أنغام باحتفالية مجلس القبائل: كل سنة وأحنا احرار بفضل القيادة العظيمة الرئيس السيسى    بث مباشر لحفل أنغام في احتفالية مجلس القبائل والعائلات المصرية بعيد تحرير سيناء    «تنمية الثروة الحيوانية»: إجراءات الدولة خفضت أسعار الأعلاف بنسبة تخطت 50%    الدفاع المدني في غزة: الاحتلال دفن جرحى أحياء في المقابر الجماعية في مستشفى ناصر بخان يونس    فودين يقترب من محمد صلاح.. ترتيب هدافي الدوري الإنجليزي    الأقصر.. ضبط عاطل هارب من تنفيذ 35 سنة سجنًا في 19 قضية تبديد    الأرصاد تحذر من نشاط للرياح وسقوط أمطار تصل إلى حد السيول    استعد للتوقيت الصيفي.. طريقة تعديل الوقت في أجهزة الأندرويد والآيفون    رانيا يوسف وسيد رجب أبرز الحضور.. انطلاق فعاليات حفل افتتاح مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير بدورته ال 10    «لا تحاولي إثارة غيرته».. تعرفي على أفضل طريقة للتعامل مع رجل برج الثور    وزير الصناعة الإيطالي: نرحب بتقديم خبراتنا لمصر في تطوير الشركات المتوسطة والصغيرة    الأغذية العالمي: هناك حاجة لزيادة حجم المساعدات بغزة    غدًا.. قطع المياه عن نجع حمادي لمدة 12 ساعة    الزمالك في المجموعة الثانية ببطولة أفريقيا للطائرة سيدات    محافظ الإسكندرية يستقبل الملك أحمد فؤاد الثاني في ستاد الإسكندرية الرياضي الدولي    عضو «مجلس الأهلي» ينتقد التوقيت الصيفي: «فين المنطق؟»    سفير تركيا بالقاهرة يهنئ مصر بذكرى تحرير سيناء    "الأهلي ضد مازيمبي".. كل ما تريد معرفته عن المباراة قبل انطلاقها مساء الجمعة    محمد الباز: يجب وضع ضوابط محددة لتغطية جنازات وأفراح المشاهير    خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف مكتوبة 26-4-2024 (نص كامل)    طريقة عمل الكبسة السعودي بالدجاج.. طريقة سهلة واقتصادية    حمادة أنور ل«المصري اليوم»: هذا ما ينقص الزمالك والأهلي في بطولات أفريقيا    بيان مهم للقوات المسلحة المغربية بشأن مركب هجرة غير شرعية    الجيل: كلمة الرئيس السيسي طمأنت قلوب المصريين بمستقبل سيناء    التنمية المحلية تزف بشرى سارة لأصحاب طلبات التصالح على مخالفات البناء    عبد العزيز مخيون عن صلاح السعدني بعد رحيله : «أخلاقه كانت نادرة الوجود»    «القاهرة الإخبارية»: دخول 38 مصابا من غزة إلى معبر رفح لتلقي العلاج    رغم ضغوط الاتحاد الأوروبي.. اليونان لن ترسل أنظمة دفاع جوي إلى أوكرانيا    مواطنون: التأمين الصحي حقق «طفرة».. الجراحات أسرع والخدمات فندقية    يقتل طفلًا كل دقيقتين.. «الصحة» تُحذر من مرض خطير    بالفيديو.. ما الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    عالم أزهري: حب الوطن من الإيمان.. والشهداء أحياء    انخفضت 126 ألف جنيه.. سعر أرخص سيارة تقدمها رينو في مصر    جوائزها 100ألف جنيه.. الأوقاف تطلق مسابقة بحثية علمية بالتعاون مع قضايا الدولة    بعد تطبيق التوقيت الصيفي.. تعرف على مواقيت الصلاة غدًا في محافظات الجمهورية    قبل تطبيق التوقيت الصيفي، وزارة الصحة تنصح بتجنب شرب المنبهات    أنطونوف يصف الاتهامات الأمريكية لروسيا حول الأسلحة النووية بالاستفزازية    فيديو.. مسئول بالزراعة: نعمل حاليا على نطاق بحثي لزراعة البن    10 ليالي ل«المواجهة والتجوال».. تعرف على موعد ومكان العرض    هشام نصر يجتمع مع فريق اليد بالزمالك قبل صدام نصف نهائي كأس الكؤوس    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    إدريس: منح مصر استضافة كأس العالم للأندية لليد والعظماء السبع أمر يدعو للفخر    بيان مشترك.. أمريكا و17 دولة تدعو حماس للإفراج عن جميع الرهائن مقابل وقف الحرب    هل تحتسب صلاة الجماعة لمن أدرك التشهد الأخير؟ اعرف آراء الفقهاء    مصادرة 569 كيلو لحوم ودواجن وأسماك مدخنة مجهولة المصدر بالغربية    تحرير 498 مخالفة مرورية لردع قائدي السيارات والمركبات بالغربية    النيابة العامة في الجيزة تحقق في اندلاع حريق داخل مصنع المسابك بالوراق    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تطوير منظومة الإنارة العامة في الرياض وبلطيم    مشايخ سيناء في عيد تحريرها: نقف خلف القيادة السياسية لحفظ أمن مصر    "ميناء العريش": رصيف "تحيا مصر" طوله 1000 متر وجاهز لاستقبال السفن بحمولة 50 طن    إصابة 3 أشخاص في انقلاب سيارة بأطفيح    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    التجهيزات النهائية لتشغيل 5 محطات جديدة في الخط الثالث للمترو    خبير في الشؤون الأمريكية: واشنطن غاضبة من تأييد طلاب الجامعات للقضية الفلسطينية    معلق بالسقف.. دفن جثة عامل عثر عليه مشنوقا داخل شقته بأوسيم    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عمارة الوهن.. الصراع بين العمارة المصرية والعثمانية فى مسجد المحمودية
نشر في المصري اليوم يوم 13 - 09 - 2009

أعود من حيث بدأت، ميدان القلعة «من قبل صلاح الدين، الرميلة، قره ميدان». أخرج من مسجد أمير آخور قانى باى الرماح قاصدًا مسجد المحمودية، أفارق العصر المملوكى المستقل الذى كانت فيه مصر مركز إمبراطورية كبرى تحمى الحرمين والبحرين إلى أن غزاها السفاح العثمانى سليم الأول الذى استبدل التقدم غربا بغزو ديار الإسلام بعد أن يسر له ذلك العلماء والمشايخ التابعون بفتاوى وحجج ملفقة، وكان ذلك فى تقديرى بداية انهيار الدولة العثمانية، بداية الشرخ الذى استمر أكثر من ثلاثة قرون تضعضعت فيها أحوالها، وعرفت مصر خلال ظلام الاحتلال العثمانى أسود مراحل تاريخها، أهينت وانكسرت أرواح المبدعين المصريين بعد أن نهب السفاح العثمانى حضارة كاملة.
