فوز الزميلين عبد الوكيل أبو القاسم وأحمد زغلول بعضوية الجمعية العمومية ل روز اليوسف    وزارة النقل تدرس إرسال مهندسين وفنيين للتدريب في الصين    جهاز التنمية الشاملة يوزيع 70 ماكينة حصاد قمح على قرى سوهاج والشرقية    جولة داخل مصنع الورق بمدينة قوص.. 120 ألف طن الطاقة الإنتاجية سنويا بنسبة 25% من السوق المحلي.. والتصدير للسودان وليبيا وسوريا بنحو 20%    وكالة إيرانية: فرق الإنقاذ تبتعد مسافة 3 ساعات عن منطقة سقوط طائرة الرئيس    فرنسا تستثير حفيظة حلفائها بدعوة روسيا لاحتفالات ذكرى إنزال نورماندي    أحمد عبدالحليم: الزمالك جدد طموحه بالفوز بالكونفدرالية وفخور بجمهور الأبيض    نتائج مواجهات اليوم ببطولة الأمم الإفريقية للساق الواحدة    غدا، محاكمة طبيب بتهمة تحويل عيادته إلى وكر لعمليات الإجهاض بالجيزة    أخبار الفن اليوم، محامي أسرة فريد الأطرش: إعلان نانسي تشويه لأغنية "أنا وأنت وبس".. طلاق الإعلامية ريهام عياد    «ذاكرة الأمة».. دور كبير للمتاحف فى توثيق التراث الثقافى وتشجيع البحث العلمى    الصحة: طبيب الأسرة هو الركيزة الأساسية في نظام الرعاية الصحية الأولية    سلطنة عمان تتابع بقلق بالغ حادث مروحية الرئيس الإيراني ومستعدة لتقديم الدعم    رئيس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة: جرائم الاحتلال جعلت المجتمع الدولى يناهض إسرائيل    دموع التماسيح.. طليق المتهمة بتخدير طفلها ببورسعيد: "قالت لي أبوس ايدك سامحني"    بينها «الجوزاء» و«الميزان».. 5 أبراج محظوظة يوم الإثنين 19 مايو 2024    أتزوج أم أجعل أمى تحج؟.. وعالم بالأوقاف يجيب    طقس سيئ وارتفاع في درجات الحرارة.. بماذا دعا الرسول في الجو الحار؟    خبير تكنولوجى عن نسخة GPT4o: برامج الذكاء الاصطناعي ستؤدي إلى إغلاق هوليود    مع ارتفاع درجات الحرارة.. نصائح للنوم في الطقس الحار بدون استعمال التكييف    الكشف على 1528 حالة في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    وزير الأوقاف: الخطاب الديني ليس بعيدًا عن قضايا المجتمع .. وخطب الجمعة تناولت التنمر وحقوق العمال    تحركات جديدة في ملف الإيجار القديم.. هل ينتهي القانون المثير للجدل؟    الجمعة القادم.. انطلاق الحدث الرياضي Fly over Madinaty للقفز بالمظلات    جدل واسع حول التقارير الإعلامية لتقييم اللياقة العقلية ل«بايدن وترامب»    متحور كورونا الجديد.. مستشار الرئيس يؤكد: لا مبرر للقلق    كيف هنأت مي عمر شقيقة زوجها ريم بعد زفافها ب48 ساعة؟ (صور)    اقرأ غدًا في «البوابة».. المأساة مستمرة.. نزوح 800 ألف فلسطينى من رفح    «النواب» يوافق على مشاركة القطاع الخاص فى تشغيل المنشآت الصحية العامة    داعية: القرآن أوضح الكثير من المعاملات ومنها في العلاقات الإنسانية وعمار المنازل    ليفاندوفسكى يقود هجوم برشلونة أمام رايو فاليكانو فى الدوري الإسباني    هل يستطيع أبو تريكة العودة لمصر بعد قرار النقض؟ عدلي حسين يجيب    ختام ملتقى الأقصر الدولي في دورته السابعة بمشاركة 20 فنانًا    مدير بطولة أفريقيا للساق الواحدة: مصر تقدم بطولة قوية ونستهدف تنظيم كأس العالم    السائق أوقع بهما.. حبس خادمتين بتهمة سرقة ذهب غادة عبد الرازق    رسائل المسرح للجمهور في عرض "حواديتنا" لفرقة قصر ثقافة العريش    بايرن ميونيخ يعلن رحيل الثنائي الإفريقي    هل يجوز الحج أو العمرة بالأمول المودعة بالبنوك؟.. أمينة الفتوى تُجيب    نائب رئيس جامعة الأزهر يتفقد امتحانات الدراسات العليا بقطاع كليات الطب    بنك مصر يطرح ودائع جديدة بسعر فائدة يصل إلى 22% | تفاصيل    افتتاح أولى دورات الحاسب الآلي للأطفال بمكتبة مصر العامة بدمنهور.. صور    نهائي الكونفدرالية.. توافد جماهيري على استاد القاهرة لمساندة الزمالك    "أهلًا بالعيد".. موعد عيد الأضحى المبارك 2024 فلكيًا في مصر وموعد وقفة عرفات    مصرع شخص غرقًا في ترعة بالأقصر    حكم إعطاء غير المسلم من لحم الأضحية.. الإفتاء توضح    منها مزاملة صلاح.. 3 وجهات محتملة ل عمر مرموش بعد الرحيل عن فرانكفورت    رئيس الإسماعيلي ل في الجول: أنهينا أزمة النبريص.. ومشاركته أمام بيراميدز بيد إيهاب جلال    «الجوازات» تقدم تسهيلات وخدمات مميزة لكبار السن وذوي الاحتياجات    رئيس «قضايا الدولة» ومحافظ الإسماعيلية يضعان حجر الأساس لمقر الهيئة الجديد بالمحافظة    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    أول صور التقطها القمر الصناعي المصري للعاصمة الإدارية وقناة السويس والأهرامات    نائب رئيس "هيئة المجتمعات العمرانية" في زيارة إلى مدينة العلمين الجديدة    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    «الرعاية الصحية»: طفرة غير مسبوقة في منظومة التأمين الطبي الشامل    ياسين مرياح: خبرة الترجى تمنحه فرصة خطف لقب أبطال أفريقيا أمام الأهلى    ولي العهد السعودي يبحث مع مستشار الأمن القومي الأمريكي الأوضاع في غزة    عرض تجربة مصر في التطوير.. وزير التعليم يتوجه إلى لندن للمشاركة في المنتدى العالمي للتعليم 2024 -تفاصيل    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكاتب الكبير جمال الغيطانى وصفحات من «كتاب الألم» .. الأزرق والأبيض [8]
نشر في الوطن يوم 25 - 10 - 2012

منذ عامين، مر الأديب جمال الغيطانى بأخطر لحظات واجهته فى حياته، رغم أنه عرف الأخطار كثيراً زمن الحرب، وفى ظروف أخرى، غير أن الفرق كبير بين خطر يأتى من الخارج، ومداهمة من الداخل، بدأت الأزمة على الهواء مباشرة فى برنامج تليفزيونى، وانتهت فى مستشفى كليفلاند. ذلك الوقوف قرب نقطة العبور إلى الأبدية، وعندما يكون الإنسان أديباً، مبدعاً، مهموماً بالمصير، بالمبدأ والمعاد، فإن الموقف يكون أدق، كان الغيطانى محظوظاً، عبر إلى هناك وعاد ليقص علينا عبر هذه النصوص الفريدة دراما المصير، نصوص جديدة، ليست يوميات، أو سجلات مباشرة؛ لكنها تبدع اللحظات النادرة والحافلة بالرؤى لتضيف صفحات جديدة إلى كتاب الألم الإنسانى.
محطة
يعرف من ابنه بوجود محطة لقطار الأنفاق المؤدى إلى مانهاتن، وإلى بروكلين، غير أنه لا يعرف فى أى شارع، فى صباح باكر صحبه خرجا معاً من باب العمارة، لاحظ اتجاهه إلى الشرق، وعندما أدرك أنه متعجل، وأنه لن يقدر على مجاراته فى السرعة، طلب منه أن يتفضل، أراد إزالة الحرج عنه، قال محمد:
- خذ بالك من نفسك يا بابا.
