نشاط مكثف للرئيس السيسي اليوم الإثنين.. فيديو وصور    وزيرة البيئة تستعرض جهود الدولة في التكيف مع آثار تغير المناخ    مي عبد الحميد: مد فترة الحجز ب"سكن لكل المصريين 7" استجابة لمطالب المواطنين    اقرأ غدًا في «البوابة».. الرئيس السيسي يؤكد ل«جروسى»: مصر في طليعة الداعمين لعالم خالٍ من الأسلحة النووية    لن ندخل الحزام الزلزالي.. البحوث الفلكية توضح مدى تأثير العواصف الشمسية    أركان البيت الأبيض تهتز.. ماسك يغادر منصبه الفيدرالى بكدمة فى عينه حاملًا «مفتاحًا ذهبيًا»    مران الزمالك - انتظام نبيل عماد بعد تعافيه من الإصابة    رومانو: الفحوصات الطبية تفصل انضمام لويس هنريكي ل إنتر    عدلي القيعي يكشف مفاجأة بشأن رحيل معلول عن الأهلي    تقارير: باير ليفركوزن يحدد شرطه للموافقة على عرض ليفربول لضم فيرتز    التحقيق مع المتهمين بتقييد شاب بالحبال وقتله في بولاق الدكرور    ماذا حدث بين أحمد السقا وطليقته وما علاقة طارق صبري؟    الجوزاء.. تعرف على صفات برج الفرعون المصري محمد صلاح    القاهرة الإخبارية: ليالٍ دامية في غزة.. الاحتلال يرتكب مجازر جديدة بحق المدنيين    مدير تلال الفسطاط يستعرض ملامح مشروع الحدائق: يتواءم مع طبيعة القاهرة التاريخية    «ربنا مايكتب وجع لحد».. تامر حسني يكشف تفاصيل تعرضه ونجله لأزمة صحية ودخولهما المستشفى    دعاء العشر الأوائل من ذي الحجة لطلاب الثانوية العامة وتيسير الأمور.. ردده الآن    يامال: لا أفكر في الكرة الذهبية.. ومن المستحيل أن ألعب ل ريال مدريد    الإصلاح والنهضة: 30 يونيو أسقط مشروع الإخوان لتفكيك الدولة ورسّخ الوعي الوطني في مواجهة قوى الظلام    "مطروح للنقاش" يسلط الضوء على قرارات ترامب بزيادة الرسوم الجمركية على واردات الصلب والألومنيوم    طرح البرومو الرسمي لفيلم "في عز الضهر".. وهذا موعد عرضه في السينمات    إيساف: «أبويا علّمني الرجولة والكرامة لو ماعييش جنيه»    أرامكو السعودية تنهي إصدار سندات دولية ب 5 مليارات دولار    خالد الجندي: الحج المرفّه والاستمتاع بنعم الله ليس فيه عيب أو خطأ    ضربات الشمس في الحج.. الأسباب والأعراض والإسعاف السريع    واشنطن بوست: فوز ناوروكي برئاسة بولندا تعزز مكاسب اليمين في أوروبا    وزير خارجية الكويت: العالم يواجه تحديات إقليمية ودولية متسارعة تتطلب أعلى درجات التنسيق    أهم أخبار الإمارات اليوم.. محمد بن زايد يهنئ نافروتسكي بفوزه بالانتخابات الرئاسية البولندية    مياه الفيوم تطلق حملات توعية للجزارين والمواطنين بمناسبة عيد الأضحى المبارك    شرح توضيحي للتسجيل والتقديم في رياض الأطفال عبر تعليم القاهرة للعام الدراسي الجديد.. فيديو    رئيس جهاز العاشر من رمضان يتدخل لنقل سائق مصاب في حريق بمحطة وقود إلى مستشفي أهل مصر للحروق    تعرف على محطات الأتوبيس الترددي وأسعار التذاكر وطريقة الحجز    هل يجوز للمرأة ذبح أضحيتها بنفسها؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    في رحاب الحرم.. أركان ومناسك الحج من الإحرام إلى الوداع    موعد أذان مغرب الاثنين 6 من ذي الحجة 2025.. وبعض الآداب الواردة في عشر ذي الحجة    رئيس جامعة المنوفية يرأس اللجنة العليا لتكنولوجيا المعلومات والتحول الرقمي    مدينة الأبحاث العلمية تطلق سلسلة توعوية بعنوان العلم والمجتمع لتعزيز الوعي    عبد الرازق يهنىء القيادة السياسية