لم ينل فيلم مصرى هذا الكم من الجدل فى السنوات الأخيرة، وخصوصًا قبل عرضه التجارى فى دور السينما. بالطبع أتحدث عن فيلم «الست» الذى شهد مهرجان مراكش السينمائى الدولى العرض العالمى الأول له منذ أيام. لكن المفارقة أن الفيلم الذى حاصرته الانتقادات المسبقة وجد استقبالًا دافئًا وحفاوة لافتة فى قاعات المهرجان، حيث أثنى عدد من النقاد والصحفيين المغاربة على جرأة العمل ومحاولته قراءة شخصية أم كلثوم من زاوية جديدة، بعيدًا عن التقديس التقليدى أو التناول السردى المباشر. الحضور المغربى تفاعل مع الفيلم بطريقة عكست تقديرًا حقيقيًا للتجربة، إذ أعرب نقاد محليون عن إعجابهم بمعالجة الفيلم للجانب الإنسانى فى حياة كوكب الشرق، ورأوا أن العمل يقدّم قراءة معاصرة لا تقع فى فخ محاكاة الشكل بقدر ما تهتم بالروح. صحف مغربية عدة نشرت مقالات إيجابية عن الفيلم، مشيدة بتجربة منى زكى وجرأتها فى تجسيد شخصية بهذا الثقل، ومعتبرة أن الفيلم يضيف لمسة عربية حقيقية إلى المهرجان. هذه الأصداء الإيجابية جاءت لتناقض تمامًا حالة الجدل والغضب التى سبقت عرض الفيلم عبر السوشيال ميديا بمجرد طرح الإعلان التشويقي. بين الحفاوة وعاصفة الانتقادات قبل وصول الفيلم إلى الجمهور، أشعل برومو «الست» عاصفة انتقادات واسعة، كان محورها الأساسي: شكل منى زكى «غير المتقارب» مع شكل أم كلثوم. الانتقادات لم تنتظر الفيلم، ولم تمنح صناع العمل حق الدفاع عن رؤيتهم، بل اكتفت بالحكم على اللقطات السريعة، فى واحد من أكثر الأحكام المسبقة انتشارًا فى المشهد الفنى العربي.. الفارق بين استقبال الفيلم فى مراكش واستقباله على السوشيال ميديا يعكس فجوة كبيرة بين جمهور يشاهد ويحكم، وآخر يتلقّف الانطباعات المبدئية ويحوّلها إلى هجوم منظم، خاصة فى السنوات الأخيرة. منى زكى والحاجز النفسى جزء من الهجوم الضخم على منى زكى لم يكن نابعًا من الفيلم نفسه بقدر ما كان امتدادًا لحاجز قديم بينها وبين جمهور السوشيال ميديا تحديدًا. فخلال السنوات الماضية، أصبحت منى هدفًا لتيارات ذات توجهات اجتماعية ودينية متشددة تكره الفن عمومًا، وتتعامل مع الفنانين باعتبارهم خصومًا لقيمها. كما أن تجربة منى زكى السابقة فى مسلسل «السندريلا»، التى لم تكن موفقة إطلاقًا وتحولت إلى مادة للكوميكس والسخرية مؤخرًا بعد إعادة تداول لقطات منها، ساهمت فى تقليل مساحة الثقة المبدئية لدى الجمهور حين عرف أنها ستقدّم شخصية أسطورية مثل أم كلثوم. هذا الإرث من السخرية القديمة أُلقى كله مرة واحدة على إعلان «الست» قبل أن يُمنح الفيلم فرصة عادلة. سقطة أحمد مراد فى خضم حالة التربص بالفيلم، جاء تصريح الكاتب أحمد مراد مؤلف الفيلم من مراكش بأن «عمل فيلم عن أم كلثوم أصعب من عمل فيلم عن الرسول» ليصب الزيت على النار. التصريح كان غير موفق إعلاميًا فى توقيت حساس، بل زاد حالة الغضب وفتح الباب أمام اتهامات لا علاقة لها بالفيلم. مراد حاول التعبير عن قدسية الشخصية وصعوبة الاقتراب منها، لكن الصياغة جاءت صادمة، ودون حساب لتأويلات الجمهور وغضب منصات التواصل.. منذ إعلان الفيلم، بدا واضحًا أن الجمهور وضع سقفًا مرتفعًا للغاية لما يجب أن يكون عليه عمل عن أم كلثوم. شخصيّة بحجمها تجعل الناس تشعر أن أى خطأ غير مقبول، وأن الالتزام الشكلى والصوتى والموسيقى يجب أن يكون «كاملاً» بلا نقص. المشكلة أن المقارنات بدأت قبل أن يراه أحد، سواء مع مسلسل «أم كلثوم» الذى صار مرجعًا كلاسيكيًا، أو مع الصور الأيقونية التى عاشتها الأجيال.. الانطباعات المسبقة صنعت مناخًا يحكم على العمل قبل عرضه، بينما المشاهدة الحقيقية فى مراكش أثبتت أن لكل رؤية فنية حقها فى الوجود، وأن الإبداع ليس نسخة كربونية من الماضي. محاولة شجاعة.. ولكن! بعيدًا عن النقاشات الشكلية، تبقى تجربة منى زكى فى «الست» خطوة جريئة، تحاول من خلالها الخروج من مناطق الأمان التى تكررت فى بداياتها، وتجربة تحدٍّ صعب فى مرحلة نضجها الفني. صحيح أن منى لا تملك الملامح أو الهيئة الجسدية القريبة من أم كلثوم، ولا تدّعى أنها نسخة منها، لكن رغبتها فى خوض المغامرة تحسب لها، لا عليها. هناك ممثلات عربيات أكثر تقاربًا شكليًا مع أم كلثوم، وهناك من هنّ أقرب فى خامة الصوت أو طريقة الوقفة، لكن منى اختارت أن تواجه الصعب وتغامر، وهى مغامرة ستبقى علامة فى مسارها، سواء أحبها الجمهور أو اختلف حولها. ما بين عاصفة السوشيال ميديا واستقبال مهرجان مراكش، تتأكد حقيقة واحدة: الحكم على فيلم مثل «الست» لا يمكن أن يُبنى على البرومو أو على صورة متداولة، بل على رؤية كاملة لا تتكشف إلا عند المشاهدة. وبين رغبة صناع الفيلم فى تقديم قراءة فنية مختلفة، ورغبة الجمهور فى استحضار نسختهم المثالية من أم كلثوم، يبقى الحوار الفنى هو الحل الوحيد لكسر هذا الاشتباك.