الروائي المصري الكبير جمال الغيطاني يُصدر قريباً ضمن اجزاء دفاتر التدوين كتاباً جديداً متوالياً على تجدد واستنبات وصوغ يجمع بين الدقة والحيوية وبين السردية وما يثريها، وبين التحليل وما يستعمقه وبين الأمكنة وما يستجليها ويتحراها وبين التماسك في الكتابة والتنويع الخصب (وهو تنويع عرفناه في تجاربه الروائية العديدة). يُصدر الغيطاني متواليته الجديدة من دفتر الاقامة قريباً عن دار الشروق في القاهرة. سننشر وباذن الروائي الكبير مشكوراً عدداً من فصول الكتاب او من اجزائه. هنا الثاني: الروائي المصري الكبير جمال الغيطاني يُصدر قريباً ضمن اجزاء دفاتر التدوين كتاباً جديداً متوالياً على تجدد واستنبات وصوغ يجمع بين الدقة والحيوية وبين السردية وما يثريها، وبين التحليل وما يستعمقه وبين الأمكنة وما يستجليها ويتحراها وبين التماسك في الكتابة والتنويع الخصب (وهو تنويع عرفناه في تجاربه الروائية العديدة). يُصدر الغيطاني متواليته الجديدة من دفتر الاقامة قريباً عن دار الشروق في القاهرة. سننشر وباذن الروائي الكبير مشكوراً عدداً من فصول الكتاب او من اجزائه. هنا الثاني: هي لم تعرف بما جرى بالضبط. التفاصيل عرفتها من خطيبها الذي اتصل بها سراً اكثر من مرة بعد الشبكة وخاتم الخطوبة الذي ما تزال تنتظر ملمسه لإصبعها وهيئته وتطلعها بين الحين والآخر اليه. والدها المح وذكر بعضاً من تفاصيل، ويبدو ان ندماً اعتراه، بعد عامين قبل سفرها إلى انجلترا للدراسة قال لها: سامحيني يا بنتي، وعندها تطلعت اليه دهشة، حائرة. أنا اسامحك يا بابا... لم يفسر، ولم يشرح، لكنها تثق انه قصد فسخه لخطبتها بدون الرجوع اليها, أو معرفة رأيها او سؤالها مشاعرها، عاد غاضباً لينهي قراره الى أمها وإليها، استجابت وخلعت الدبلة، غير أنها بكت بين يدي أمها، وقبلت يدها لتقنعه، رددت. معقولة.. معقولة يا أمي.. فستان الزفاف عند الخياطة وخطبتي تتفسخ... قالت إنها موجوعة حتى الآن. لكنها لا تعتب على أبيها ولا تحمل له، سامحته، سامحته والله، رغم انه ضيّع نصيبها الذي لم يتكرر. ماذا جرى بالضبط؟ ولماذا جرى ما جرى؟ لا تعرف، كل ما تأكدت منه أن رد فعله كان مباغتاً، عنيفاً، هو الذي لم تعرفه الا متفتحاً، صبوراً، ودوداً، لا يجبر أحداً على شيء ولا يصعب الأحوال. زفة بلدي لابنتي مستحيل. الآخر خاوي. لا تهمه الا المظاهر يستدير بحساب. ويتلفت بحساب. ويتظلم ضاغطاً على مخارج الحروف، ويستخدم الألقاب مثل بك وباشا كثيراً، كان ذلك في وقت من النادر ان يلفظ انسان بها. اعتبر اصرار الشيخ على الزفة الافرنجي اهانة له، ومنذ بدء الرفض وظهور التعنت جفت النظرات، واحتدت الكلمات، وظهرت عداوة كامنة لم تتسق قط مع كل ما اتسمت به الصلة من احترام متبادل في الظاهر وعدم تخطي الحدود. لا أعرف ماذا جرى له، لاأعرف. قالت إن الخاسر على المستوى المادي كان والدها، فقد أنفق على تجهيز الاثاث، وعلى ملابسها، كل شيء كان معداً، ألم يكن النقاش على مكان الزفاف وترتيبات الحفل، حتى الآن لم تصدق حكاية البلدي او الافرنجي، كذلك تعب ابيها ومرض معدته، انه صبور، حمول، لكنه ينفجر احياناً منفعلاً لأمور صعب تبريرها، فسر كل ما دفعه، وهم لم يخسروا شيئاً، شبكتهم عادت اليهم، والهدايا الصغيرة التي احضرها طوال تسعة شهور، قالت ان الشاب كان طيباً، ذكياً، واضح القصد، لكنه النصيب.. كيف جاءت إلى انجلترا؟ آه، هنا شابة، ربما تبدو منفصلة، لكنها متصلة، بعد حوالي ستة شهور من فسخ الخطوبة، وفشل كافة المحاولات التي قامت بها الأم من هنا. والأم من هناك، فوجئت بالوالد يقول لها إنه سيوفدها في بعثة إلى لندن. ثمة فرصة متاحة. تدخلت عوامل عديدة لتوفيرها. لن تتكرر. البعثة لدراسة الدكتوراه. الماجستير أعدته قبل اقتراحه هذا. قال إنه لن يترك لها أو لشقيقها ثروة. اي مال تقل قيمته مع الوقت. ليس عنده الا الستر، لن يقيهما الحاجة إلا العلم. إنه الوقاية الحقيقية من مخاطر الايام، ما يرجوه الاطمئنان عليهما قبل انتقاله. عليها هي بالذات، تقول إنه عندما ينطق الاطمئنان فإياها يعني، تثق أن احساسه بالذنب تضاعف مع الأيام، لديها شواهد كثيرة على ذلك لن تبوح بها لأحد, لكنهم جميعاً تجنبوا الحديث في هذا الموضوع. هو صمت، أمها كذلك وبالطبع هي، اما شقيقها فكأن الأمر لا يعنيه، من يجرؤ على مناقشة مشيئة الوالد، المهيب، صرامته حادة، ما يقرره، ما ينطق به لا يجادله فيه أحد، رغم رقته البادية وحنوه الدافق وتفتح أفقه، مرة أمها دائماً والدتها لا غير بعد الغداء وأثناء شرب الشاي قالت بلهجة استفسار وليس سعياً الى النقاش. ألم يكن من الأفضل انتظار النصيب وسفرهما معاً؟ كان عمرها وقتئذ اثنين وعشرين عاماً، ما تزال تذكر إجابته، لم يحتد غير أنه بدا حاسماً: النصيب يجيء في أي وقت. في أي مكان؟ غير أن النصيب لم يأت، لم تقابله قط، النصيب أنها بقيت وحيدة، وأثناء دراستها رحل والدها الشيخ الجليل، تبعته أمها بعد شهور ستة، اما شقيقها فاستقر في بروكسل. التحق بمكتب محام دولي، الى من ستعود؟ بمن ستلحق. في الوقت عينه كان عرض الكلية بالتدريس لا يمكن اهماله أو الغض من أهميته. تخيلت ما كان يمكن ان يبديه أبوها لو أنه ما يزال يسعى. حتما سيوافق. اقنعت نفسها. بل صارت متيقنة من رضاه، هكذا بقيت، لا تقدر على الدخول في علاقات المجتمع الذي لا يمكنها ان تساير تقاليده بحكم نشأتها وميراثها الأخلاقي، لم يتقاطع مع مسارها آخر يفهم ويقدّر. في الوقت نفسه ظهر الوعد بكتابة اسمها على الجدار. ماالجدار؟ فيما بعد أخبرتنا به. بل وأطلعتني عليه، غير أن وجهها الأسيان المقدد، ملامحها الأنثوية غير المسقية تؤرقني اذ تطل علي من هناك. من أفق المستعصي على النسيان. وهي من حققت رسوخاً ومتانة علمية تذكر في المراجع الدقيقة المعتمدة. اما اسمها فأصبح من الأسماء العالية في مجال الاختصاص. هي هناك، وأنا هنا، أياً كان الأمر، فأنا هنا بالنسبة لي، وهي هنا بالنسبة لها، انا هناك عندها، وهي هناك عندها، ماذا يعني الوجود في نقطتين متباعدتين، منفصلتين، أين هما؟ أين حلولهما؟ اي انتقال يجمعهما. يبدل الوضع فيصير ما يوجد هناك هنا؟ قبل أن احّل بالمعهد أمضيت ثلاثة شهور لم أسافر خلالها الى أية جهة، في الداخل أو الخارج. غير أنني في العام الماضي لم أتوقف عن الترحال. حتى انني درت حول الكوكب مرتين. إنها طبيعة عملي. كل ما أحضره مؤتمرات ومنح علمية قصيرة. يحدث احياناً أن أتلقى دعوة إلى مؤتمر او لقاء ما قبل شهور من انعقاده، أدون التاريخ في دفتري، غالباً ما يكون الفاصل عدة شهور، تبدو المسافة بعيدة، يحضني ذلك على القبول، فما يزال بعيداً، غير ان البعد يولي وأفاجأ بضرورة تلبية الوعد، وتنفيذ الالتزام، اضطرب بعض الوقت، غير أنني في الأغلب العم ألبي. سفري الى الصين بدأ الإعداد له قبل عامين من صعودي الى الطائرة المتجهة الى الشرق ليلاً عند بدء إقلاعها. التاسعة وخمس وأربعين دقيقة من مطار القاهرة. الى بانجوك أولاً. ثم استئناف الرحلة