والشعب المصري بعيد الأضحى    «أجد نفسي مضطرًا لاتخاذ قرار نهائى لا رجعة فيه».. نص استقالة محمد مصيلحى من رئاسة الاتحاد السكندري    بريطانيا: الوضع في غزة يزداد سوءًا.. ونعمل على ضمان وصول المساعدات    رئيس جامعة بنها: توفير استراحات تراعي كافة فئات الطلاب    «صحة الاسكندرية» تعلن خطة التأمين الطبي لاحتفالات عيد الأضحى    تقارير: بي بي سي ألغت مقابلة بين صلاح ولينكر خوفًا من الحديث عن غزة    يديعوت أحرونوت: وفد إسرائيل لن يذهب إلى الدوحة للتفاوض    تسرب 27 ألف متر غاز.. لجنة فنية: مقاول الواحات لم ينسق مع الجهات المختصة (خاص)    وزير الثقافة ينفي إغلاق قصور ثقافية: ما أُغلق شقق مستأجرة ولا ضرر على الموظفين    الهيئة العامة للأوقاف بالسعودية تطلق حملتها التوعوية لموسم حج 1446    السجن 3 سنوات لصيدلى بتهمة الاتجار فى الأقراص المخدرة بالإسكندرية.. فيديو    للمشاركة في المونديال.. الوداد المغربي يطلب التعاقد مع لاعب الزمالك رسميا    تخريج 100 شركة ناشئة من برنامج «أورانج كورنرز» في دلتا مصر    الرئيس السيسى يستقبل مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية    حزب السادات: فكر الإخوان ظلامي.. و30 يونيو ملحمة شعب وجيش أنقذت مصر    «تعليم الجيزة» : حرمان 4 طلاب من استكمال امتحانات الشهادة الاعدادية    توريد 169 ألفا و864 طنا من محصول القمح لصوامع وشون سوهاج    تحكي تاريخ المحافظة.. «القليوبية والجامعة» تبحثان إنشاء أول حديقة متحفية وجدارية على نهر النيل ببنها    «التضامن»: انطلاق معسكرات «أنا وبابا» للشيوخ والكهنة لتعزيز دور رجال الدين في بناء الأسرة المصرية    رئيس الوزراء يُتابع جهود اللجنة الطبية العليا والاستغاثات خلال شهر مايو الماضي    هيئة الشراء الموحد: إطلاق منظومة ذكية لتتبع الدواء من الإنتاج للاستهلاك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حنان الشيخ : رسائل انسي الحاج
نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 03 - 2014

في ذكري الأربعين للشاعر أنسي الحاج ، خصت الفنانة التشكيلية " أخبار الأدب" بعدد من لوحاتها المتميزة التي تستلهم ابداعاته، كما خصتنا الروائية حنان الشيخ بعدد من رسائله لها..التي يتحدث فيها القاهرة..كما تكشف أسرار زيارته الوحيدة في الستينيات للمدينة.
لمحت الشاعر أنسي الحاج صدفةً في بيروت، عرّفتُه بنفسي. كنتُ أكتب الخواطر وأرسلها إلي الصفحة الطلابية في جريدة النهار حيث يعمل هو محرراً سياسياً ورئيسا لقسم الصفحات الثقافية. كتبت له رسالتي الأولي من مدرستي الداخلية في صيدا، وطلبت منه وبإصرار، إن هو أراد أن يردّ علي الرسالة، أن يخاطبني بصيغة المؤنث.
كانت تلك رسالتي الأولي له، أصف له فيها وحدتي ومعاناتي رغم أنني أنا التي اخترتُ وصممت علي الالتحاق بالمدرسة الداخلية، فقد أردت أن أعيش بعيداً عن بيروت الصاخبة، ولا أعرف بالضبط لماذا! ربما كان الدافع رغبتي في أن أصبح تلميذة مجتهدة. وأذكر أنه حين تغامزت عليّ البنات، زميلاتي، عندما طرحت فرشتي التي أتيت بها من بيتنا فوق رفاص السرير الحديدي، وكانت أقصر منه، لم أفكِّر إلا في أنسي الحاج لأشكو له همّي. وعندما لاحظت وجود بزاقة (حلزونة) قرب الجدار الرطب بجانبي، ووضعت لها ورقة خس لتتغذي عليها داخل غرفتي التي كانت تشاركني فيها تلميذة أخري، لم أفكِّر يومها إلا بأنسي الحاج ليشاركني في هذه الحكاية.
