أبحث عن أماكن الروح، أتطلع إلي كل صوب، إلي كل جهة، خوش قدم في المتناول لكنني لا أراها خوش قدم جبر الأفكار، الأفكار بدري آه.. آه ، أمان، أمان يالالالي.. له مدخلان متقاربان، متجاوران، إذا قصدته من الغورية يكون بداية، واذا جئت من عمق الباطنية يكون نهاية، لكنه في كل الاحوال متصل. وكل الظروف مؤد، يصب عندي، يبدأ مني.. ويحيرني، اذا جئته من بوابة المتولي يكون المدخل إلي اليمين فيما يلي جامع الفكهاني أو المارداني، يمت إلي الزمن الفاطمي، أما اذا قصدته من الازهر، من الغورية، فيكون إلي اليسار، لا أعرف متي تكون، متي استقر علي هذه الهيئة، سكة نافذة. أي تصل بين نقطتين متباعدتين، تكثر فيه المنحنيات والحواري الصغيرة المتفرعة. مداخله في روحي متعددة، بعضها يمكنني تحديده، الاشارة إليه. تعيينه، بل والحديث عنه، دائما أشخص إليه وأنا واقف، مع أنني لم أعرفه في البواكير إلا ملموما، مضموما إلي أمي، سمعت به لأول مرة منها، أول بيت تستقر فيه بعد بدء اغترابها عن جهينة، وصولها إلي القاهرة، لا.. إلي مصر، الصعايدة أو البحاروة يشتركان في هذا، »أنا رايح مصر« »أنا جاي من مصر« القاهرة تختصر الوضع كله، في هذا الوقت المبكر عندما دخلت خوش قدم طفلا رضيعا علي باط أمي كان معظم الخلق لا يعرفون بوجود مدينة اسمها القاهرة، المعروف »مصر«، فيما بعد، باحت لي خلال حواراتنا، كنت صبيا صغيرا جدا، أتوقف إلي جوار قائم السرير، كانت تتحدث إلي نفسها فهي غريبة، منقطعة عن الأهل، وسوف أعي في متأخر أيامي معني ذلك، كان خوش قدم أول مستقر يخصها، لكن أبي، لا أعرف، هكذا بدأ جهلي بما كان معي، بما صار مني، من غرائب الامور أن الذاكرة لا تبدأ الاحتفاظ بصور ما يمر بنا أو نمر به إلا بعد عامين علي الأقل، أول ما أعيه مع تمام العام الثالث، لماذا تأخرت هكذا، لا أعرف، لن أعرف، كم من أمور مررت بها لن أعرف عنها شيئا رغم تأثيرها عندي، تحيرني أيامي في خوش قدم، فهي من هي تلك الجارة التي سألت عن أمي وأحاطتها برعايتها عندما ارتفعت حرارتها في غياب أبي، عندما عاد فوجئ، قالت الجارة بخير، وأنه لن يكون الا الخير، طلبت منه ان يذهب إلي اجزخانة رقية، ماتزال، يليها، كان الطرابيشي الذي أصبح مع الزمن فرجة للسائحين، اختفي الطربوش بعد الثورة - يوليو - غير ان صاحبه لم يتخل عن العدة، قوالب من النحاس، أماكن حفظ القماش، شيئا فشيئا تخصص تماما في عمائم الازهريين، لها شكل خاص أحد شيوخ التوانسة كان عائدا من الحج، يبدو أنه اكتشف المحل، طلب طربوشا أقصر من المعتاد في مصر، رسم هيئة فتم اعداد القالب، هكذا عرف أهل قابس و سوسة وسائر الجنوب في تونس الخضراء الطريق إلي المحل، صارت أغطية رؤوسهم من عنده، كانت هيئتهم قريبة من الأهل في جهينة أو درب الطبلاوي الذي تفتحت مداركنا فيه، لكن ثمة شيء يقول إنهم غرباء بدرجة ما، خاصة عندما يتكلمون بعضهم تزوج وأستقر، هكذا أحوال