقعه، وأصبح زميلا لنا في قسم اللغة العربية، ودخلت رفقة العمر إلي مرحلة جديدة هي استمرار خلاق لمرحلة المحلة التي أخذ رفاقها ينتقلون إلي القاهرة واحدا بعد الآخر، محمد صالح أولا، ثم سعيد الكفراوي ثانيا أما محمد صالح فقد سبق ثلاثتنا إلي الموت ومن سخرية القدر أن موته جاء بعد أشهر معدودة من قوله لسعيد ضاحكا يا ابن الكفراوي، علينا أن نخطط لحياتنا في الخمسين سنة القادمة وكانت المرة الأخيرة التي رأيت فيها نصر هي عند ذهابي معه لعزاء سامية زوج محمد صالح وولديه محمد وحكيم وبعدها دعانا نصر للعشاء معه في المنزل الصغير الذي اقتناه وزوجه الوفية ابتهال، بعد أن جاوز الستين بسنوات، بضاحية من مدينة الشيخ زايد وبعدها سافر نصر، وتنقل بعد وداعنا، قبل سفره، إلي بعض البلاد الأوروبية التي كانت تدعوه ليحاضر فيها، ثم إلي إندونيسيا التي كان قد زارها من قبل، وهناك أصابه فيروس فتاك، أصاب غشاء المخ، وأعادته ابتهال، زوجه القوية، إلي القاهرة بجهد جبار وكأنها كانت تعرف النتيجة التي أكدها الأطباء، فآثرت أن يبقي في القاهرة بين أحبائها، وكانت تمنعنا من الزيارة، بناء علي تعليمات الأطباء الذين ظلوا يخشون أن ينتقل الفيروس القاتل منه إلي زائريه بالعدوي، فمنعوا الزيارة إلا لزوجه التي كانوا يتخذون الاحتياطات الكثيرة لحمايتها من العدوي وكان هذا أصعب الأشياء علي نفسي، فقد كنت أريد أن أجلس إلي جواره، وأهمس له في أذنه يا نصر، لقد تغلبنا علي صعاب كثيرة في حياتنا، ونالك الكثير من الظلم والغبن والاضطهاد، ولم يكرمك بلدك، قط، بينما قامت بلاد كثيرة ومؤسسات عديدة بتكريمك وقد أصبحت رمزا عالميا للقيمة، ونموذجا لنا نقتدي به في الإصرار علي أفكار الاستنارة مهما كان الثمن، فلا تضعف يا رفيق العمر، وعد إلينا من الغيبوبة كنت أريد أن أهمس بهذه الكلمات في أذنه، لكن حيل بيني وبينه، ولم أره إلا علي خشبة المغسلة الموجودة في مشرحة المستشفي، فقبلت وجنتيه، وقلت له: يا رفيق عمري، لماذا لم تنتظرني، كي نرحل معا لكنه لم يرد عليّ ولم يبق لي إلا أن أقول له وجثمانه داخل المقبرة وداعا .. يا رفيق العمر، وإلي أن ألقاك سأظل أقول مثلك أنا أفكر فأنا مسلم وليذهب أدعياء التطرف والتعصب الديني إلي حيث ألقت رحلها أم قشعم، وبكيت، وهل أملك إلا البكاء في وداع رفيق عمري وتوأم فكري رحمه ورحمنا الله .