لم يحدث ذلك فى تاريخ البشرية، نقل من المصريين فنانى ثلاثة وخمسين فناً قامت على أكتافهم العمارة والفنون فى تركيا ومستعمراتها. منذ حوالى ثلاثين عاماً كنت فى زيارة مدينة مجرية اسمها بيتش، فى هذه المدينة مسجدان من فترة الامبراطورية العثمانية، أحدهما رقيق، حزين، وقفت أقرأ الخط الجميل فوجئت باسم كامل للخطاط محمد إسماعيل المصرى، حدثنى قلبى أنه أحد أبناء هؤلاء الآلاف الذين ساقهم السفاح العثمانى قسرا إلى إستانبول. بدا حرصه على تجويد الاسم وبالتحديد كلمة المصرى. هذه الجريمة العثمانية من الأمور المسكوت عنها فى تاريخنا إلى درجة أننا أطلقنا اسم الغازى مدمر استقلال مصر على شارع مهم بالزيتون،
والطريف المبكى لمن يدرك ويعرف أن الشارع الموازى أطلق عليه اسم السلطان الشهيد طومان باى الذى حارب حتى الرمق الأخير وشنق بشجاعة فى مشهد مهيب حفظه لنا ابن إياس فى بدائع الزهور وقد عاينه بنفسه، هكذا يساوى القائمون على ذاكرتنا بين القاتل والقتيل، أتمنى أن يرفع اسم هذا السفاح العثمانى الذى أهان مصر والمصريين ودمر حضارتها، ليتنا نعى معنى الذاكرة الوطنية ومكوناتها.
قبل دخولى إلى مسجد المحمودية العثمانى أتوقف لأتأمل الشرافات أو العرائس التى تنتهى بها جدران المساجد الشاهقة، أشكال خاصة تختلف من مسجد إلى آخر، لا تتشابه واحدة مع الأخرى، ثمة شرافات على هيئة زهرة الزنبق، وأخرى تستوحى اللوتس، وثالثة تتكون من حدود ثلاثة، أو خمسة أو سبعة.. شفرة غامضة أسعى إلى فكها، فهمها، هذه الشرافات انتقلت من العمارة الإسلامية إلى البندقية، عندما وصلت المدينة أول مرة، وقفت فى أكبر ساحاتها، سان ماركو، أذهلنى التشابه.. جدران المبانى المتساوية تنتهى بشرافات مماثلة تماما لما أراه فى مساجدنا فى مصر، معرض مفتوح لأنواعها والطرزها ومضامينها.
من الشرافات التى تثير عجبى وروعى ودهشتى وتهيئنى لفتوحات روحية فى أغوارى شرافات مسجد ابن طولون، لا مثيل لها فى العالم، تبدو منتمية إلى عصر الفن الحديث أكثر من القديم بتشابكها وامتزاجها وأطلالها على الأرض من ارتفاع وسمو، ربما لا يعرف الكثيرون أن مصمم مسجد ابن طولون قبطى، وأنه أعد نموذجا من الجلد عرضه على القائد سامرائى المولد. أول من استقل بمصر عن مراكز أول خطوة نحو على باشا الكبير ومحمد على باشا مؤسس مصر الحديثة وأعظم من أدرك مفاتيح المصريين وإمكانياتهم الكامنة.
الشرافات، الشرافات، لكم تأملتها، ولكم حيرتنى!
إنها تمثل الحد، وللحد فى الفكر المصرى القديم مكانة عظمى، ما من بلد فى العالم تتضح فيه الحدود مثل مصر، فى وطننا الجميل المبتلى عبر العصور يمكن أن يقف الإنسان، قدم فى الحياة وقدم فى العدم، قدم فى الأرض المزروعة وأخرى فى الرمال المجدبة، الحدود واضحة، الألوان صريحة خلو من الغبشة والضباب، أحفظ ألوان مصر التى أراها فى معابدها وكنائسها ومساجدها، الفيروز السينماوى والجرانيت الأسوانى كذلك خضرة البرسيم، وصفرة الرمال، طفت مصر ودخلت فيها أماكن لم يطأها بشر، عندما عملت مراسلا حربيا، وكنت أخرج مع دوريات الصاعقة فى الصحراء التى لم توضع معالمها على خرائط مدونة، لتحديد نقاط ترابط فيها كتائب الصواريخ، ما من أوضح من مصر، وما من أعمق من روحها، ما أسهلها وما أصعبها حتى على أبنائها.