ثم أسرع الخطى، عند الناصية اختفى، إذن.. المحطة فى هذا الاتجاه، ليست فى الناحية الأخرى، إنها فى الاتجاه الذى تشرق منه الشمس، ويليامزبرج شبه مربعة، بل إنها مربعة بالفعل، داخلها مربعات نشأت عن استقامة الشوارع وتقاطعها مع بعضها، يتذكر بورسعيد، الحى الأفرنجى، دقة التقسيم.كذلك الإسماعيلية، ظل يتردد على بورسعيد حتى فى زمن الحرب، احتفظت بخصوصيتها، واجهات المبانى الخشبية، لا توجد إلا هنا، كأنه انتقل إلى بلد آخر، استمر ذلك إلى ما بعد الحرب وبدء المنطقة الحرة، ثمة عمارة صممها مهندس إيطالى نسى اسمه. على رصيف واحد مع فندق الغزل. كان ذلك آخر حد العمار، يجلس أمام الفندق فيرى البحر على المدى، بعد توقف إطلاق النار، وبدء اعتبار المدينة منطقة حرة، تكاثرت العمارة المشوهة، شغلت الشاطئ ثم تراكمت، تضاءل الفراغ، كذا الإحساس بالبحر، البحر الذى كان يدركه حتى وإن اختفى عنه، لأول مرة يدرك إمكانية اختناق اللامدى، ضياع البحر فى مدينة محدودة وهو الذى لا يحد، انتظام الشوارع وتقاطعها أوضح الأمور وكشف الجهات، عندما اتصل به صاحبه أحمد الفنان المقيم منذ أربعين عاماً فى مانهاتن، أملى عليه العنوان، قال إنه توجد محطة لكن لا يعرف اسمها، إنه متأكد من وقوعها على مقربة من البيت، قال أحمد إنه سيعرف، ما أسهل ذلك هنا، فى الموعد المحدد رن الجرس، يقف مبتسماً، كان معجباً بحيويته رغم بلوغه الثمانين، لا.. بل تجاوزها، يقول إن السر فى المشى، كل مشاويره يقطعها مشياً، قال إنه لاحظ شباباً كثيراً فى القطار، عندما خرجوا إلى سطح الأرض مضوا فى اتجاه واحد، فهم من حواراتهم أنهم يمضون صوب مسرح مطل على الإيست ريفر، طبقاً للوصف يعرف أن العمارة مطلة أيضاً عليه، مشى فرداً بين الجموع، فوجئ بطابور طويل يتجاوز الشارع، ثمة مسرح كبير مكشوف وسط حديقة كبيرة قرب البيت، لم يصحب أحمد عند ذهابه، كان عليه أن يبقى لتناول عدة أدوية يفصل بين كل منها حوالى ربع ساعة، توادعا عند باب المصعد، لم يترافقا حتى المحطة، فى المرات التى خرج فيها من ويليامزبرج يستخدم عربات الأجرة، يستدعيها بواسطة البواب الموجود، رغم أن القطار أسرع، ولكنه لا يفضل الأنفاق، وسلالمها وتدافع الناس بها، دائماً كان يتساءل عن موقعها ولم يعرفه إلا بالصدفة، لم يقصد الركوب منها أو النزول بها، فى ليلة عادت ابنته ومعها كيس تفوح منه رائحة فلافل تقلب الذاكرة، قالت إنها رأت المطعم عند صعودها من النفق، تنسمت الرائحة، على الفور عبرت الطريق إليه كل من يعمل فيه عربى، لكنها تحدثت معهم بالإنجليزية، لم تنتظر الوصول إلى البيت، أكلت واحدة أثناء اتجاهها إلى البيت، حددت الموقع الذى لم يسأل عنه كل من ذكر المحطة حتى محمد ابنه، قالت ابنته إن المطعم فى مواجهة المدخل الرئيسى تماماً، ناصية بدفورد ورقم سبعة.
تأمل واجهة المطعم، «الواحة»، قبل أن يدخله، أولاه ظهره، لم يلمح أى علامة تدل على محطة، فى باريس كتبت الكلمة بزخارف حديدية وخط ينتمى إلى حركة الفن الجديد، غير أنه سدد البصر إلى حاجز حديدى قريب جداً من جدار البيت الذى يشكل الناصية، لاحظ اختفاء رجل نتيجة حركة النزول على الدرج، أعجبته سيدة كثيفة الشعر كأنها خارجة من حقبة الثلاثينات، تذكر الممثلة الألمانية مارلين ديتريش، هى والمغنية الفرنسية أديث بياف تستحضران إليه زمن الحرب العظمى الثانية، ربما لأنهما وجدتا فى نفس الحقبة، لكنه يستشعر أسباباً أخرى لا يقدر على تحديدها بالضبط، صوت البيانو فى أغانى أديث مختلف، كأنها تغنى فى بار، مسرح صغير، بينما العسكر النازى يمرون فى الخارج، ينتبه إلى مجموعة طلبة وطالبات، الإناث جميلات وسيقانهن بادية، التنورات قصيرة ومرورهن أمامه صعب، مثير، يتجهن عبر الشارع إلى الحفرة، يبدو أنها لا تتسع لنزولهم معاً، ولا حتى اثنين اثنين، واحدة إثر الأخرى، تعالت صيحاتهن وتذكر أصباح الستينات، وقوفه منتظراً الحافلة رقم ستة وستين، تصل ما بين الدراسة والدقى، رؤية طالبات الثانوى فى الصباح وكذلك الإعدادى فيها بهجة واقتراب من إحدى مسرات الحياة، كانت أجسادهن فى تلك الحقبة ناهضة، بازغة، ناضجة الثمار، محرضة على القطاف، كان الغزل -إذا جرؤ أحدهم- عفيفاً، لطيفاً، «يا