جميع أهل المغرب الكبير حتي قيام ثورة الفاتح الليبية، قطع قائدها الشاب طريق الحج البري الذي استمر مئات السنين وأثري الحياة العربية والاسلامية. مع اختفاء التوانسة صار الازهريون هم زبائن المحل الوحيدون، غير أنهم لا يمكن ان يقيموا دكانا كهذا، بقيت المعدات ولم يغلق المحل، صار معتما، غير أنه مترب، مهمل. كانت وصية صاحبه جد الملاك الحاليين ألا يقفل بعده والا يتغير نشاطه، والحق أنهم حافظوا علي ما طلبه رغم صعوبة الوضع. محل الطرابيشي واجزخانة رقية من المعالم، لا.. دكان البسبوسة الشهير للحاج محمود أمين، مذاق عجيب لم أعرف مثله، فريد، البسبوسة بالتحديد، برع فيها حتي أن القصر في عابدين صار من زبائنه، كانت الصينية تخرج ساخنة بعد الغروب فتصل القصر دافئة، عند نقلها يعبق المسار بالرائحة الزكية، الفريدة، نسيم منها يدخل إلي خوش قادم، الحق ان ثلاثة اشياء يمر اريجها وجوهر عطرها بالحارة، أولا بسبوسة الحاج أمين، ثانيا عبده الكفتجي، ثالثا القهوة الرئاسية، محل صغير عند مدخل سكة المغربلين، رجل هادئ جاء من رشيد في أول القرن، أتي معه بتحويجة للقهوة انتشر أمرها وصارت مطلبا لكل من تولي مشيخة الازهر كذلك علماؤه ومجاوروه، بل إن بعض الملوك والحكام ارسلوا في طلب هذا البن العجيب، وممن اتقنوه واستلطفوا الامر فيه جمال عبدالناصر، وكان مندوب الرئاسة لا يقبل الكيس إلا بعد دفع الثمن، يؤكد: هذا للبيت، وما كان للبيت لابد أن يدفع ثمنه من جيبه، البن الرئاسي من معالم الطريق إلي خوش قدم، كل من عرفه يقول بنان خوش قدم رغم إنه جغرافيا يقع في المغربلين، غير ان حالي مع خوش قدم غريب.. يأتيني الآن مطلع يأخذني ويوقفني. »فؤادي أمره عجيب..« أقف في مكان ما من حارة، من سكة، خوش قدم، أضم أصابعي أبحث عن ثدي أمي، تداري نفسها قبل أن تطعمني إياه، معقول أنني لا أعرف شيئا عن هذا، عشته ولا أعي حتي صورة، ليتني أهتم بالاستدلال علي أول موضع يخص أمي. ذكرت أمامي شيئا عن هذه الجارة الطيبة من أهل مصر، علمتها اشياء لم تكن توجد في جهينة، بالتحديد طريقة خاصة بكنافة رمضان، وقلي السمك، بقيت الكنافة معي كانت تسويها علي مهل بالغ، رغم أن شقيقتي أخذت عنها. غير أن الطعم المكتمل ذهب معها، راح مع مذاقات شتي لم تعد حتي في ذاكرتي. خوش قدم، خوش قدم خوش يعني حسن، يعني السعد، فارسية، تركية، كردية، عندما سافرت إلي شمال العراق وعرفت جمال الجبال وهيبة الممرات والمياه التي لم يمسسها بشر، في سوق اربيل أصغيت إلي عجوز كردي يقول: خوش والله، في البصرة سمعت من يتغزل في أنثي، خوش غصن، تحيرني المارة القاهرية عندما أحاول التعرف علي المكان الذي عشته ولا أعرفه، لا أحتفظ منه بلمحة، هذا بداية تعقد المكان، يوجد في الواقع ولا يوجد عندي رغم معرفتي به، حتي وصلت إلي حال تجوالي في حارة بعينها، أذكر منها الواجهات والمعالم غير أنني اغترب فكأني لم أطأ ارضها، خوش قدم