عندما أدركت هذه الدقة وذلك التنوع فى الحدود التى تنتهى بها العمائر الدينية رحت أبحث عن الأصل والمعنى، فى مقابر الأشراف ومقابر الفنانين ومقابر الملوك والملكات، نرى توضيح الحدود فى تقسيمة اللوحات والكتابة فى مقابر دير المدينة بالأقصر المخصصة للفنانين الذين كانوا يرسمون جدران المراقد الأبدية، رأيت زخارف هندسية ونباتية، أصل الفن الذى نعرفه بالأرابيسك، إننى استخدم هذه الكلمة غير راض، وغير مقتنع، لقد أطلقها الأجانب على الفن الإسلامى باعتباره تجريدا وخطوطا لملء الفراغات، لكنه توشية، أفضل كلمة توشية، وهذا المصطلح مستخدم فى الموسيقى الأندلسية، أصول التوشية فى الفن الإسلامى كامنة فى الآثار المصرية القديمة،
لذلك نجد التفاصيل فى الكنائس، فقط تختلف الرموز، بدلا من النجمة التى تتوسط الطبق النجمى نرى الصليب الدائرى، تعددت المراحل والعقائد لكن الأصل واحد، والفنان واحد، إنه المصرى المبدع الذى لم يتوقف عن العطاء إلا عند انكسار روحه، جرى ذلك زمن الغزو الفارسى المهين، والاحتلال الرومانى، والعثمانى، غير أن الروح كانت تهن ويظل منها قبس يكون جذوة كامنة حتى تواتى الأحوال، تعيين الحدود فكرة مصرية قديمة، نجدها فى مظاهر متعددة، بدءاً من اللوحات التى تحدد النهايات والبدايات، وتلك الأشكال.
الشرافات، الشرافات..
إنها تعبير عن الثنائية الكونية.
«خلقناكم من ذكر وأنثى..»
ليل، نهار، ظل، ضوء، أرض يابسة، فى مصر إقليمان: الجنوبى، الشمالى، فى العقيدة جسد وروح، هذا أيضا ما تعبر عنه الشرافات، لندقق البصر.
هذا شكل من الحجر على هيئة زهرة اللوتس، ما بين الشكل المنحوت من الحجر ومثيله شكل آخر لكن من الفراغ، من الضوء، من الهداء، فراغ.. نعم، ولكن بدون هذا الفراغ لن يكون هذا الشكل من الحجر، إنه الفراغ والامتلاء، إنه الروح والمادة، هذا تفسيرى لتلك الشرافات، هذا المعنى يتضح عند الحد الفاصل بين البنيان واللانهائى المتجه إلى أعلى، لذلك كان الحجر والفراغ، تماما مثل الحضور والغياب، الوجود والعدم، لقد أرهقنى طول التحديق إلى أعلى أملاً فى أن أفهم،
ولذلك أعود إلى الأرض متجهاً إلى هذا المسجد الذى وصلنا من عصر الاحتلال، فى شارع باب الوزير لم أتوقف أمام مسجد خاير بك الذى سماه المصريون «خاين بك»، خاين بك الذى سلم الجيش المملوكى المصرى إلى سليم العثمانى طاعنا أستاذه قنصوة الغورى فى مرج دابق شمال حلب، هاأناذا أتجه إلى مسجد المحمودية، بناه الوالى محمود باشا وكان عسوفا، غشوماً، ولاقى حتفه هنا فى مصر ودفن بها، المسجد نموذج للعمارة المصرية فى أزمنة الهوان وسيادة الأجنبى.
فى أول شهر شوال سنة 973ه - أبريل سنة 1566 ميلادية وصل إلى مصر محمود باشا ليتولى الولاية، كانت مصر بعد الغزو العثمانى قد أصبحت ولاية تابعة كأنها محافظة صغيرة، وهذا فى رأيى من كوارث الدهر، كان الولاة العثمانيون الغلاظ يعينون من السلطان العثمانى الذى تحول مع الزمن إلى خليفة بفضل فتاوى وتبريرات العلماء المنافقين، وفقهاء السلطان، كان الولاة يجيئون إلى مصر ليحكموا بلدا لا يعرفونه، همهم الأول أن ينهبوا أقصى قدر من الثروة فى أقل مدة لأنه مؤقت، موظف ظهورات حتى وإن كان بدرجة باشا، وكان لقب الباشا يطلق على الوالى العثمانى فقط، وليس كما هو الحال الآن يطلق على كل من هب ودب، وأصبح يثير السخرية أكثر مما يبعث على الرهبة.