بيروت، 6 حزيران 1962
يا عزيزتي حنان، لماذا تأخّر عليّ جوابك، كنت أنتظره بين لحظة وأخري وها هو بين يديّ أقرأه بغبطة. كنت ناوية أن أذهب إلي صيدا قبل أيام حتي أراكِ، لكنني عدلتُ في اللحظة الأخيرة "
كتبت رسالة إلي أنسي في اليوم التالي لوصولي إلي القاهرة. بدأت الرسالة بقولي له إني بصقت علي حياتي من نافذة الطائرة وهي تحلِّق مغادرةً سماءَ بيروت، وبأني متلهفةٌ للوصول إلي مصر، هبة النيل، كما قرأنا في الكتب المدرسية. وكيف أني رأيت القاهرة في ذات الصباح وكأنها داخل شرنقة من الخيوط الشفافة اللا لوْنَ لها ، بسبب الضباب أو الشبّورة كما يسميها المصريون. وما أن أسقطت الرسالة في صندوق البريد حتي تملكني الخوف. لا شكّ أن أنسي سيحكم عليَّ بالكذب، فنوافذ الطائرة موصدة دائما ولا تُفتح أبداً، لكنني رحتُ أطمئن نفسي حين تذكَّرت بأنه هو أيضاً حاور في إحدي قصائده، نَسرَ أظفره وأطلق عليه اسم شارلوت وقال فيها "لقد علمتُ أن شارلوت التي تنسّلها إصبعي في منتهاها قبل بداية الظفر، إنّما تخطّت القافلة كشافة تتجسس، للحال حقدتُ عليها وقلت لها;: ماذا تريدين؟
ويجيب أنسي علي رسالة بعثت بها له من القاهرة:
بيروت في 2/2/63
"عزيزتي نان،غوصي في السفر، غوصي في ذلك الشيء الرائع والرهيب. هل تعرَّفتِ إلي النيل، اشعر أني أحب أن أراه مرةً في حياتي. يا حنان، الأنهار عظيمة ، النهر صديق لطيف وطاهر، النهر صديق واثق ودائم، النهر لا يُزهق منه. هو هنا تحت قدميك، تقدرين أن تنامي عليه بطمأنينة."
وجدت نفسي وأنا في القاهرة أخبره في رسالة أخري كيف أنني أنتحل شخصية التلميذة المثالية في مدرسة السنيّة الثانوية للبنات في السيّدة زينب، بينما عينايَ في واقع الحال تلاحقان القصص والروايات المعروضة في المكتبات وعلي الأرصفة. أذهب إلي خان الخليلي أبحث عن شخصيات نجيب محفوظ في ثلاثيته: قصر الشوق وبين القصرين والسكّريّة ؛ أريد أن ألتقي بالمعلمة التي رأيتها في الأفلام وفي فيلم شباب امرأة بالذات. والمعلمة الأخري التي سمعت صوتها عبر المذياع في بيروت. انها المعلمة روايح التي اتمني لو أتخيلها تجلس في الفيشاوي أو الموسكي قرب وكالة الغورية؛ أريد أن أراها وهي تقرِّّب الشيشة من فمها وتمجّ سبابتها مجّة طويلة ثم تنفث الدخان وكأنها تريد تأكيد سطوتها المعزَّزة بإغرائها للرجال من حولها، مستعرضةًً ثراءها المادي بأساورها الذهبية التي تخشخش كلما حرَّكت يدها.
بيروت في 15/5/63
"مشغول ٌ بكتابي الجديد هذه المدة، لست مشغولاً كثيراً، لكن فكري مشغول عليه، سمّيته الرأس المقطوع ، ما هو؟ شعر، شعر يا نان، لكنْ فيه أثر، عليك أن تفتشي عنه إذا أردتِ أن تعرفي أين هو، لن أدلّك".
ديوان "لن" معي في القاهرة. إنّهُ البوصلة التي أحتاج إليها وسط تشتت أفكاري. لغته الحرّة ذات الصور الأخاذة المتشابكة، لا تزيد من حدّة توتري الذي لم أكن أعرف له سببا، بل تنزل عليّ ملاكا هادئا، يأخذني من يدي فأركنها فوق جناحه. وأكتشف أن القصائد في "لن" والقاهرة يكملان بعضهما بعضا، ومعاً يحدثان إيقاعاً لا وزن له ولا قافية، بل هو أشبهُ بنبضٍ فيه كل الآلام والحكايا والسخرية.