ماثلة، مألوفة، غير أن وثيق صلتي يرجع إلي الغناء، إلي الموسيقي، كان من روادها في الزمن القديم الشيخ زكريا أحمد، في الحارة مسجد يتيم، صغير، متوحد، لا يتصل به بناء، اسميه اليتيم لانه قائم بمفرده، ليس له ظل حتي، يبدو أن الشيخ زكريا أحبه أيضا، بل واعتلي مئذنته فجرا وعصرا وأوقات الاعياد، يقال إنه في نهاية الثلاثينات رفع الاذان بطريقة لم تتكرر في أسماع الخلق، آذان جميل من سبع مقامات، كل من سعي وقتئذ لزم الصمت والعجب حتي الطيور في الفضاء، في الحارة وقف المارة شخص الابصار مرهفي الاسماع، اشتهر أمر الاذان الزكراوي بين الخلق فصار البعض يشد الرحال إلي خوش قدم ليصغي ويسمع، من هؤلاء صبي ضرير لزم الحارة، عرف بجمال صوته وقدرته علي قراءة القرآن بتجويد مرقق لم يُعرف مثله، غير ان حاله تبدل بعد تعرفه علي الشيخ زكريا، أحبه فلزمه وأخذ عنه أسرار المقامات، وصنع الالحان، وجميل الطباع، اعتلي المئذنة قبل بلوغه العشرين وعرف الناس صوته الخاص، عاد المارة إلي الوقوف أثناء الاذان حتي أنهم يسدون الطريق. في السنة الرابعة والستين اقترح علي عبدالفتاح الجمل أن نذهب معا إلي خوش قدم لنستمع إلي الشيخ إمام، قال إنه »ماحصلش«، هكذا كان مفتتح تعرفي بخوش قدم، أي الشيخ أمام مدخلي إلي السكنة وأهل الحارة، أصغيت إلي صوته القوي، الرخيم، المتصل، المؤدي، أول ما سمعته منه »ضيعت مستقبل حياتي.. «، وعندما اتصل حالي بالطرب الحلبي الجميل جدي مدلل، وأخبرته عن ذلك العصر عندما نالتني خضة لحظة بدء الشيخ إمام المطلع الصعب قال العم صبري ونحن نسعي في السوق القديم المغطي - دمرته عصابات الارهاب بلا رحمة في مطلع العقد الثاني من الالفية الثالثة - قال إنه سمع عن اداء الشيخ لهذا الدور الصعب، أصعب الادوار العربية علي الاطلاق، لحنه الشيخ سيد وهو في حال وعر، لم يُعرف اسمه، قلت الحاج صبري: الشيخ امام أنشده ثلاث مرات من أجلي، قال صبري مدلل: اذن ستدخل الجنة، كان الشيخ مشهورا في ذلك الوقت باغانيه النقدية، الجريئة والتي بدأها بعد لقائه بأحمد فؤاد نجم الذي ترك المواضع القاهرية الاخري »لزم خوش قدم، صار من أهلها واحبابها وارتبط بها، أصبح جزءا منها، بسكن البيت الذي لابد من اجتياز حجر يجبر علي الانحناء يؤدي إلي سلم ضيق، لابد من الانتباه جيدا والا اصطدم الرأس بالسقف المنخفض، في هذه الغرفة بعد يونيو عام سبعة وستين تكون جيل وجدي تكوين ورفرفت روح، كان لقاء نجم بامام حدثا عجيبا دبرته الاقدار، خوش قدم أصبح لها حضور مقابر، دائما كان الشيخ يتوسط القاعدة، اينما جلس هو مركز المرأة، عودة إلي صورة، ورغم ورغم أنه ضرير الا انه شاخص في ذاكرتي إلي نقطة ما يصعب تحديدها، ذاع امر نجم والشيخ، صاررمزا علي حقبة ودلالة علي روح جديدة رغم الهزيمة. حاولت مؤسسات النظام اللف من هنا والمجئ من هناك، حدث ان دبر القوم في المباحث حملة، مازلت أذكر عنوانا عريضا في صفحة