غزال» «يا جميل»، «يا أرض اتهدى ما عليكى قدى»، أما مد اليد فنادر جداً ويعرض المقدم عليه لفضيحة، وربما الضرب، كان يقف مختلساً النظر إلى سعاد، وضع حمل الحقائب فى تلك الحقبة الاحتضان، رفعها أمام الثديين، إسناد الوجنة إلى المقبض عند الجلوس، كان ذلك مستوحى من الأفلام، مع حلول السبعينات وظهور الطعام المغشوش، وتراجع الأحوال، ضمرت الأجسام، ونحلت الأبدان، وتوارت الإثارة، هنا الجمال متنوع، عند بعض النواصى تخرج إحداهن عليه فجأة فيكاد يشهق، تلك الآسيوية التى بدا ألقها وضيها، تعرف قدرها وتدرك مكانتها فى العيون، لذلك مضت على مهل مستثيرة النسيم نفسه، معظم ويليامزبرج إن لم يكن كلها تتجه إلى هذا المدخل - الحفرة، محدود جداً، لا يدرى الظروف التى بنيت فيها المحطة والتى أدت إلى ذلك التضييق، وقف عند المدخل، الدرج لا يتسع إلا لشخص واحد، ممتد، مستمر فى الاتجاه إلى أسفل، كيف يصل المعاقون إلى الرصيف؟ لم يجد ما يشير إلى أصحاب العاهات والمتقدمين فى العمر، مع أن حسابهم معروف فى كل جزئية هنا، ربما يوجد مدخل آخر، مع توالى الأيام أصبحت المحطة هدفاً مثيراً لتأمله وملاحظاته، أشد ما يكون التدفق من أعلى إلى أسفل، ساعات الصباح، لكن لا أحد يتدافع، أو يحاول أن يأخذ مكان غيره، كل شىء يجرى بنظام تلقائى، وإذا مس أحدهم كتف الآخر تلفظ كلمات الاعتذار بأناقة، ساعة الذروة من تحت إلى فوق بدءاً من الخامسة والنصف، وصولاً إلى السابعة، يعرف أن القطار وصل من سرعة تدفق الطالعين وراء بعضهم، يبزغون فجأة، يستمر تواليهم، يتفرقون فى الشوارع، يرقب الإناث، معظمهن عاملات فى مانهاتن، سكرتيرات، موظفات بنوك، شركات فى شتى المجالات، جليسات أطفال، يرى بعضاً منهن أثناء سيره فوق الشرافة، البعض يتجه مباشرة إلى أماكن المكث، خطواتهم عجلى منهم المتطلع إلى الأمام، ومن ينحنى، كثيرون يتدفقون فرادى قاصدين به مطاعم الوجبات السريعة، المقاهى والبارات التى لا يبدو بعضها، تسفر فجأة عند المرور أمامها، تباغته، بعضها كان فى الأصل جزءاً من بنايات، أو مخازن عتيقة يتبدل الوضع كله بسرعة خاصة فى الأعوام الأخيرة، شيئاً فشيئاً يكتشف ويليامزبرج رغم أنه لم يدخل فى علاقات متينة أو حميمة، لا.. لم يعرف أى علاقات أصلاً، فقط أحاديث عابرة مع أفراد الأسرة الثلاثة الذين يتناوبون على الوقوف فى المكتبة المتخصصة فى كتب الفن وتلك المستعملة، أم، وابن أكبر، وآخر أصغر وأوسع معرفة وثقافة، أما المطعم المواجه للحفرة - المدخل فيقدم الفلافل، صاحبه فلسطينى من نابلس، تبادل معه الحديث، عندما يراه يتهلل ويبتسم مرحباً، يرغب فى ساندويتش طعمية مغموساً بالطحينة، يجلس على الدكة خارج المطعم الذى تصطف به مقاعد متجاورة أمام الواجهة الزجاجية، يأكل الزبائن فرادى يتطلعون إلى الحفرة - المدخل، يصبحون فى مواجهتها تماماً، لكن، لا هؤلاء يتطلعون إلى الآخرين، كذا العكس، كل شخص يخرج من الأرض بمفرده، كذلك المتجهون إلى تحت، نادراً، بل إنه لم ير اثنين أو ثلاثة معاً، يتحدثون أو يتمهلون، كأن ثمة قانوناً خفياً يحكم الاقتراب من المدخل، أو الظهور منه، السرعة، السرعة، الطلوع المفاجئ، النزول المعتمد، أيام الآحاد يقف البعض قرب المدخل، على امتداد الرصيف، عند الناصية، قال صاحب المطعم إنهم موزعو الماريجوانا، كل شىء موجود فى شارع بدفورد، كل شىء له موضع، قال أيضاً إن بعض المصريين يعيشون هنا، أبدى دهشته، لم يلتق حتى الآن بأى مصرى، قال إنهم هنا، بل يوجد أحدهم بدون مأوى، أحياناً يتوالى صعود فتيان وفتيات، يظهرون فرادى، يتجمعون، يمضون فى اتجاه واحد، جاءوا من مسافات نائية لحضور حفل ما، مسرحية، عرض موسيقى، ويليامز برج مركز الآن لحركة فنية وثقافية، وداخل هذه المبانى العتيقة قاعات عرض مزودة بأحدث المعدات، واستوديوهات تسجيل، كلما تقدم فى معرفة المكان يدهش لثرائه، فى البداية ظن أنه للسكن الهادئ المعزول المستقل عن صخب المدينة، الناحية الأخرى، لكن كل يوم يحمل إليه معرفة ومفاجأة رغم أنه لا يتقصى ولا يدخل فى حوارات، إنه مجرد عابر لن تطول إقامته، حتى المحطة التى اهتم بمدخلها الضيق لم يعرفها بعد، لم ينزل مع النازلين، يجهل كيف تبدو من الداخل.