بيروت في 11 شباط 63
المهم يا نان قلبك، يجب أن نكون متفقين مع قلبنا، القلب "أخو شليتي" إذا أغضبناه حرق ديننا وإذا تركناه يجف، قتلنا. قولي لي هل في القاهرة قلوب؟ أصحابي يكادون يجمعون علي القول ان أجمل ما في القاهرة قلوب آثارها.
كتبت قطعةً وجدانية وحملتها بنفسي إلي مجلة روز اليوسف؛ وحين تُنشر أطير فرحاً فأكتب لأنسي عن ذلك. رغم ان المحرر قدمها بالكلمات التالية: أن المئات من الشباب يكتبون القصص والخواطر مستعملين لغة حديثة غريبة "كالعصفور الأزرق" وبأنهم ضائعون في متاهات الوجودية والضجر. لكنني لم أهتم للسطور التي رافقت وجدانيتي. ثم أكتب لانسي عن لقائي بكاتب مصري مشهور ، ليجيبني بسرعة البرق وكأنّ ساعي البريد ينتظره عند الباب ليحمل الرسالة ويهرع بها إلي القاهرة ممتطيا صهوة حصانه ليسلمها لي.
"حناني الصغيرة، صحيح ما قاله لك...احذري المنافقين والمستغلين يا حنان، احذري المقنَّعين، أعرف أنك لا تُخدعين بسهولة، لكن يجب أن تضاعفي من حذرك في بيئة جديدة عليك، ولا يعني هذا ان تنفري من الناس وتنطوي علي ذاتك وتهربي وتخافي. لا ، لكن كوني دائماً كما عرفتك".
كتبت له بأني مشتاقة لأي شيء في لبنان. فهل أرسل لي أي تذكار؟ كان هذا جوابه:
"نان، سلام يا نان، نان، نان 3/4/63
أيّ تذكار تريدين أن أرسل لك، لا أعرف. هذه قشة شحط (كبريت)، أنا أحب القشّة، والنار أيضا. هذه القشة أغلي الرموز الصغيرة. فيها كل شيء: النعومة والعدم والتفجر والحريق والمقاومة والانهيار. احتفظي بها لأنّ أحلي رمز في كتابي لنْ هو القشّة.
سلام يا نان، يا نان، يا نان.
رسالة غير مؤرخة، والأرجح أن تكون ما بين عام 64 وعام 65 .
"حنان، متي سنراك؟ والآن ماذا تفعلين في العطلة، ليتك تأتين. إذا رحت أنا إلي القاهرة، ماذا تفعلين لي؟ هل تستقبليني جيدا؟ يمكن. اكتبي لي وأخبريني بكل شيء."
أكتبُ له عما أراه، عما يشغلني، ولم يخطر ببالي قط أن أحمِّسه لزيارة القاهرة وذلك لشعور خفيّ في نفسي. علي أنسي أن يبقي كما أريده: القريب جدا والبعيد جداً. إنه الوطن. هو لبنان وهو بيروت. ولأنني أيضا لم أستطع أن أتصوره في القاهرة بسكسوكته (لحيته الصغيرة). كنت أريد أن أحتفظ بصورته التي ألفتها في الجريدة أو في البيت أو في الطريق بينهما وليس في أي مكان آخر. فكيف يأتي إلي القاهرة حارسُ الليل الذي لم يكن ينام إلا عند طلوع الفجر وحتي الثانية بعد الظهر. فهدأة الليل هي الوقت المناسب للتأمل وكتابة الشعر.
لا أذكر بالضبط في أي عام زار أنسي القاهرة: 1964 أو 1965؟ إنما أذكر أنه جاء في شهر رمضان، وأنني حاولت جاهدة، ودون جدوي، أن أجد سيارة أجرة أو أوتوبيسا حتي أصل إلي فندقه سميراميس أو شبرد. فقد كانت القاهرة تستعد لفتح فمها مع انتظار دوي مدفع الإفطار، بينما كنت أنا الوحيدة في الشوارع أركض مسرعة للقائه غير مصدقة أن أنسي في القاهرة فعلا . تُري ماذا سيقول المصريون حين يرون سكسوكته!