حوادث: القبض علي امام ونجم لتعاطي المخدرات، ثم تطور الامر، عنوان اليوم التالي إلي التجارة، صورة لكلاهما بجوار تل صغير من طرب الحشيش، لكن ما لم ينشر ان الشيخ تحسس الاكياس وعلق ساخرا: حلم ده ولا علم! في بيت محمد جاد بالعجوزة، كان معظم الحاضرين من الشباب الذي مر معظمهم علي السجون والمعتقلات، كان ما يبدعه نجم وامام فريدا، فيه التحدي وميلاد روح جديدة، كنت محبا لمحمد جاد، مترددا عليه في مسقط رأسه، بركة السبع، مع تصاعد الانسجام، توقف الشيخ لضبط العود، صحت راجيا: ضيعت مستقبل حياتي..« رغم استنكار الحاضرين، جاءوا للفصاحة اللماحة، لبقرة حاحا والثوري النوري وغيرهما، انها المرة الاخيرة التي اسمتع فيها إلي الدور الصعب، أهداني صاحب حميم فلاشة عليها كل ما أدي الشيخ اصغيت إلي اكثر من مائة اغنية. اداء عجيب، مازال الرجل في حاجة إلي اكتشاف مرة اخري، اجتهد لاجد احد الادوار التي سمعتها منه. لم أجد، صارت هذه الادوار مدخلا إلي خوش قدم، ثمة مداخل محسوسة، معاينة، أما مداخل الروح فمحيرة، لا يمكن تحديدها أو تعيينها أو سلوكها، تسفر عن نفسها عندما تكون الحاجة، قريبة خوش قدم بالمعاينة، لكنها بعيدة، نائية مع تباطؤ الانفاس وطول التحديق إلي الدائرة المقتربة الدانية. آه يا مقام الصبا، أجري رافعا يدي، مناديا: يا خوش قدم وما من مجيب.. حدائق شانغهاي ياه. هذا كله! كان ممكنا أن أرحل عائدا ولا أري منها شيئا، عبرت قربه مرات، عند ذهابي وإيابي إلي السوق القديم ومنه منطقة تشغي بأجناس متعددة مطاعم متجاورة. أحدها يعلق صورة كلينتون عند زيارته، يأكل طبقا، صورة مكبرة له تدعو العابرين إلي تذوق وجبة بيل وهيلاري وابنتهما تشيلزي، الكشك صغير لا يلحظ، يمكن العبور أمامه بدون الانتباه إلي الصلة بينه وبين المدخل المؤدي، بل يمكن تخطيه بدون رؤيته، أشار الرجل إلي النقطة التي ابدأ عندها، حواجز من أغصان غير مستوية تبرز منها فروع أدق، صفوف متراصة، تبدو متصلة، لكن بعد تجاوز المستوي الثالث يفاجئك أكثر من فراغ يمكن النفاذ منه، الوصول إلي مدخل الحديقة لا يتم مباشرة، إنما لابد من سلوك هذه المتاهة الظاهرة، الخفية، لا يمكن إدراك مدي تعقدها وتغلغلها إلا بالاجتياز صوبها وداخلها، التقدم باستمرار ضمني، عند حد معين، يواتي الخطر، النظر إلي الخلف، لابد أن الآخرين، يدركهم ما مسني ولحق بي، رغم قصر المسافة نسبيا، أقل من عشرة أمتار إلا أنها تبدو أضعاف ذلك، كأن المدينة تقع في الجانب الاخر من شاطئ بحر لا ماء فيه، يتغير الضوء، ما يشبه بخار خفيف عالق، ربما هذا مصدر اليقين بالمسافة القصية التي لا تتناسب مع ما قطعته الاقدام، لم ألتفت مرة أخري، يقين أن ثمة شيء سيظهر فجأة، لكن مثول الباب الحجري والسور الذي تطل عنده أغصان كثيفة لم يصحبهما أي مفاجأة، أتوقف لأتأمل الحروف الصينية القديمة، عتيقة، ما من ترجمة إلي الانجليزية أو الفرنسية رغم ان كلاهما بلغا المدينة وأقاما بها أزمنة مختلفة. باب غير لافت للنظر، ما من زخارف بادية أو تماثيل مدمجة، كل ما عرفته يتداخل عبر الاستعادة، جوهر الاشياء واحد، الظاهر فقط تتنوع، تختلف من موضع إلي آخر، باب عادي، ما من رموز مقيمة، مطلة ، ما من إشارة، وعد خفي بشيء ما غير عادي في الانتظار، لم أدر، لم أعن بأي قدم دخلت؟