مأوى
دائما ثمة شىء، شىء لا يمكن تحديده، أو الإمساك بجوهره غير أنه يؤثر، يهيمن على الفكر ويشغل البال، شىء يدفع المرء إلى التعلق بمكان التأثر بلحظة جد عابرة، أو التوق إلى وجه وقع البصر عليه فى لحظة انتقال بمطار، أو ذهاب فى قطار، الوصول فى ميناء، شىء لا يبين، غير أنه يعمل عمله.
منذ إحاطته بوجود مصرى بدون مأوى homeless وهو مأخوذ به، يتساءل: أين؟، من أين؟، كيف يرقد؟ هل اختار مكاناً محدداً؟ ما هى الظروف التى أدت به إلى الحياة بدون مأوى؟ عندما رأى حماماً عاماً، يمكن الاستحمام فيه استدعاه، شيئاً فشيئاً صار له تكوين، هيئة عامة فى مخيلته يستدعيه بها، جلوسه فوق رصيف، تمدده إلى جوار جدار، كيف يقضى حاجته؟، مع تزايد إعمال التصور أصبح له ملامحه، كث اللحية، متوسط القامة، منحنى، متطلع إلى الأرض باستمرار.
أول مرة رأى فيها رجلاً بلا مأوى فى قلب مانهاتن، الطريق الخامس، كان يستند إلى جدار كنيسة صغيرة مغمض العينين، العاشرة صباحاً، بجواره كلب ضخم، حبل يشد كلا منهما إلى الآخر، استدعى إلى ذاكرته صباح باكر فى باريس، خروجه من الفندق الذى يقيم به، برد قارس وريح سريعة تزيد من حدته، قبل خروجه إلى طريق سان جيرمان مر برجل عجوز ينام أمام متجر ثياب أنيقة، كان الثلج من حوله كألواح الزجاج، إلى جواره كلب، أحد أصدقائه قال على مسمع منه يوماً إن الكوشار ينتشرون فى باريس، منهم فاقد كل شىء، وبعضهم كان له وضع اجتماعى جيد وهجره، البلدية تفتح له محطات المترو المدفأة والتى عادة ما تغلق أبوابها بعد مرور آخر قاطرة فى الواحدة صباحاً، كان للعجوز الراقد هيئة الأساتذة الجامعيين، رأى وقتئذ المجاذيب الذين يفترشون رصيف مولانا الحسين، يلوذون باسم، سعى صاحبه منذ قرون، بمرتبة، بمنزلة، بما لا يُرى، يخفق قلبه أحياناً بتعاطف جم مع أولئك المشردين.
