إلى كلّ أمٍ قدمت شهيد، ولن تبخل على الإسلام بآخر،إذا زرتِ كربلاء فاحملي كلماتي معكِ واقسم عليكِ أن تقرئيها بدمي فأن للزهراء(ع)،هناك مأتم. أكبر الخسارات أنّ يتحول الوطن إلى ذكريات وحكايات عابرة، ووجوه جميلة لاتجدها حولك عندما تشتاق إليها وبمعنى آخر فأن الرحيل عن الوطن هو فقدان ل (الحبل السري)، بين الوليد وأمه ومن أسرار الغربة إنها لاتستثني في المحبّة حتى من(يسرقون خبزنا ويئدون أحلامنا) أو حتى من تفصلنا عنهم بحارٌ من الخلافات والمسافات. كنتُ قبيل أن ارسم ملامح هذا المقال وأنا في طريقي إلى المطار أفكر بجملة شعرية هطل عليّ رذاذها فلم أجد إلا أبا الطيب المتنبي يهمسُ بشجن قائلا: رماني الدهر بالأرزاء حتّى فؤادي في غشاءٍ من نبالِ وما أنّ أقلعت الطائرة نظرت إلى بغداد فتلفت القلب، بغداد التي ما إن تضمد جُرحاً حتى أرادوا لها أن تركع لجرح ٍ آخر، و...هيهات أن تركع. في بغداد وعلى ضوء نجمة القطب قطفت أزهار القمم العالية، ولمستُ سقف العالم وتعلمت لغة الأطفال والمطر وكتبت الحزن بدمائي، وآمنتُ بكلمات الفقراء نعم (آمنتُ آمنتُ حتى قيل قد كفرا). في بغداد رأيت كيف يُذبح الأطفال وتهان الكرامات وتنتهك المقدسات وكيف يبنون حضارتهم الزائفة على جماجم الفقراء،(فأنا رأيت فهل من رأى). بغداد هي عندي كعبة من أحب، أسكن فيها وأتعبد وأرحل عنها بحثاً عن بعض ملامحها الضائعة لأجدها في وجوه مدن أخرى جديدة ومدن لم تولد بعد أتوقف عند بواباتها المطلسمة انتظاراً لولادتها، بغداد هي كعبتي الأولى التي ولدت وتعذبت وأحببت وكتبت الشعر فيها. بغداد التي لم تهنأ بعد بفرحة خلاصها من باعة الموت وحملة أناشيد الماضي (القذر والمريض)، بغداد التي لبست وشاح الطهر ونفضت غبار الماضي ونبذت كل الخائضين في(فقه المؤامرات والمغامرات)، بغداد التي تلملم أبنائها يومياً من أرصفة المراهقة السياسية والمتاجرة بدماء الأبرياء،وأشلاء(ولد الخايبة).بغداد ليست شوارع، وساحات، وحدائق، ومطاعم، ومنازل، ومكاتب صحف، ومكتبات، ونقاط تفتيش، بغداد قبل ذلك بركات تتنزل من شفاه تقي، اوعجوز ترتل كلمات الدعاء بلغة(أهل الله) تسوقها بمثل ما تأتي فيكون لها وقع السحر الذي يرتعش له القلب، وفي (رحلة الطائرة) أصغيت للمدى فلم اسمع إلا تراتيل فيها الكثير من سورة يوسف وقصة إبراهيم وحزن الزهراء وعلي ابن أبي طالب يلوح بكفيه للفقراء إن هذه محنتكم والله عليمٌ كريم، وأبو ذر يصرخ (هل أتاك حديث جياع العراق)، هناك وفي الكوفة الغراء كان رحيق المصطفى، فجر أضاء الكون يوما لا استكان ولا غفا، يا آل بيت محمد كم حنّ قلبي للحسين وكم هفا،هناك نقاء مريم العذراء امتزج بصراخ ودمع زينب الحوراء ليرسم صورة طالما كانت تعني ليّ (صوتاً، ودمعة، وترنيمة انتصار) إنّ اقرب الناس إلى قلب المرء هم الذين إذا رآهم غمرته المسرة وإذا نأى عنهم أوجعه حنين الشوق إليهم، وأنا في بغداد لا أهل ليّ، فقد مزقتهم المصائب وأكلتهم المحن ودفنوا تحت رماد الحروب. ولهذا ختموا على جوازي دخل بيروت وهو ينزف من قلبه (دماء الحزن). في بيروت والنرجس يخترق السكون بعطره وكان الوقت عاشوراء، في بيروت ولاشيء سوى النظام والجمال كما يقول (بودلير)، في بيروت ذقت طعم الفراق وألم البعد، أنا والفجر وبيروت والكلمات من كان يوقض جُرحاً مازلت أنزفه، في بيروت صرخت ببيروت كفى يا بيروت فجراح قلبي تدميني وتقتلني وتحييني. هنا ببيروت(وللعيد طعمٌ آخر) وفي أول أيام (عيد الأضحى) وفي الساعة الرابعة فجراً بتوقيت الحياة، لذكرى طيف أمي رسمت ريشتي لوحتين.... اللوحة الأولى(أُمّي مدينة الأحزان التي دخلتها باكراً)، أُمّي.. أنا الآن في شمال بيروت ومضى على وجودي هنا عشرون يوماً، ولاشيء أمامي سوى عينيكِ اللتين ادخرتُ فيهما (حرارة الحب) ومعاناة الضياع، وهدير البحر، وصرير هذا القلم، وبضعة أوراق، وعلبة سكائر، وآخر ماتبقى من الذكريات. وشدني شوقاً إليكِ لم استطع مقاومته أبداً، شوقاً فيه حنين الماضي ولوعة الحاضر، وأيُّ حروفٌ مهما اجتمعت ستكون خجولة و متواضعة أمام كيانكِ الرائع الدافئ والعابق بالحنان والأمل، سأترك العنان لقلمي ليصول و يجول و يبحث و يكتشف معدن تلك المخلوقة المكرمة عند الله تعالى وجعل الجنة تحت أقدامها. من صمتكِ العميق آمنت إنّ النظرة لُغة، ومن فمكِ الظامئ أيقنتُ إن القرب فارغة، ومن ظلم الحياة وألم الذكريات ومرارة السنوات أدركتُ (مامعنى أن يعيش الإنسان يتيماً)، هارباً من كل شيء، متوجهاً إليكِ ارمي إلى الأمام طفولتي والى الوراء (لُعبتي) هكذا أجيء حالماً بكِ تائها بين لذة الوصول وألم الضياع ..(لأناجيك) أن ترجعي إلينا.. نعم أمّي ارجعي إلينا فثمة الكثير من القصص والجراح والأحلام تنتظر طيفكِ لترسمي لها الأجنحة وتطلقيها في فضاءات بوحك الجميل، عودي لكي لاتسلبينا أعيادنا الافتراضية ونحن نرمي بأمنياتنا فوق رماد وجوهنا التي أتعبها الانتظار، أمّي لاشيء أواجه به رحيلكِ عني سوى الدمع والكلمات، (الكلمات) التي ادخرتها لأرسم لك شوقي وحزني وحلمي بلقاءٍ آخر. أمي.. ماذا أهديك في العيد؟ هل أعيد تلاوة القرآن وأتهجى حروف الوجع في سطور جبينك، وماذا اشتري...؟! وفي وطني البيع غير البيع والشراء غير الشراء فالباعة عندنا غالباً مايبيعون (الأحلام والكرامات)، أمّي ضميني إليك أغفو على حبكِ وأيُّ حبٌ أسمى من حب الأم، ضميني (أناغي) أريجك المنبعث من حنايا طهركِ ودعيني ارتوي زلالاً، احضنيني فأنا ومذ كنت طفلا ولا أزال احلم أن ارتمي بين أحضانك، أمّي كم كنت أتمنى في هذا اليوم أن أقف عند (قبركِ) لأقول