، مجرد ممر مرصوف بما يشبه الفسيفساء في البيوت والمنازل المغربية، لكنه هنا أكبر حجما، أغزر ألوانا، كأن الممر لن يؤدي إلي شيء محدد، كأنه سيستمر هكذا غير أنه يتبدل بدون أن ألحظ، يتغير تدريجيا، علي الجانبين، من مستويات مختلفة تطل نباتات وأشجار أسيوية علي الجانبين خاصة البامبو الذي لا يوجد في مكان آخر، فجأة.. ينفتح الفراغ، صخور رمادية، دائرية، متوالية، أشجار أقل ارتفاعا، السماء بادية، تقترب حينا، تنأي مرة أخري، البعد والقرب يتبع لنظرة ويتجسد عبر الجهة، القطع الصخرية كلها شبه دائرية، متوالية، بعضها يبدو معلقا غير متصل بشيء، هنا تبدأ دهشة وتلوح حيرة، لا أري ملامحي، ما من مرآة أو صفحة ماء تترقرق وتتموج عليها الملامح، غير أنني موقن بتلك النظرة التي لمحتها في عيون الأطفال بعد اعتيادهم الرؤية وظهور الفوارق بين الاشياء، خاصة الألوان، لم أدرك من قبل تمايزاتها وما بينها وما بثته من إشارات بعضها سهل يسير ومنها المستعصي، أصغي إلي سريان الزائرين الاخرين، غير أنني لم أرهم، رغم أنني قرأت عن ذلك، يعني لدي تصور مسبق، غير ان الاطلاع أو السمع ليس مثل المعاينة، وترني العجب ونالت مني دهشة، الحديقة مصممة بحيث يمضي كل بمفرده حتي لو رافق عند الولوج أقرب الخلق إليه، لا.. يبدأ الانفراد مع اجتياز الحواجز، عندما نظرت ورائي لألقي نظرة علي المدينة، علي البرج الذي سيكتمل بعد ثماني سنوات بحيث لن يتجاوزه آخر في العالم مهما تطورت واشتدت التقنيات، عندما خطر لي إحتواء المدينة بالبصر بدت نائية جدا، كأنني أتطلع إلي كوكب آخر، رغم مروري عبر الباب منذ لحيظات معدودات غير أنني أسترجعه قصيا، ماثلا في وجود مغاير، باب لكن علي مكوناته من أحجار وألواح هيئة بشرية، شجن يفوق كأنه ما عرفت، إنبعاثه مرقق يسري بدون أن ندري أو نستوعب، مقطب ومبتسم معا، الباب ورائي، ما مررت به لما أقدر علي معاينته إلا عبر الاستعادة، غير أنني أراه كما أرغب، كما يهيأ لي وليس كما هو عليه، ليس الباب فقط اخر ما طالعت قبل الحديقة لكن جميع العناصر، أتوقف مرة اخري، رغم قراءتي واستيعابي عن الحدائق السماوية، سواء داخل القصور الامبراطورية أو في المدن العادية أو المقدسة، إلا أنني متعجب، دهش كطفل وافد بعد ولادة عسرة، أتوقف، ليس عندي حيرة، لكني غموض مستقر، ما من علامة ما من إشارة أو إيماءة، لم يكن وقتي أمامي أو ورائي، إنما مغروس داخلي، متأصل عندي، رصيد لا ينفد، لا يزيد، لا ينقص، غير معروف مستقره، غير مأهول أو مقترب منه، الأهم، ما من حدود واضحة، إلي أين أمضي، كيف؟ ما من معين، هذا الجزء من الحديقة كله صخور، لون واحد غالب، غير ان تدرجاته لا تنتهي. زهور، أغصان، جذوع، خطر لي أن أحاول الوثبة، من موقعي حيث أقف إلي صخرة قريبة، استجمعت الطاقة واستنفرت الحذر الكامن وما يحفظ الاتزان عند قطع المسافة إلا أنني فوجئت بيسر الحال، وتحركي خفيفا كريشة مع قدرتي التوجه إلي الجهة التي تخطر لي، هكذا وجدت حالي مائلا في جزء آخر من الحديقة وربما كان بعيدا عنها فلم أكن بقادر علي التحديد أو التعيين، أيقنت أن هذا من مستلزمات الحال، أقف عند صخور مغايرة تميل إلي البني، متصلة وليست منفصلة، صخور باستمرار حتي وإن اختفت تحت كثافة النبات وهشاشة الزهور، غير أن التنوع في ألوانها وأشكالها وتكويناتها، للحظة شككت فيما عندي. إذ أيقنت أنني لست بمفردي، ثمة وجودي ما بجواري، ربما فوقي، أو تحتي، ربما يتخللني، يمر عبري، لم أدر بالضبط فالتحديد لا موضع له هنا، بجواري من أعرفه لكنني غير قادر علي الامساك بملامحه، باسمه، إذ أوشك يفلت مني، أقرب إلي حضور الأنثي، أوشكت علي الاصغاء إلي أسمي منطوقا، غير أن الصوت تجاوزني، توقفت في مكان مرتفع، لأول مرة أجد أختلافا في المستويات بالنظر، غير أنني عندما توجهت بعيني لم أكن وحدي بل ثمة آخر ينظر معي، يتطلع صوب نفس النقطة. هناك إلي أسفل. مساحة دائرية، أو هكذا تبدو، مكسوة بالجليد، عندما وصلت شانغهاي كنت عالما بدرجة الحرارة، بالنهار دفأ، وبرد ليلا لا يصل إلي الحد الذي أرتدي معه معطف، أسعي بملابس عادية ، كذلك الاخرين أهذا جليد صناعي؟، الطرف المصاحب يجيبني : لا.. يبدو طبيعيا، ثمة أطفال يتزحلقون أدقق، يرتدون معاطف وأغطية رؤوس من الفرو، هكذا خيل لي، سرعان ما تلاشي هذا كله، أقف في مكان مغاير متأكدا أنني بمفردي، غير أنني أحاول أستعادة مشهد الثلج والمتزحلقين، يمر بسرعة ولا يدع لي إلا السؤال، كيف ينزل الجليد في منطقة محددة داخل مدينة فصلا ربيعي؟، لكن.. ما المنطق هنا؟. شنغهاي في جهة والحديقة في اللا جهة، هذا ما انتهيت إليه، مغايرة تماما، ثمة قانون لم يعلنوا عنه ولم ألم به، ليس بي أن أري، أن أنتقل مع الخاطرة أو الفكرة، أري المشهد وأنا جزء منه، أقف في مواجهة بيت خشبي، نصفه العلوي أصفر مشوب بحمرة والاسفل بني غامق، شخص يرتدي جلبابا أبيض، ربما رداء، ينحني ليكتب حروفا ضخمة، لغة لا أعرفها، ليست الصينية التي أتقن شكل حروفها، رغم وقوفي بعيدا إلا أنني قادر علي رؤيتها إلا أنني لا أفقه معناها، سرعان ما تختفي، صحف بيضاء والرجل الأصلع حينا، المكسو بالشعر رأسه حينا آخرا مستمر في حركة يده، تري ماذا سأري في اللحظة التالية أو الماضية، ما من ملامح واضحة بين الآتي والمنقضي أقف حائرا، متلفتا إلي كل جهة، أعي في هذه اللحظة أنني بعيد عن شانغهاي، عن الحديقة نفسها. عن حضوري كله الذي يدركه تفرق أعيه إذ بدأت أري بعض من بعض قاصدا كل صوب..