لا يمكنه السعى بدون بيت، دائم أو مؤقت، عند خروجه من الشرافة ذلك الصباح رأى أول فاقد للمأوى هنا، شاب أسود، يجلس عند حافة الرصيف، لم يره إلا قاعداً، تكاد ركبتاه أن تلمسا ذقنه، لا يضع أى شىء بالقرب منه، متجرد تماماً، خطر له على الفور المصرى الهائم على وجهه، هل يجلس هكذا؟، هل يحتفظ بمتاع قربه؟، هل يصحبه كلب؟، المصريون لا يقتنون الكلاب إلا نادراً، هنا لا تخلو شقة أو بيت من كلب، تحت العمارة مخزن كبير لم يفتح بعد، مخصص للوازمها؛ طعام خاص، أطواق، مقابض، أدوات غسيل، صابون استحمام خاص، عطور، بل إن مصوراً متخصصاً فى تصويرها سيقيم حفل استقبال فى مدخل العمارة يوم الأحد صباحاً لتقديم نفسه إلى السكان، وتعريفهم بشخصه وفنه، سيقوم بعروض مجانية وستقدم المشروبات الخفيفة. تلقى الكلاب عناية فائقة هنا، أنواع عديدة بدءاً من صغيرة الحجم، ناعمة الشعر، كطائر، إلى الكواسر مثل البولدوج واللبرادور، نزهة كل منها لا حيدة عنها، فى ذروة البرد وتساقط الثلوج يراهم أمام أصحابهم، سلاسل تشدهم ولكن لهم تحديد الوجهة. بعد ملاحظة طويلة قال لابنه إنه لم يسمع نباحاً منذ وصوله رغم العدد الكبير الموجود، ضحك محمد مجيباً: ولماذا النباح والشكوى إذا كانت الاحتياجات كلها مقضية، بل أحياناً تكون لها الأولوية. عندما قارب ابنه على الانتقال إلى مرحلة الفتوة أبدى الرغبة فى اقتناء كلب، أحد أصحابه أخبره بقرب ولادة عنده، لم يمض أسبوعان إلا جاء ومعه جيسكا، أنثى من فصيلة اللبرادور النادرة، تنمو هذه الحيوانات بسرعة، كان يلحظ الصلة بينها وبين ابنه، عندما يتأخر محمد وتقترب خطواته من باب الشقة، تهرع إليه، تتوثب، تحمحم، تصدر أصواتاً كأنها حروف من لغة مجهولة، لم يعرف فرحاً بلقاء طوال حياته كما رأى منها، عندما يظهر محمد تشب على قائميها الخلفيين، الأماميين، متخذة وضعاً شبه آدمى، باستمرار تجثو عند قدميه، مع اكتمال نموها ضاق عليها البيت، وصل الأمر إلى حد ضرورة التخلص منها، الكلب يحتاج إلى مساحة، إلى حديقة، لن ينسى عصر هذا اليوم عندما اصطحبها محمد قاصداً بيت صاحبه الذى أبدى سروره باستضافتها فى بيتهم المستقل بالقاهرة الجديدة، كأنها تعرف أنها لن ترجع، أنها آخر مرة تخرج فيها من هذا الباب بدون عودة، صارت تحاول تثبيت قوائمها فى الأرض، بل إنها ارتمت متقلبة، غير أن الخشب الأصم لم يساعدها على التشبث، لم يكن بد من انتقالها، بعد يومين اتصل صاحب محمد به، رجاه أن يأتى إليه، أن يزور جيسكا، منذ وصولها لم يدخل الطعام معدتها، إنها تحتضر، سارع إلى القاهرة الجديدة، عندما دخل البيت أقبلت عليه، لكن خفيضة الرأس، تلمس بأنفها حذاءه ثم ترفع عينيها إليه دامعة، يقسم محمد أن قلبه تقطع، بدت كسيرة، أسيانة، لا تهز ذيلها ولا تقف على قدميها، وعندما استعد للانصراف، لم تستجب لمداعباته، ليده التى راح يمررها على عنقها، بركت على الأرض، أخفت رأسها بين قائميها الأماميين، لم تنظر إليه، صدر عنها أنين متقطع عند انصرافه، على هذا الوضع وجدوها بعد ثلاثة أيام فى البرد القارس، ترك احتضارها ندبة فى ذاكرة محمد، كلما رأى كلباً أو كلبة أمام أو خلف صاحبها يتذكر شبوبها وإقبالها، فى الضاحية التى تسكن فيها الأسرة بالقاهرة أسراب من الكلاب الضالة، معظمها تقضى حيواتها بدون استحمام، بدون عناية على أى مستوى، لم يخطر ذلك بباله إلا بعد إقامته هنا، مثله كثيرون يمرون بها ولا يرونها، لا ينتبهون إليها إلا إذا وقع حادث، يود أن يتحدث إلى هذا الزنجى الهادئ، دائماً خفيض الرأس، ينظر إلى نقطة معينة من الأرض، يتحرك فوق الرصيف، لا يفارقه، الرصيف بعرض العمارة، ثلاثة محلات متجاورة، معرض لوازم الكلاب، محل النبيذ يليه كى الملابس وتنظيفها، مديرته أو صاحبته أو العاملة به صينية الملامح، أخيراً الأجزخانة الممتدة من الناصية إلى الناصية، واحدة من سلسلة فى الولايات المتحدة، عند افتتاحها قام سكان ويليامز برج بمظاهرة، فى الحى ثلاث صيدليات تعتمد النظام القديم، عندما دخل إحداها أدرك الفرق، طريقة العرض، الطب الشعبى ممتزجاً بالحديث، الصيدليات الأخرى وراءها مؤسسة هائلة الإمكانيات، المنافسة صعبة.