"يا ألله، النيل أخيراً، لكنه ليس أزرق صافيا كما تخيلته غير أنه جميل وصبور. ها هو الجسر، كوبري قصر النيل، لطالما تصورت جسور القاهرة صغيرة بيضاء لكنها طويلة. أنظري، الأسديْن، إنهما أجرديْن."
أمسك بيده وكأنه طفل، أطلعه علي مدينتي الجديدة، هذا هو البقال الذي يعطيني فراولة ولا يأخذ مني ثمنها. وهذا هو المقهي في شارع شريف، الذي يقول أحد رواده كلما مررت بقربه: "يا عيني البنت دي زيّ الفكفوك (العصفور) المكسور الجناح. وهذا هو غروبّي؛ وهذا هو مدبولي، إنه يبيع مجلة شعر. وهذا هو المسرح؛ شاهدنا مسرحية لم أعد أذكر منها إلا الممثليْن: ماري منيب وعادل خيري. وجملة ماري منيب " آه، الدنيا بقت زحمه خالص، حتي الترامواي بقه أعرج". يضحك أنسي علي هذه الجملة، يصفق ويضحك، ثم يزفر، يتململ بضيق ، يتنهد، يمسح نظارته، أري وجهه بدون نظارة، أكاد لا أعرفه، يعيدها رأسا؛ أسأله: "ماذا جري؟" ويجيبني بضيق صدر، "بعدين، بعدين".
أسأله "هل أنت جائع؟"، "لا". ولكني أسير به وأسير، لأتوقف عند مطعم كشك صغير ملاصق لسينما قصر النيل. وعندما لم أطلب ساندويشة مثله قال لي "ظننتك جائعة"! "لا، لكنني أريدك أن تسمع شيئاً"، وإذا بصوت من يحضّر السندويشات يتعالي: "الساندويش fire fire ، نار، نار".
أقدامنا تخبط فوق أسفلت شوارع القاهرة فتؤكد لي أن
أنسي يسير فعلا إلي جانبي، وليس في بيروت يتلقي
رسائلي الذهنية والمكتوبة: أراه وأمر به وأفكر به لا في القاهرة فقط بل في الفيوم والاسكندرية وفي مرسي مطروح.
قال "لقد حلّت علي الكآبة في المسرح، هل لاحظت عدد المتفرجين، والصخب والحماس علي الوجوه وهي تنتظر رفع الستارة. هذا هو ما يدعي فعلا بالمسرح؛ إنه مرآة المدن العريقة، ذات التاريخ والحاضر معا. وبيروت مدينة صغيرة صغيرة."
لم يخطر ببالي آنذاك أنني سأقول له اليوم: "ولكنكَ جعلتَ من بيروت مدينة ً كبيرة، وذات تاريخ".
حنان الشيخ

نخاف علي مصر كأنها مسقط رأسنا. كلّ عربيّ مصري. سرّ محيّر كأبي الهول. آباء هول كثيرة هنا وهناك وما من أبي هول أجمل وأهْيَبْ من هذا الحارس. أَنهارٌ تملأ المسكونة وما من نهر يُدَفِّق القوّة والحنان مثل النيل. اسمه نشيد. كان الإنسان عظيماً في مصر بدون شهرة. لا الملوك ولا الملكات ولا الكهنة ولا السَحَرة وحدهم بل الإنسان العادي. حتّي لو كان معمّرو الأهرامات عبيداً فقد كانوا عبيداً عظماء. ظِلُّ مصر شامخ أبداً. نخاف علي مصر كما يخاف الابن علي أبويه والأبوان علي طفلهما. أحد أسرار مصر هذا الجَمْع بين عتْق الدهور ورونق الصباح. أيّاً يكن حكّامها تظلّ مصر حاكمتهم ومهما نكّل الدهر بشعبها يظلّ شعبها محسوداً علي بَرَكاتٍ تُري ولا تُري. شعبُ الطيبة والفرح والإيقاع والموهبة. لو كانت السعادة تُقسَّط بحسب الكفاءة لما استحقّ السعادة شعبٌ أكثر من المصريّين.
