التقيته قبل غروب الشمس بقليل، كان رجلا عجوزا يبدو طيباً، شعره الأبيض الكثيف أضفي علي وجهه وقاراً لم يحظَ به أغلب جيله. لم يكتم عاطفته الأبوية تجاهي منذ أن التقينا في المرة الأولي قبل أعوام، ولم يجعلني في نفس الوقت أستشعر الأمر بضراوة، وكان ميسور الحال، لكنه كان بسيطا ولا ينتمي لطبقته الارستقراطية، وهو ما جعل العلاقة بيننا جيدة. كنا قد رتبنا أن نسافر سوياً في الإجازة الأسبوعية صوب مدينة ساحلية لم يكن لها مثيل من قبل في البلاد، شواطئها كانت ضرباً من ضروب خيال طفولي في لوحة فنان تشكيلي عاش طفولته بين غابات الأشجار، وشبابه علي البحر يتأمل الفضاء الأزرق الواسع. ركبت سيارته الفارهة ومضينا خارجين من المدينة إلي صحراء ممتدة بعيداً عن زخم العاصمة، وكانت الجبال التي يشقها الخط الأسفلتي المستقيم حينها تبدو في أجمل أحوالها حين كانت الشمس تغرب عليها، سرنا حتي المساء، واقتربنا من المدينة الساحلية، سألني إن كنت زرتها من قبل، فهززت رأسي وأخبرته أنني زرتها مره واحدة منذ ثلاث سنوات، لكني حاولت إقناعه بأن هذه المرة ستكون مختلفة ربما لأن بناءها لم يكن قد اكتمل في المرة السابقة، وأخبرته أنني قرأت في الجريدة منذ أسبوع أخباراً عن انضمام شواطئ مجاورة لها حتي باتت أوسع من ذي قبل بكثير، فنظر صوب مبانيها الشاهقة التي بدت كأعواد من ماس تتلألأ أضواؤها علي مرمي البصر وقال: سوف نري ! كان الطريق الموصل للمدينة في نهايته منحدراً قليلاً، ولا تحاوطه الجبال مثلما كانت تحضنه من ذي قبل، سرنا ببطء وتوقفنا في مكان كانت المدينة مكشوفه من خلاله بالكامل، نزلنا من السيارة وأطفأنا نورها حتي نري المنظر جيداً، ثم ألقينا نظرة واسعة علي المباني العالية التي كانت تشبه ناطحات السحاب، حيث كان يلتقط أمامها عدد من أصدقائي الصور الفوتوغرافية وهم واقفون أسفلها، عندما كانوا يسافرون عبر المحيط، وكانت المباني كلها زجاجية، يعبر منها الضوء في خفة يعكسه الزجاج، ويتناسق مع تلألؤ النجوم، ويزيد من جاذبيتها في الظلام الدامس الذي كان يحيط بنا، كان البحر مظلماً تماماً من خلف المباني ولا يظهر منه سوي فضاء أسود واسع، شعرت بأن تجربة الوصول إليه جديرة باقتطاع الإجازة من العاصمة، أخذت نفساً طويلاً ثم تأملت المنظر في اطمئنان. نظر لي العجوز وسألني في أي مكان أود أن أذهب، فقلت له أنه من الجيد أن نختار شاطئ من الشواطئ الواسعة التي تحتوي رمالها علي نخيل جوز الهند، فتنحي عن النظر لي وضحك، وبدأت في تجاهله وعاودت النظر علي المكان، وركبنا السيارة بعد أن انتهيت من سيجارتي، ثم مضينا نحو المدينة. كان الوقت لا يزال مبكراً ولكن الظلام خيم علي الطريق، وكان الهواء لطيفاً، وعندما اقتربنا من القرية كانت كل المداخل المؤدية إلي الشواطئ خالية، لا يميزها سوي أعمدة الإنارة الرفيعة العالية التي تضيئ الشوارع فوق الأسفلت الأملس، سرنا قليلاً ثم رأينا مداخل القرية علي يسارنا، عبرنا المدخل الأول والثاني دون أن نتردد للحظة أن ندخله، ولم يكن لدينا اختيار وقتها، لا أعلم بالتحديد لماذا اختارنا المدخل الثالث لدخوله ! كان ظلام الشاطئ الهادئ، ومساحته البسيطة تبعث فينا الهدوء، لكني كنت ألقي النظر طول السير فيه علي الشاطئ المجاور الواسع، وكنت أسمع همسات خفيفة وصوت موسيقي هادئة تصل من مداه إلي هنا، لكن علي أي حال لم أبالِ لأن الشواطئ كلها كانت أشبه ببعضها، لا تتكون إلا من فندق زجاجي واحد، ومسافة رملية كبيرة فاصلة بينها وبين البحر. سرت في بهو الفندق حتي وصلت إلي باب زجاجي ينفتح علي فناء أخضر تحيطه أبواب الغرف ويفصل بينه وبين البحر أرض رملية طويلة المسافة، دخلت إلي أحد الغرف عن يساري فأغلق بابها بمجرد أن تخطيت عتبته، حاولت أن أفتح الباب كي أخرج لكن دون فائدة، لم أشغل بالي بالأمر وسرت في طرقة فارغة أنوارها هادئة ورأيت باباً عن يميني فتحته دون تردد ولكني تمنيت أن ذلك لم يحدث، إذ وجدت عدد من الكراسي يجلس عليها أشخاصا ينزفون دماء، بعضهم من وجهه والبعض الآخر من كتفه، وعلامات الإصابة في أجسادهم لا حصر لها، ووجدت أمام كل شخص شابا يبدو من ملابسه أنه طبيب، كان بعضهم يجري إسعافات أولية للمصابين، والبعض الآخر يأتي ويذهب في الغرفة بجنون، نظرت ثانية إلي الدماء التي لا يستطيع الأطباء كتمها وأصابني ذهول جعلني أصرخ في وجوههم متسائلاً عما يحدث، نظر إليّ أحد الأطباء من أسفل نظارته الطبية وأخبرني أن مجموعات مسلحة أصابت عددا من رواد المدينة بعدما طالبوا باخلائها ولم يوافق الزوار علي ذلك، لم أفهم وقتها لماذا يحدث كل ذلك في الغرفة، ولكني تذكرت الهدوء الذي كان يسيطر علي القرية أثناء الدخول. فجأة انطلقت من أحد الأطباء صرخة وأخبرهم أن المجموعات المسلحة تقترب من الفندق، لم يتسن لنا البحث عن مكان للهرب حتي، سمعت الأبواب تتهشم من بيادات الجنود الذين اقتحموا باب الغرفة وهم يصوبون بنادقهم في وجوهنا، وارتبك كل من بالغرفة وهربوا من الباب الخلفي، سرنا في ممر طويل وسط عدد كبير من الأشخاص، كانت الدماء تتساقط منهم بقدر تساقط الأشخاص نفسهم علي الأرض تحت أقدامنا، لم أكن أعرف أين سأذهب، ولم يخطر ببالي أين ذهب الرجل العجوز وقتها، كل ما كنت أفكر فيه أن أحاول الهرب إلي مكان لا يتعقبني فيه المسلحون، وجدت غرفة في آخر الممر علي اليمين فقفزت علي أحد الأشخاص إلي يمين الممر كي أدخل إلي الغرفة بسهولة دون أن يعترضني أحد وهو يجري، وكانت أصوات النيران بالخارج مفزعة، تصطاد الرؤوس قبل أن تصل إلي الشاطئ كمن يصطاد عصافير. فتحت الباب ودخلت منه فوجدت سلالم قديمة متهالكة تنبعث منها رائحة العطن، وكان لون الجدران المحيطة بالسلم بنية في أسفلها وصفراء في أعلاها، كان الطلاء قديماً متهالكاً يشبه العمارات القديمة في وسط المدينة بالعاصمة. كلما كنت أنزل درجة كلما خفت الإضاءة وازداد الظلام، لم يكن لدي بديل وكنت وحيداً، لكن يبدو أن نهاية السلم اقتربت، كنت أسمع دقات قلبي حتي أصبحت أعلي من أصوات أقدامي علي السلم، وصلت في النهاية إلي باب خشبي دفعته بقوة فوجدت صالة قديمة بها طاولة كبيرة متهالكة يجلس عليها عدد من الأشخاص مجهولي الهوية، ملابسهم تبدو عليها البساطة، ووجوههم منهكة، وكان ينتصب علي الطاولة ميكروفون صغير أمام رجل يجلس في وسطهم يبدو أنه أكبرهم سناً، وكان علي يساري مطبخ صغير وفتاة تعد الشاي والقهوة بداخله، كانت تدخل وتخرج من المطبخ كل دقيقة. وبينما كنت أقف ثابت الخطوات لا أصدق أنني نجوت مما حدث، صرت أقاوم شعوراً انتابني بأن المكان غريب ولا أطيق أن أجلس به ولو ثانية، وازداد دافعي للهروب مجدداً لكني لم أكن أمتلك تفسيراً لما يحدث حتي خف الضوء وغلّف السكون الصالة، واختفي من بها وبدأت أفكر في العجوز الذي تاه مني ولم أره مجدداً.