إنها المرة الأولى التى يضع يده فيها على أحد مصادر التوتر فى المنطقة التى تبدو هادئة، ساكنة، كل واحد يغلق بابه على نفسه، هكذا يبدو الظاهر لكن الحقيقة غير البادية مختلفة، لا يشكل فاقدو المأوى مصدراً للضيق، بالعكس، إنهم يتلقون مساعدة من المقيمين، لا يلوح أنهم مصدر أذى، تذكر ما سمعه فى مدن أوروبية عن متطوعين يوزعون الشوربة الساخنة فى الأيام الباردة على المشردين، الأمر هنا كذلك ما شغله ذلك المصرى، لم يره، لم يلمحه، غير أنه دائم التوقع لملاقاته، التفكير فيه لا يتوقف، لا يعرف قسماته، لكنه إذ يلمح شخصاً عند نهاية الطريق الممتد يختفى عند الناصية يكاد يوقن أنه هو، لماذا ينشغل دائماً بما لا يوجد؟ لماذا يتعلق بمن لا يعرف؟، لماذا يتعلق بالبعيد؟، يبذل الجهد، يعانى العثرات، يمضى الأوقات توقاً، وإذ يبلغ ما طال انتظاره يفاجأ بالفتور، بل أحياناً ينكص، معظم ما يدور بذهنه لا وجود له، لو سعى إلى أى جهة لن يراه، لن يجده، يستعيد راحلين ويتخيل لقاءات بمسافرين متغربين، ربما لن يقع لقاء بهم، يحدق ليلاً إلى النجوم القصية، إلى الشهب المارقة، إلى الغمامات الكونية التى تتمدد فى المجرة، أحياناً يصغى إلى أصوات تناديه باسمه، عندما يرفع البصر ليجيب لا يواجه إلا بخواء، كافة ما يحاول القبض عليه قصى، ماذا يعنى ذلك؟
اليوم لمحه الفلسطينى صاحب مطعم الوجبات السريعة، كان يسعى فى مشيه اليومى، ناظراً إلى مدخل المحطة التى لم ينزل إليها حتى الآن، خرج الرجل ليلحق به، أخبره بظهور المصرى «الهوم لس» عصر أمس، بقى حوالى ساعتين هنا أمام المطعم، حاول إكرامه وتأدية الواجب، لكنه أبى متعللاً بأنه تناول غذاءه، أطلعه على وجوده، لم يذكر له الاسم، لكنه أجاب عن أسئلته، أفضى بما يعرف، الإقامة عند الابن لقضاء فترة النقاهة، هذا كل ما يُلم به، قال إن المصرى أصغى باهتمام وقال شيئاً لم يسمعه جيداً ثم قام ماشياً فى اتجاه الحديقة الكبيرة، أصغى مستدعياً إلى مخيلته رجلاً يرتدى جلباباً، كث اللحية، كان يسعى على الطريق الصحراوى الممتد شرق النيل، بمفرده تماماً، طلب من السائق إيقاف العربة، اتجه إليه، عرض عليه أن يوصله، لكنه هز رأسه رفضاً، مبدياً ابتسامة غامضة، عاد إلى السيارة، فى تلك الليلة أقض مرقده تصوره لسعى الرجل وحيداً فى الفلاة ورقاده ليلاً..
استفهام
فى نفس الطابق، الشقة الموازية، الناحية الأخرى من الممر، يسكن شاب مع زوجته وطفله المولود منذ أسبوعين، رآهم أمام المصعد فى اليوم التالى لوصوله، كان يقف بصحبة ابنه عندما ظهروا، الأب يدفع عربة من طابقين، يرقد فى العلوى منها المولود دقيق الملامح مستغرقاً فى رقاده، أقبل ابنه باسماً مستفسراً عن الطفل، التفت إليه معرفاً بالجار وزوجته، قال إن جدته من مصر، جاءت مهاجرة وتزوجت رجلاً من أصول تركية، تطلع مرة أخرى إلى الشاب الذى بدا رقيقاً، مهذباً، حميماً، فكر: إن فى دمائه قدراً من المصرية، ابنته حامل الآن، بعد عشرين، خمسة وعشرين سيقف حفيده أمام رجل قادم عابر من الديار البعيدة، يعرف نفسه بأن أمه مصرية تزوجت من فلسطينى، أمريكى، تعرفت به هنا، وتقاربا، ارتبطا، استقرت هنا.