نحلم بالثورة ونخشي أن تتحقّق. ما إنْ تبدأ حتّي تتربّص بها المكائد، وإنْ لم يتصيّدها الخارج تتصيّد نفسها، وما كان انتفاضة مظلومين يغدو مادة «مفاوضات»، وما كان صرخة أبرياء يصبح متاهة. ما أهنأ الماضي! كانت حوادثه تجري علي طبيعتها قبل أن يتسنّي لأمريكا (وإسرائيل) ذلك الزمن الإيقاع بها. كانت التطوّرات تولد من نفسها قبل أن يُتاح لأعداء الشعوب السيطرة عليها. تبّاً للحداثة! لقد أخذت في طريقها ما يؤخذ وما لا يؤخذ. لا بدّ من عودة إلي الوراء، عودةٌ إلي وراءٍ ما، إلي جنون ما لكسر وحشيّة هذا النظام العالمي الواحد، إلي بدائيّة غريزيّة للخلاص من دوّامة المكائد والمصائد، كأن يفيض نيلُ الشعب ولا يجرف النظام وحده بل يؤسّس، ولطالما كانت مصر تؤسّس، لعهد ثورات الشعب الحقّة، لا تُسترجع ولا تُحاصَر، وتصبح قدوةً لانتفاضات الشعوب. لم تعد تنحيةُ حسني مبارك موضع بحث. لقد نُحّيَ ولو بقي مكانه، ولن يمدّد له «إصلاح» ولا التضحية بأحد من حاشيته. القضيّة الآن هي الانتقال من التنحية إلي حكم الشعب. لا حكم أمريكي باسم مصري ولا إسرائيليا باسم مصري. حذار الخداع وحذار السقوط. لا ستّة آلاف سنة فقط تنظر إليكم أيّها المصريّون بل كلّ العرب المسحوقين.
إحدي الفضائيّات تعرض صورةً لبعض الشبّان الموقوفين بتهمة السرقة والنهب. ثلاثةٌ منهم يبكون. بعضهم بالكاد بلغ السادسة عشرة. « ليه سرقتم؟» شفنا تجمعات وناس يعني ياخدوا ويشيلوا... أخدت حاجة يعني...». الحاكم وأعوانه يرزحون تحت المليارات. غير بعيد عن مثوي الملوك في الأهرامات، في مقابر العاديّين من الناس، يعيش مئات ألوف المصريّين ممَّن لم يجدوا مسكناً يؤويهم. قصورٌ لرفات الملوك وقبورٌ ومزابل للبشر الأحياء. حوربَ عبد الناصر بشبهة تحويل مصر والعرب نحو الشيوعيّة. ليته فعل! ما من خطر علي الأصالة المصريّة. كان الشعب المصريّ كفيلاً بمَصْرَنة الشيوعيّة. ليته فعل! كانت شيوعيّة المصريّين ستكون أجمل وجه لدولة شيوعيّة. شيوعيّة ضاحكة سمحاء تنبض بالعفويّة. لا شيءَ أقوي من هذه الجذور النوبيّة الإثيوبيّة الليبيّة الممزوجةِ بالروافد الساميّة المُشبعة بأزكي ما في الحضارات من روح. اليوم يهوّلون علي مصر بالفَرْسَنَة والتعصّب الإسلامي ويخوّفون الأقباط. ليقرأوا التاريخ. ليقرأوا الأدب المصري. من «كتاب الموتي» إلي أحمد شوقي، من صلاح عبد الصبور إلي أحمد فؤاد نجم، من طه حسين إلي نجيب محفوظ. ليراجعوا السينما المصريّة، الطرب المصري، الفولكلور المصري. «أمّ الدنيا» تُمصّر حتّي الأَمْرَكَة. و«أمّ الدنيا» لا تستطيع أن تتقاعد من دورها الأبويّ في العالم العربي، ولو تمرّد عليها أبناؤها أحياناً. لا تدبير انقلابات وثورات في الدول العربيّة ولا استقالة من المسئوليّة. لمصر شخصيّة ثابتة منذ الفراعنة علي مرّ الثقافات والعصور. تبثّ أرضُها إشعاعاً لا يشبه غير ذاته. معدنها يُحوّل الطين إلي ذهب. لها علي الدوام دورٌ جامعٌ بين الحكمة والرقص، بين الريادة والحماية. لم تتهرّب من الاضطلاع بدورها إلّا أصابها دُوار الخطيئة واستسلم عربُ المشرق وعربُ المغرب إلي افتراس أنفسهم أو بعضهم بعضاً. قَدَر مصر أن يكون قلبها بحجم قارة وأحضانها أُمّاً كَونيّة. لنقرأ كيف يردّ أفلاطون الفضل لحكماء مصر في ازدهار العقل الإغريقي. موسي خرج منها والمسيح هُرّب إليها. لم يزدهر إسلامٌ عربيّ كما ازدهر إسلامها، وإذا كان