لكِ (كل عام ٍوأنتِ بألف خير)، خذيني إلى كربلاء فهناك (عاشق الإله) وهناك شمسٌ ساطعة تحجب سحب التمويه والكذب والزيف والخداع، فهناك الحسين(ع) (ولم أرَ رائعاً مثل الحسين يخط إبداعه بلا إصبع، ولا أخ مثل أخيه يجيد العناق بلا اذرع)، خذيني إلى بيتنا، فهناك (أرجوحتي) وهناك كنت طفلا يُداعب أوراق الشجر ويرسم أحلامه على ضوء القمر، أمي مدي يديك وعانقيني كطفلاً صغيراً فمنذ أن رحلتي وأنا اذرع ذاكرتي شمالا ويميناً، مشرداً في بلاد الحنين، مدي يديك وعانقيني فكم احتاج العناق، مدي يديك يارفيقة نبضي فقد مل قلبي البكاء فوق رخام القبور الفارغة من أمواتها، خذيني إلى خيمة في أعالي الجبال كي أصير ناسكاً في محراب طهرك المزركش (كسجادة الصلاة)، عودي كي يشم الطهرعبيرأنفاسك، عودي للحظة واحدة لكي أناديك ب (أُمّي) فقد حرمت حتّى أضنتني هذه الكلمة، عودي كي أبوح لكِ بكل مايدمي قلبي من هذا الوجود المؤلم، عودي لنتحدث إلى بعضنا ونبكي فقد (علمتُ إنّ من الحديث دموعا)، عودي كي ترشي لنا الحب على الخبز، عودي فما عدت قادراً على فراقكِ.. وأيُّ فراق؟ انه فراق الأم الذي يُدمي القلب، أمّي كل شيء حزين بيتكِ، كتبكِ، أحلامنا، وحتّى نسخة القرآن التي كنت تقرئين بها فكلما اشتقت إليكِ نظرت إليها فأراها حزينة، أمّي هذا قلبي يريد أن يُصغي إلى قلبك، وهذه كلماتي وجراحات قلبي النازفة وهي تبكي بصمت. وهاهي روحي تنشد لك تراتيل السماء، وعبق الدعاء وهذا دعائي معلق بأجنحة السماء لترجعي إلينا ذات يوم وتدقي أبواب انتظارنا، عودي يوما ما فقد انتظرت طويلا وسأنتظر.. وسأنتظر.. وسأنتظر. اللوحة الثانية، (إلى أمي عُذراً) اعرف بأنني لم أزر قبركِ منذ سنتين أو أكثر وكنه العراق الجديد الذي لم تبصره عينيكِ أيتها الحبيبة.. ففي زحمة الأحداث قد ننسى أن نزور الأحياء ممن قاسمونا الطفولة والصبا والصداقة والحب، مع هذا أتمنى أن تكوني مطمئنة فالجميع لايزال ينعم بدفء أحضانكِ ومازالت عينيكِ الوطن الذي لم يتسلل إليه المنتقمون ولم تنله الفضائح ولم ولن يحتاج إلى دول مانحة لإعادة اعماره.. ومازلت هنا (في القلب) تنامين مبتسمةً برغم كل شيء وعذراً مرة أخرى لعدم زيارتي إليكِ.. ماذا افعل إذا كنتُ احتويت الشمس والأوطان أينما سرت أراكِ أمامي كنور الله (جل جلاله) ياشمس عمري ووطني ونور الله الذي به اهتدي. أمي... ياشراع الطهر، ورقة البوح، وضياح الكلمات، ورتاج الحزن، ويا أريج السماء، ويا جُرحاً طالما كتمته و سأبقى أنزفه. (أمي) لن أكمل فالحزن يقتلني والجرح يؤلمني(موعدنا السماء)، وحتى يحين اللقاء، سلاماً سلاماً أمي من قلب مفعمٌ بالأسى ومثخناً بالجراح،سلاما يحمله إليكِ النسيم في اليقظة، والملائكة في الحلم، سلاماً سلاماً من قلبٍ (حزين ٍ كئيب).