طوال الشهور التالية، خلال الأيام التى قضاها فى المستشفى أو فترة النقاهة يستعيد وقفة الشاب، ملامح طفله، يردد: بعض من أصولهما مصرية، ثم يتخيل حفيده، لم يعد يدهشه تبدل المسارات وحيدة المصائر لتعدد ما رأى وغرابة ما أدرك، ملامح الجار أصبحت بارزة فى ذاكرته، ليس من مرة اللقاء الأولى فقط، ولكن من تعدد المصادفة وتكرارها، مرة أمام المصعد بمفرده، يرتدى ملابس رياضية، أو مرة أمام العمارة، أو عند الشرافة الخشبية، معظم المرات بمفرده، قليل منها بصحبة ابنه فى العربة وزوجته التى كانت تمسك دائماً بزجاجة حليب، وتشارك فى دفع العربة بيد واحدة تكاد تلمس المقود، لم ير وجه المولود، أو ملامحه، ولم يحاول النظر إليه أو مداعبته، فقط.. كان يستفسر عنه ثم يومئ مبتسماً ويولى، مرة واحدة سأل: هل سافرت مصر؟، قال إنه يتمنى ذلك، ثم قال إنه يخطط لزيارة بعد أن يشب الطفل قليلاً، أومأ مبدياً الرضا: مصر بلد جميل، لم يعلق الشاب لأن المصعد وصل وكان لا بد أن يدخله.
كثيراً ما لمح فى الممر عربة الطفل خالية، يفكر.. هل ستضع ابنته العربة هكذا؟ دائماً يُحيل كل ما يعرض له، ما يراه، إلى مواقف أو لحيظات متخيلة فى المستقبل الذى لم يحل بعد، أو إلى الماضى الذى لم يعد موجوداً.
معظم السكان شباب، بعضهم يعيش منفرداً، كثيرون ينتظمون فى أسر حديثة، سيشب حفيده مع آخرين يماثلونه عمراً، سيتخذ منهم أصدقاء، سيقول لهم أثناء اللعب أو المحاورات إن أصوله مصرية، هكذا سيصير، لم ير عجائز يماثلونه عمراً، بعد قدومه كان يمشى بصحبة زوجته فى شارع كنت العرضى قادمين من الحديقة المطلة على النهر، يوم أحد وكثيرون جاءوا للاستمتاع بالشمس، والتمدد على الحشائش، صاح العجوز مشيراً إليهما، اثنان فى عمرنا، اثنان فى عمرنا، عندما التفت إليه دهشاً، قال إن الكل هنا شباب، أومأ موافقاً، كل من يسكن ويليامزبرج فى سن الشباب، عدا بيوت قليلة قديمة تسكنها عائلات بولندية منذ الحرب العالمية الثانية، لكنهم قلة، لا يتجولون، يظهرون أوقات العصارى أمام البيوت التى تؤدى سلالم إلى مداخلها، لن يمر وقت طويل إلا ويختفى هؤلاء، المكان يتغير طابعه بسرعة، والقادمون شباب معظمهم ممثلون ورسامون وموسيقيون، تحول لا يقدر أحد على إيقافه رغم محاولات بعض القدامى هنا، للمكان خصوصية، هذا لا ريب فيه.
ذات ظهيرة خرج ظهراً إلى المطار قاصداً كليفلاند بصحبة زوجته، لم يكن متأكداً من العودة، العملية خطيرة ونسبة نجاحها قليلة، غير مضمونة النتائج، تغيير صمامين رئيسيين وثلاثة شرايين أمر ليس بالهين، سيظل وقوف ابنه وابنته ظهراً من العلامات، سيلحقان به، ولكن وقفتهما الصامتة بكل ما تحوى من تساؤل: هل سيرى كل منهما الآخر؟، إنها الحافة، عندها تتعدد الاستفسارات وما من إجابة يقينية.
راح وغاب حوالى شهر، خلاله أجريت الجراحة وتمت المتابعة، وامتثل للنصيحة أن يمكث ثلاثة شهور يمارس خلالها الرياضة ويقرأ ويتأمل، طوال المدة كان الشاب يمثل أمامه ويغيب ويصاحب ذلك ترداد الاحتمال: يوماً سيلقى حفيده مصرياً يسأله أو يهتم بتقصى أصوله، قبل سفره بثلاثة أيام قابله أمام العمارة، وثمة نسمات خفيفة تهب من ناحية المحيط والشمس التى اعتاد رؤيتها من فوق الشرافة تتدلى ذاهبة.
الطفل يقعد فى العربة، ياه.. لكم نما خلال الشهور الأربعة، كأنه آخر، لا صلة له بالمولود مغمض العينين الذى ما زال يعيش ذكريات الرحم والسوائل والليل الدائم والحيز الضيق، إنه الآن ماثل فى الهِوْ، الفراغ المحيط به والسابق عليه والذاهب إليه، يشرئب متطلعاً، ينحنى تجاهه مبتسماً مداعباً موشكاً على ابداء بعض الأصوات اللافتة غير أنه يصمت فى مواجهة هذا الاستفهام كله، عيناه تفيضان بالتساؤل، بالرغبة فى النطق المبين..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.