الموارنة قد حافظوا في أديارهم ومدارسهم علي اللغة العربيّة وحموها من التتريك وأنتجوا بها نهضة، فإن الروح المصريّة هي التي تنعش هذه اللغة وتعيدها إلي الحياة كلّما تيَبَّسَ لسانها وجَعَّدَها التحذلُق. السلاسةُ مصريّة والنضارة مصريّة والظُرْف مصري و«الإنسانيّة» مصريّة. أَخلطُ دائماً بين النيل كنهر والنيل الآخر، النبات الذي يُصبغ به أزرق. لا أعرف إذا كان من علاقة. النيليّ لونُ الأمّ، عطرُ قلبها، بُحّة وجودها. خُلعَت صفةُ الزرقةِ علي الدانوب رغم أنّه بنيّ، النيلُ يستحقّ زرقةَ النيل التي تَحكّ نياط القلب، يستحقّها من منابعه إلي مساقطه، ومن هدوئه إلي هديره. لا نتكارم حين نخاف علي مصر، فنحن نخاف علي ما فينا منها، وهو كثير، وعلي رجائنا منها، وهو كثير أيضاً.
يا لغرابةِ هذه «الثورات» الجديدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي! مَن يذكر اسم رئيس في دول أوروبا الشرقيّة؟ «ثورات» غفلةِ التوقيع وحكّام كأنهم رؤساء مجلس إدارة. تكنوقراط، يسمّونهم في لبنان. يقصدون حكّاماً يخافون المخيفين. الرومنتيكيّون يريدون أن يروا في الانتفاضة المصريّة مراحم القَدَر و«الواقعيّون» والبارانويّون يتساءلون: كيف اندلعت فجأةً في تونس العاقلة؟ لماذا الآن في مصر وليس من قبل؟ أين ستنفجر بعد غد؟ وهل تقتصر علي دول المتوسط أم تمتدّ؟ والكلّ يشيرُ بإصبع ظنونه إلي الاستخبارات الأميركيّة. أميركا الوضع القائم وأميركا الثورة علي الوضع القائم. إلي أين؟، كما يقول عرّاف السياسة وليد جنبلاط. أميركا نفسها، هل تعرف إلي أين؟ كم أميركا هناك؟ من الصين إلي السعوديّة، كم أميركا هناك؟ من الشعب الأميركي إلي مراكز السلطة في أميركا، كم أميركا؟ لعلّ أكبر نسبة من هذه السمعة نسجُ خيال. ونسج الدعاية الأميركيّة. أميركا سيّدة العالم، إذاً لا تعصف إلّا بإذنها وإلّا فبمعرفتها. كاسترو مستمرّ في كوبا لأن لأميركا مصلحة في بقائه. الزلازل شغْلها. فيضاناتُ لويزيانا تدبير جمهوريّ لتقليل عدد السود. قتلوا كينيدي لأنه كاثوليكي. جاؤوا بأوباما لأنه مسلم. يدعمون تركيّا المتأسلمة إرجاعاً لها إلي الوراء. يزعمون مناهضةَ إيران ويبتهجون لبرنامجها النووي كي يخيفوا السنّة. ضدّ الإخوان المسلمين علناً ومعهم سرّاً. أميركا الامبرياليّة الرأسماليّة هي نفسها، بهذا المنظار، أميركا خَلْع المحنّطين والفاسدين. تُغَيّر رجالها حتي لا يغيّرهم أعداؤها. يبقي أن ما يصفع النظر في كل حال هو الواقع الصارخ يوميّاً علي الكرة الأرضيّة، وهو أن السياسة الأميركيّة، منذ ما بعد وودرو ولسون علي الأقلّ، سياسة انتهازيّة تبني علي الشيء «مقتضاها» ولا تتراجع عن استعمال كلّ الوسائل، بما فيها السينما ونظريّات الفلاسفة، لتسويق خططها. منذ استسلام الاتحاد السوفياتي وأوروبا لم يعد هناك مَن يقاوم. عالمُ «الحياد الإيجابي» زال وأصبحت كبيرته الهند دولة نوويّة. صار الحياد رؤيا فردوسيّة. كان حلم المقهورين وبات حلم القادرين بَعْدُ علي الحلم. نخاف علي انتفاضة المصريّين من خاطفي الثورات. الخوف نفسه علي انتفاضة تونس. علي كلّ تنهيدة نقيّة يُطْلقها صدرُ شعب. ومع هذا، لنفرح بهبّات التغيير، لنفرح علي الأقلّ كما يفرح المحتفل بكأسه في بدايتها. الأمل وسط هذه المخاوف أن الشعوب لا تتعلّم. لا تنهزم هزيمة أبديّة. تُجدّد شبابها عند كلّ نسيان. تعود إلي الحياة كلّ مرّة أوّل مرّة.