الى الصين، الى بكين تحديداً في ثاني مرة اقطع فيها الطريق وان اختلف الأمر قليلاً. في المرة الأولى الى شانغهاي. يحدث أن أفاجأ بتقارب أسفاري لتسلمي الدعوات قبل مدد طويلة. عند اطلاعي أول مرة أقول مردداً: ما زال عام متبقٍ، ما أنأى ذلك، ربما اتسلم رسالة تالية، كل ما أفعله أدون حتى لا تتداخل التواريخ، لا تبدو الفترات الفاصلة مقلقة عند النظر من بعيد، عندما أوشك أتبلبل وألوم نفسي، كيف لم أراعِ الفاصل بين الوصول والرحيل. اوشك على إرسال اعتذار، لكنني أخجل، اعرف الترتيبات التي تُتخذ وما يمكن ان يسببه ذلك لمن أظهروا العناية بي، مرة فضفضت لمن أثق به من رفاق الصبا، غير أنه قاطعني مبتسماً: انت لا يمكنك المكث، أنت خلقت للرحيل.. تطلعت اليه مردداً بيني وبين نفسي. كلنا في سفر حتى المقيم ظاهراً. هنا. هناك، أقرب، أبعد ماذا يعني ذلك؟ عن من؟ ولمن؟ إلى أين الأين؟ ماذا تعني خمس ساعات، تسع، عشرين، ماذا تعني مغادرة نقطة وبلوغ أخرى. سؤال يليه آخر. الحق أنني دهش. هل أضمرت كل هذه الاستفسارات؟ احياناً يخطر لي ذلك. لكن عبر مسافات مكانية وزمنية. هنا تتدفق الحيرة علي، السؤال قرين الحيرة، كثيراً ما يكون اهم من الجواب، يهدىء بمجرد النطق به، كانه الوصول الى صياغة ثم النطق به نصف الطريق. هل أصف حالي الآن؟ منذ استعادتي ملامح ابنة الشيخ، عالم الأزهر الشهير، طلتها الوحدانية، جفاف ملامحها، عرفت هذا الحال مرات، لكل ظروفها وأسبابها. ليس أقسى من وصول أنثى الى سن اليأس بدون أن تنجب، وأد رغبة الاستمرار وعنصر الأمومة افظع ما عرفت. ليس كمثله جرم. لي صاحب حميم، استاذ في علم المصريات، حدثني عن طالبة نابغة أعدت بحثاً عن العين في تماثيل الدولة الوسطى، لما أبديت الرغبة في قراءته قال إنها ستتصل بي لتأتيني به، في الموعد الذي حددته جاءت، تؤطر وجهها بحجاب. سمراء، كأنها تطل من لوحة عتيقة، مستديرة التكوين، هادئة الطلة، اجابتني عن استفساراتي عن المدة التي أمضتها متنقلة بين المتحف المصري وشعارة والبر الغربي بالأقصر. عن مراجعها. عندما سألت عن موقعها الآن. قالت إنها معيدة بالجامعة. وبعد لحظة تطلعت الي لنقول كلمة واحدة. وعانس.. لم أعرف كيف أجيب، أو التعليق الذي يمكن نطقه، حتى الآن يتردد النبر في ذاكرتي. لماذا قالت ذلك؟ في صوتها مصارحة وشكوى وضيم واعتراف، لعلها المدة الوحيدة التي اصغيت فيها الى انثى تصف نفسها بأنها عانس، استعيد ملامحها بغتة، من مواضع لم أتوقع وفادتها علي. وعانس.. تقول ابنة الشيخ. انها تمكث هنا. لم تذهب الى هناك. تنتظر تحقيق املها. ان يكتب اسمهاعلى الجدار بذلك تكون اول عربية يحفر اسمها عليه بين لأسماء النوابغ الذين درسوا وتخرجوا من الجامعة. أستعيد نبرها وظهور اصدائه عندي، حركة عينها العصبية، لم يستغرق لقاؤنا الا دقائق معدودات، مجرد وقفة تعارف وحوار سريع بعد انتهاء محاضرة، ربما كنت اعني لها شيئاً لأنني قادم من بلدها الذي لم تزره منذ ربع قرن، ربما تستعيدين بشكل ما، لكنني لا أعرف، وهي لا تعرف كيف تلح علي. الحقيقة. ثمة معنى أريد أن أقبض عليه، استوثق من ثم اعبر عنه. انطقه. ليس حديثي عن الصين وأسفاري إلا حومان قربه. ودفعاً لذاتي كي تقترب منه. أراه غائماً وأرغب حلوه، ليتني أقدر لكنني لم أكف، لعلي. لا أذهب وأرجع، أستقيم وأدور، فلا أجد إلا الحكاية، لعلها توضح لي قبل اي انسان آخر من خلالها أفهم ما غمض علي، هل قصد مدير المعهد ذلك عندما طلب مني أن أروي ما يرد على خاطري. ما أزال اشك فيه، لا أعرف ماذا يضمر، هذا التكلف، تلك الحذلقة في النطق والحركة. المبالغة في ابداء الاعتذار عن تغيبه وقت وصولي. ثمة شيء ما لم أقدر على الامساك به. أو تحديده. غير انه يقلقني رغم امتثالي لما طلبه مني. تنفيذي ما أراد معللاً بأن الأمر لاقى هوى في نفسي. ربما يتم تسجيل ما انطق به، ماذا اخشى؟ ماذا لو بحت بأدق دخائلي، فليترجموا، فليفحصوا، لا يعنيني أمرهم، سوف أستعيد إذن بعضاً مما جرى لي علّي أوضح. حدث أن اتصلت أسبابي بأنثى مفردة، لم اعرف مثلها ولم ألتق بمن يقاربها، رغم انها تعيش في بلد وانا في بلد، تعرفت بها قبل سفري بساعتين، بعد ان حزمت حقائبي، كان لديها بواعثها وأسباب مايحركها، لاقى عندي تمكيناً واموراً، ولهذا حديث يطول امره أرجئه الآن لعلي مفصله فيما بعد، غير أنني اكتفي بالاشارة، بعد عودتي صار بيننا جسر من الخطابات والرسائل، عبر الهاتف، عبر الشبكة العنكبوتية، عبر السطور، تعلقت بها على البعد، حتى صارت عندي اقرب وأدنى من كل الذين عرفتهم عن قرب ولمدد طويلة. نمونا سوية عبر التنائي بما تجاوز أية إمكانية تتحقق بالقرب وهذا عجيب. اخشى لو بدأت شرحه فلن يدع مجالاً لذكر اي شيء آخر، غير أنني المح الى حال غريب، الوحشة داخل الوحشة، أو الافتقاد عبر الافتقاد، تزداد وحشتي عند حلول توقيت خروجها من بيتها قاصدة عملها كأنها لم تفارقني الليل كله، عند قرب عودتها أتهيأ كأنها ستعانقني وتفيض حاستي بعبيرها اذ أتخلل شعرها بأنفي، بل ان الاستثارة تدركني حتى أهب مشرئباً بجسمي في الأويقات التي تضطجع خلالها. في احد الأيام اخبرتني انها ستسافر لثلاثة أيام الى مدينة جبلية عند سفح وسط غابة. صرت في وحشة كثيفة كأنها بدأت سفرها مني وليس من هناك الى هناك. تتبعتها على الطريق. خشيت من عربات مسرعة ونقل حمولته ثقيلة ومفاجآت قد تظهر فجأة. صرت الى حلكة رغم انها لا تهاتفني مرات نهاراً وليلاً. تسعى الى ارضائي عبر صوتها، غير انني كنت ازداد افتقاداً لها داخل غربتي عنها. وعندما رجعت الى مقر اقامتها هدأت قليلاً منتمياً الى وحشتي الاصلية. ان تدركني ضعضعة لاقامتها في غربة فهذا مفهوم. اما ركوني الى البيت لغيابها داخل الغياب. لابتعادها ضمن البعد. فهذا مما حيرني. هنا أستفسر، ماذا يعني هناك بالنسبة لها عندي، ماذا اضافه ذهابها الى هناك وهي هناك أصلاً. ماذا يعني هنا؟ ما معنى هناك؟ ألا يكون المقيم هنا احياناً أبعد من الماكث هناك؟ عندما نرلت شانغهاي، من المطار الى المدينة، قلت: ها انذا بلغت الاقاصي, فيما بعد تساءلت: الأقاصي بالنسبة لي طبعاً، عندما ولجت زخم المدينة، كثافة معمارها، شهاقة مبانيها، لن يلح لي من ملامحها الصينية الا لغة اللافتات، الحروف التي اعرف اشكالها واجهل معانيها، عندماعبرت مدخل الفندق الفسيح الى مكتب الاستقبال رددت: هذا مبنى، هذا مكتب، هذا عامل يتقدمني الى الطابق الحادي والثلاثين المخصص لرجال الأعمال المتنفذين. للشخصيات الهامة، هذا كله هنا، أنا هنا ام هناك؟ اعتبروني هاماً، عندما عبرت الباب تساءلت: ما حاجتي الى هذا كله؟ جناح فسيح، صالة اجتماعات، غرفة مكتب بها حاسب آلي، فاكس خاص، ثلاث غرف نوم، أربعة أجهزة تلفزيون، لماذا هذا كله؟ ترف عندي يثير الارتباك، تماماً مثل اضطرابي عند جلوسي الى مائدة تتوالى عليها الأطباق، لا أتذوق الطعام، حدث ان دعيت الى مدينة مراكش ولي بأهلها وثيق صلة وجميل مودة، المناسبة شهود البيعة، توالى وصول وفود القبائل، ضربت خيامها في فراغات المدينة، في السهول المحيطة. اليوم التالي توجهت الى قصر الباهية لتناول الغذاء على المائدة الملكية بعد تمام المراسم. واكتمال الأصول. مع بدء اجتيازي المدخل الى الممرات المؤدية الى الفناء الفسيح تعلق بصرى بالزخارف. أحاول رد كل عنصر الى اصوله، الزهرة تصبح دائرة والغصن يصير الى منحنى، غير ان ما لفت نظري وجذب بصري، درجة اللون البنفسجي. ودرجات الألوان لا تتناهي، تخضع لمؤثرات شتى، منها تركيب اللون ذاته وصلته بالزمن، مرور الأحوال عليه من برد وحر، شمس ومطر، كذلك تغير درجات الضوء فيما يكون صباحاً لا يمكث بعد الظهر. بل ان الأمر متغير، صائر الى تبدل من ساعة الى أخرى. يستدعى الى ذلك مدناً اخرى واصقاعاً نائية امضيت فيها ازمنة متفاوتة، لو ذكرت ما تبقى منها عندي لطالع القوم مني عجباً. تلح علي مدينة عشق آباد عاصمة بلاد التركمان. نزلتها منذ عشرين عاماً، زمن الاتحاد السوفياتي، امضيت أسبوعين لأمر يتصل بالسلام العالمي ودعاته. لا أذكر المناسبة التي دُعيت فيها الى بيت مخرج سينمائي شهير قيل لي إن افلامه معروفة في الغرب. قعدنا في فناء الدار، رائحة الشواء، والأرغفة سخية القمح، الطازجة، دخلت ابنته فتعلقت بملامحها ولون بشرتها القريب من حمى النيل. دارت علينا باناء القهوة الفواحة. وعندما واجهتني امسكت البكرج بيد والفنجان بأخرى، مالت ناحيتي. في قصر الباهية قعدنا أمام الوائد التي رصت حول الفناء المستطيل. قال صاحبي المجرب: انبته. احد عشر طبقاً خلال ساعة وعشر دقائق في توقيت واحد يظهر خدام القصر. يرتدون الجلباب والسلهاب. يحملون فوق رؤوسهم الطناجر الفضية، تنكفىء عليها اغطية مثلثة الشكل يقفون خلفنا. في لحظة واحدة ينحنوم يرفعون، نبدأ، من عادتي المضغ المتمهل، في مثل تلك المآدب لا أتذوق، لا استمتع بالطعام الا مع صاحب حميم، لذلك وجهت حواسي لرؤية الألوان. وسماع الموسيقى المصاحبة للجو. تتوالى الأصناف. أفضل طبقاً واحداً أشبع منه. ربما لاعتيادي منذ أيامي الأولى الشظفة الأكل من طبق واحد. التمدد في حيز محدود، مهما اتسعت المساحات، أو تعددت الغرف. لا يشغل الإنسان إلا مساحة تخصه عند الجلوس، عند الرقاد، من هنا بدأت حيرتي عندما دخلت الجناح الفاخر في شنغهاي. ربما أخصص وقتاً أملي على هذا الجهاز وصفاً وذكراً للأماكن التي رقدت فيها، كل منها مغاير، مختلف، مجمع للمتناقضات، لو أصغى القريب مني، المألوف لي لدهش وحار، فما البال بالغريب عني؟ نزلت المدينة، توقفت عند نهر اليانفستي، الوقت عصر. تلألأ فوق المويجات صدى لضوء الشمس الأصفر، خطر لي فجأة إنها الصين اللون الأصفر المقدس الذي كان محرماً على العامة، يختص به الأباطرة لا غير، درجة خاصة، صفرة لم أطالعها في أي مكان آخر، انعكست لجزء من الثانية غير أنها تمكنت ورسخت، تدفق المياه في النهر مغاير ربما يبدو أسرع، مستوى الماء واحد في الكوكب لكن لكل نهر سمت، ولكل مجرى علامة، النيل مرجعيتي، ليس كمثله نهر، بتدفقه، بهدوئه الوعر، صمته الغريب، عتاقته وسريانه، وذلك الشيء المستعصي على الإمساك به، إنسانية حضوره، كلما لزمت ضفته، أو تطلعت إليه، أستوثق أمراً فيه. إنساني الطبع، فكأنه يسمع ويرى. أعبر النواصي، هذا شارع، ذاك مدخل، تلك دور عتيقة من بقايا المدينة القديمة، أي زمن الحكم الماوي المتشدد، كنت على البعد معجباً به، متشيعاً له، بل إنني اعتقلت بسبب ذلك، غير أن ما أسمعه منذ وصولي نقيض ما قرأت، والوجه الآخر لما اعتقدت، كذلك ما أطالعه وما أراه. من هنا بدأت الثورة الثقافية، ألج تسارعاً جانبياً يشبه منحنى في قصر الشوق حيث نشأت وبدأت، إذن، أنا هنا وهناك، أرى نساء يبعن السمك في أوعية ممتلئة بالماء، السمك يبلعط. كيف تم اصطياده إذن؟ فيما بعد دخلت مطعماً قريباً من الفندق تديره عائلة، الوقت متأخر، وهم يتأهبون لتناول العشاء، قام أحدهم مبتسماً، دعاني مرحباً، أتى لي بالقائمة وعندما أشرت الى رسم السمكة رجع ومعه وعاءان، سمكة تسبح في ماء عذب تشبه البلطي، الأخرى مثلثة الفم، لا يماثلها نوع مما أعرف، أشير الى الأولى، الرجل لا يعرف الإنكليزية، صحبني الى الأطباق التي يتناولونها، أشرت الى الأرز، الى خضار مسلوق، فيما بعد قال لي صاحب مقيم إن شرط تقديم السمك في المطاعم أن يكون صاحياً، مرة أخرى أتساءل: كيف يتم اصطياده إذن؟ أحوم حول معنى لا يمكنني الإمساك به أو التعبير عنه، لكن.. فلأحاول. أتوقف عند ناصية في شنغهاي، أو في بكين، ربما فينيسا، باريس، مانهاتن، قوم يمرون، أرحل معهم، تفد عليّ ملامحهم، أتساءل: هل قطعت هذه المسافات لأصبح قريباً، أي قرب؟ منهم؟ مني؟ هل يدركون أنني أصبحت قريباً منهم رغم أنني لا أعرفهم، لم أتحدث إليهم، لم أصغ الى أي منهم؟ أي قرب إذن؟ هل أصبحوا أكثر قرباً؟ هل صرت الى بعد أبعد؟ هل الأمر كما قيل: اغترب تتجدد؟ أم كما أوجز من لا أعرفه: سافر قليلاً تعرف كثيراً، ارحل في إقامتك تبلغ كل صوب. أين طالعت ذلك؟ مني أو منهم؟ لا أعرف، لا أذكر، لا أعي إلا ما يحيرني. هل أنا هنا أم هناك؟ ما الذي جعلني ألبي تلك الدعوة الطويلة مع أن ما تبقى لي من وقت قصير جداً بالنسبة لما مضى. لما أنتبه الى مروره، كأنه مرق الى جواري بدون أن أنتبه. ماذا يعني هذا المعهد؟ هل المبنى مسكون أم فارغ. في أي حجرة يقيم الإيراني الذي ينطق البيتين بمجرد رؤيتي؟ هل تصور من بنى القصر أن غرباء مثلي سيحلون فيه وأن من يشبهني سيحار كثيراً. سيضيق بالمكان الذي لا ينقصه أي عنصر من الجمال المتفق عليه. المألوف للحواس. الخضرة، الزهور، التنسيق، الهدوء، تدفق الماء السلسال عبر القنوات الضيقة التي تتخلل الحشائش؟ غير أن ما يصلني منه مغاير. كافة هذه العناصر لا تخفي العزلة الكامنة، المنفى، المقبرة الدانية، عندما بدأت أتحدث الى الجهاز الصغير تصورت نتيجة ميراث قديم أن صوتي يسجل في موضع آخر. ربما يؤدي الجهاز إليه، وربما لاقط صوت مدسوس في مكان ما. في البداية لزمت الحذر، لكن مع استمراري فارقت ذلك، لم أعبأ، بل بدأ عندي ما يشبه التحدي، تحدي من؟ لا أعرف. أن أقص أموراً جريئة، أن أفضي بآراء لطالما كتمتها. أن أستخدم ألفاظاً يعسر عليهم ترجمتها لو شرعوا، أو تحوي فحشاً يندر وروده على لساني؟ شانغهاي، بهو الفندق الفاره. أثناء عبوري صالة الفندق التي تبدو كميدان صغير الى المطعم التقليدي، تخرج فتاة من محل الحلاقة. متوسطة الطول، حاوية لملامح متفرقة اطلعت عليها عبر أكثر من نصف قرن. حاجباها من سعاد، فمها يمت الى ثريا، إطار وجهها من محاسن، خصرها همزة وصل بين ردفي النبوية وصدر كريستين المتقن، المكتنز، المشرئب، الحاضن، المدل، أما حضورها فمستجد عليّ. آسيوي، لن أنسى أبداً عيني سعاد، لا بد أن أحد أجدادها وفد في زمن ما من الصين، من موضع ما في آسيا، صارتا مرجعاً وقياساً. أبحث عنهما وأطل عليهما في كل وجه أقابله، سألتني البنية عما إذا كنت راغباً في التدليك؟ لم أفاجأ بالكلمة، أثناء تجوالي في المدينة القديمة. تقدم مني بعضهن، كن ينطقن اللفظ مفرداً مساج منغمين الصوت بنبرة استفهام، كنت أبتسم مومئاً، أو لا أجيب بالمرة، مخفياً دهشتي بين ما قرأته واعتنقته أول مسيرتي عن صين ماو، وما آل إليه الحال، قرأت وحدثني من أعرف عن فنون التدليلك الآسيوية. وذيوع صيت تايلاند والفيليبين في المهارات المتوارثة التي يسعى إليها أثرياء الغرب والشرق لإرضاء حواس ذاقت المعروف، المألوف كله، فسعى أصحابها الى غير الذائع، لم أكن راغباً. ولا قادراً على مضاجعة من أجهل مهما بلغ جمالها وحسنها، منذ سنوات كان سفري الى نقاط قصية عندي قد بدأ. مواضع لما توجد خارجي إنما داخلي، وكنت أستعيد تعبيراً ردده على مسمعي نفر ممن عرفت في القاهرة القديمة عندما يصفون شخصاً يميل الى عزلة قائلين بيرتاح أكثر لما يقعد مع نفسه... يبدو أنني صرت الى ذلك، غير أن هذا حديث سابق لأوانه، فلأرجئ، كان وجهها مفارقاً الطفولة منذ زمن يسير، غلبني فضول، قلت إنني سأتناول الغذاء بعد ساعة سأصعد الى الغرفة، عندما نطقت الرقم. تراجعت قليلاً: إنه طابق المهمين، لا بد أنك شخصية مرموقة، أجبتها: ليس الى الحد الذي تتصوره، قبل أن أمضي استفسرت عن التكليفة، قالت: نحو مئة دولار. بعد عودتي الى الطابق الحادي والثلاثين، تمددت فوق الفراش رن الهاتف. قلت لها: تعالى بعد عشر دقائق. ارتديت قميصاً وبنطلوناً، عندما دخلت، تطلعت دهشة. اتجهت الى النافذة العريضة التي تطل على المدينة المتراكمة على بعضها، المتوالية بدون فراغات بادية، الشمس متدلية ناحية الغرب، تشرق الآن على دياري، تنزل هنا وتطلع هناك، أهو نفس القرص؟ درت معه مرات، أحياناً أسبقه، أوقات يشرق عليّ مرات كما جرى فوق المحيط الأطلنطي عند اتجاهي غرباً، ولهذا تفصيل ربما أتوقف عنده مطولاً. يبدو أنها ترى المدينة من هنا أول مرة؟ أكدت ذلك بإيماءة، عندما اقتربت ظنت أنني سألمسها، تراجعت قليلاً، سألت: هل تريد تدليكاً فقط؟ أومأت، أشارت الى الفراش، أتجه إليه، أتمدد. طلبت مني أن أسترخي، أخرجت من الحقيبة الصغيرة التي جاءت بها زجاجة بها سائل دهني أصفر. بعد إغلاقي الباب، اتجهت الى النافذة، اكتمل اختفاء قرص الشمس غير أن الضوء المائل الى الصفرة ما يزال، أصفر خلواً من أي شائبة قانية حمراء، هل تقديس اللون الأصفر وقصره على الأباطرة مصدره تفرد الشمس عند بزوغها وغيابها بهذا اللون؟ ربما، بقدر ما غمرتني الراحة لتوحدي مرة أخرى، بقدر ما تأسيت للصبية الحائرة. رغم تساؤلي هذا إلا أنني أقدمت على ما يشبه ذلك مع صبية أمهرية، نفرتيتية التكوين والنحت، ربما أقصى ما جرى لي معها فيما يلي ذلك. ذلك أنني معني هنا بتوضيح أمور ستبدو محيرة، غامضة لمن يجهل ظروف نمونا فيها، وقيود موروثة، بعضها رواسخ داخلنا، لعل ميلي الى الجنس الآخر، الى الأنثى، بدأ منذ وعي على مفردات الكون والوجود، فصلت هذا كله في رشحات الحمراء. تلك التي كنت أتلهف الى رؤيتها. بمجرد ظهورها أدبدب الأرض بكعبي قدمي عاوز أجوّز الحمرا..، كنت في الخامسة ولا أعرف ما يعنيه الزواج، أمي وجدتي وإمرأة خالي يبتسمن ويتخذن من عويلي هذا سبباً للسخرية، غير أن الأمر كان بالنسبة لي في غاية الجد. حسن أقدم صاحب لي الآن ممن عرفتهم أول الرحلة ومايزال، رغم تباعد الفرص وندرة التلاقي إلا أننا نفهم ظروف بعضنا ونتواصل على البعد استناداً الى ميراث قديم، كان يتيم الأم، كفله زوج خالته التي لم تنجب، وكان والده الذي نزل القاهرة في العشرينات من الحجاز يعيش لاجئاً، غير أنه لم يقطع صلته بأهله هناك رغم أنه تزوج مصرية وأنجب منها خمسة، ابنة وأربعة ذكور. لم تقم لحسن بهم أية صلة، في بعض الفترات يهم ويبادر، يسعى ويزور لكنه يقابل بلا مبالاة بل وعدوانية من زوجة الأب فيتراجع شاكياً، ونقعد في غرفته بحارة سيدي معاذ قرب شارع الدراسة الرئيسي المؤدي الى العباسية، نتحدث عن المستقبل والمشاريع المتخيلة. وكان أقصى ما يخطط له السفر الى المملكة السعودية واكتساب الجنسية التي لم يهتم أبوه بالحفاظ عليها، والدخول في مشروع صغير بعيداً عن الوظائف الحكومية، والده اتخذ من مقهى مطل على شارع الأزهر مكاناً يمارس منه عمله ويلتقي فيه بصحبه، أولئك الذين يعرفهم من مصر، أو الوافدين من المملكة، كان يدفع مبلغاً شهرياً لزوجة خالة حسن، كذلك إيجار الشقة وأخرى مجاورة لها يستخدمها لراحته عند الظهر أو استضافة بعض معارفه من المدينة، يجيئون مرتدين الجلابيب البيضاء، لمعظمهم كروش بارزة، طعامهم المفضل، الأرز ولحم الضأن الذي يُرمى فوقه، عندما أتيح لنا حضور غداء، دهشنا لتناولهم الأرز باليد، يقبض الواحد منهم حفنة، يضمها ويلقي بها في فمه، لا أدري متى اكتشف حسن أن والده يستقبل بعض النساء عند الظهيرة. أطلعني على ذلك، وكان مجيء الحاج مبكراً بمفرده علامة، يخلع المعطف الذي يرتديه صيفاً وشتاء، كذلك الطربوش، أتطلع الى صلعته دهشاً فلم أره إلا بالطربوش، جلبابه أبيض نظيف، ياقته تحيط بالعنق، أنيقة، فيما بعد عرفت أنها الطراز السعودي، خاصة الثنية عند أعلى الكمين. يدق الباب، يدخل علينا مبتسماً، لين الطلة، عكس ملامحه الحزينة، الجامدة دائماً، يبدو أنه يريد التأكد من بقائنا حول المنضدة نستذكر دروسنا. غير أنه بمجرد إغلاق الباب علينا، يقفز حسن الى النافذة، من بين فرجات الشيش يمكننا رؤية الساعين في الحارة الضيقة، كذلك من يتجه الى دخول البيت الذي لا يحتوي إلا على الشقتين. ولد حسن في المدينة وشب وهاجر لأسباب لا نعرفها بالضبط، لكن فيما بعد أدركنا صلتها بالسياسة، ربما، لست متأكداً، لكن الحاج كان حسن السمعة، موثوقاً به في السوق. ينشط قبل موسم الحج وكيلاً لطوف شهير هناك، ويعمل بقية العام في إدارة أموال ثري سعودي شيد بعض العقارات في الجمالية. والباطنية والدراسة. وكان له أيضاً في السمسرة، بيع وشراء وتأجير محال خالية، كان مقعده في مدخل المقهى. لا يمكن لأي زبون دائم أو عابر أن يجلس مكانه حتى لو بقي شاغراً عدة أيام. انه من علامات المقهى، ثم انه يستقبل يومياً ما لا يقل عن عشرين ضيفاً، أي يحقق دخلاً ليس بالهين طبقاً لمقاييس الوقت. حسن هو الاقرب عبر نصف قرن تقريباً حتى وإن باعدت الظروف بيننا خلال السنوات الأخيرة لتباطؤ الخطو وصعوبة الانتقال وكثرة المشاغل. أيضاً.. فلأكن صريحاً، انحسار المودة، يقترن عندي بالانثى وتعرفي عليها، في مرحلة الإعدادية، أثناء مراجعة الدروس ليلاً، اكتشفنا محاسن وفادية معاً عندما صعدنا ليلاً الى سطح البيت ذي الطابق الواحد بعد نوم خالته وزوجها الذي لا يهدأ طوال اليوم. يصلح مقعداً يفك النافذة ليعيد تركيبتها. يكنس الأرض، يفتح ساعة الجيب ليتأمل عملها وحركة التروس، يرتب شيئاً، يغير وضعاً، يفتعل مشاجرة مع صبية يلعبون، وأحياناً يفتح الباب فجأة ليأمرنا بالصمت والمذاكرة مع أننا منهمكان، يردد جملة أثيرة عنده اثناء سيره. لا يوجهها الى شخص بعينه، يخاطب نقطة ما في الفراغ. الراجل ما دام انشفا على وشه ما يبقاش منه فايدة.... ** منشور بصحيفة "المستقبل" اللبنانية 28 أكتوبر 2008