من أبشع مفاعيل الثورات وباءُ التبرّؤ. يكثر السلّاخون. أين كان هؤلاء قبل فرار بن علي؟ المشهد الفاضح تفرّدت به الحكومة الفرنسيّة: وزيرةٌ تدعو إلي مؤازرة بن علي في قمع الاضطرابات وبعد تطورات الساعات التالية تراجَع ساركوزي وحكومته وبدأت مسيرةُ النفاق في تأييد «إرادة الشعب». أوباما وإدارته فعلا ما هو أبلغ تعبيراً عن لاأخلاقيّة السياسة خلال الأيّام الأولي لانتفاضة مصر. ثم كرّت سبحة المنافقين. الثورات فرصةٌ ضخمة للتهريج، يختلط فيها الكرنفال بالأحقاد، تصفية الحسابات بآمال المظلومين، وصوليّة السياسيّين ورجال الأعمال والصحافيّين بأحلام الأبرياء. قبل انصراف بوش الابن كانت أكثريّة الصحافة العربيّة تعتبره إلهاً، رغم الحذاء العراقي، وما إنْ غادر البيت الأبيض حتّي تبارت الأقلام في شتمه. أمام شلّالات النفاق يشتهي المرء أن يسمع أحداً يُعارضه. يعارض عندما الكلّ يؤيّد. يؤيّد عندما الكلّ يعارض. فقط لحفظ ماء وجه الشجاعة. عندما أسمع هذا الكاتب الشهير يهاجم اليوم حسني مبارك أتساءل أين كان خلال ثلاثين عاماً مضت من حكم مبارك. كيف يستيقظ ركّاب الموجات. كيف يحصد عابرو السبيل القمح قبل أصحابه. كيف أصبحت هذه البقايا طازجة وهذا الرفات شباباً غضّاً؟. لا يقتلني الطاغية بل المنقلبون عليه من الحاشية. من الحاشية وممَّن تنبّهوا «فجأة» إلي عيوبه. والشعب هو ضحيّة هؤلاء بقدر ما هو ضحيّة الطاغية. بل أكثر، فلولا الجبناء والمداهنون لما تمكّن الطاغية من سحق شعبه. ربّما لذلك ثار رجال الثورة الفرنسيّة بعضهم علي بعض بعدما خلعوا الملك. تعاقبوا علي تطهير الثورة من أنفسهم. نخاف علي مصر خوفَ الرأسِ علي حلمه. وفجأةً نتذكّر ما تقوله لنا الأهرامات: العظماء يشيدون لأنفسهم قبوراً يستمتع بالتنزّه حولها البسطاء. هذا البلد الذي أحد كتبه الخالدة اسمه «كتاب الموتي» روَّضَ الموت. لم يحنّطه فقط بل ضحك عليه. استطاع فقراؤه بفائض الحياة وفرحها أن يؤاخوا الموت ويدحروا أشباحه في عقر دارها. زرعوا الأطفال وضحكاتهم بين القبور. لن تستعصي مشكلة علي الشعب المصري. لن تمزّقه مؤامرة. نخاف علي مصر ولا نخاف. شعبٌ مسوَّرٌ بحبِّ الشعوب لا يُغْلَب. شعبٌ تسري في عروقه دماءُ أعظم الحضارات لا يُغْلَب. كلّ نهاية، حتّي الموت، هي في مصر بداية.
نشر أنسي الحاج هذا المقال في جريدة الأخبار اللبنانية.. 5 فبراير 2011 قبل أيام من تنحي مبارك ..عندما كان المصريون يحتلون الميادين مطالبين بالحرية والعدالة والعيش الكريم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.