وصل محمود باشا إلى مصر، وخرج وجهاء مصر لاستقباله وبصحبتهم الهدايا الثمينة، خاصة من حاكم الصعيد الأمير محمد بن عمر الذى قدم إليه هدايا ثمينة وتحفا وخمسين ألف دينار، تسلم محمود باشا منه الهدايا ثم غدر به فقتله واستولى على ثروته، تصفه المصادر المعاصرة بأنه كان عسوفاً، ظالماً، شديداً، جائرا فى أحكامه، وقد استولى على أموال كثيرة من الناس.
فى يوم الأربعاء آخر جمادى الأولى سنة 975 ه - 1567 م، خرج محمود باشا من القلعة فى موكبه الفخم، وبينما يمر على بركة الناصرية بين البساتين أطلق عليه شخص مجهول النار فأصابه، بالتأكيد أحد المضارين من عسفه وظلمه، أصيب بجرح قاتل لم ينفع معه أى علاج، توفى ودفن فى المسجد الذى نقف على مدخله الآن وأوصى بكل أمواله إلى زوجته.
المسجد نموذج لعمارة التحول من الطراز المملوكى المعبر عن الشخصية المصرية زمن استقلاليتها إلى الطراز العثمانى المكتمل فى المسجد المهيمن على الميدان بسبب الموقع، أعنى مسجد محمد على، أما المهيمن بسلطة الروح وجلال الجمال فهو السلطان حسن.
تدخل إلى ممر يفصل المسجد إلى قسمين، طرقة تصل المدخلين القبلى والبحرى، فى الداخل قاعة مربعة، أربعة عمدان مصرية قديمة من معابد هدمت، تصميمه من الداخل حائر بين المدرسة ذات الإيوانات الأربعة والمساجد التى يكون الأيوان القبلى فيها أجمل الأجزاء، لا هو مدرسة ولا مسجد، الجدار الشرقى يتوسطه محراب بسيط عار من الزخرف، أجرد، هذا هو وهن الروح المبدعة، دائما فى العمارة المصرية يكون المحراب أجمل أجزاء اللحن الخفى.
فوق المحراب الفقير نافذة من جص مكتوب عليها «لا إله إلا الله محمد رسول الله».
بجواره منبر من الخشب، له درابزين من الخشب الخرط، كل التفاصيل توحى بالفقر، الفقر الإبداعى، باستثناء شبابيك من زجاج معشق بالجص، ألوانه جميلة ولكن أين ذلك من نوافذ الماردينى والإسحاقى وقايتباى، نلاحظ انتفاضة الروح المصرية فى بعض أجزاء أخرى مثل السقف الذى قسم إلى أجزاء مستطيلة مذهبة، لها إزاء كبير مكتوب عليه آيات قرآنية بحروف بيضاء تتخللها فروع ذهبية منها آية الكرسى وقوله تعالى:
«إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وأتى الزكاة ولم يخشَ إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين».
أما سقف المنور فمكتوب بخط جميل ما نصه:
«بسم الله الرحمن الرحيم (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قال صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا فى الجنة أوسع منه)، أمر بإنشاء هذا المسجد المعمور من فيض ماله المبرور المقام العالى واسطة عقد اللآلى أمير الأمراء الكرام كبير الكبراء الفخام فكان ابتداؤه وتاريخه بحكم منشئه الأول المبدى 975 وانتهاؤه بمعاونة له من الرتب على أنه بر للرضا للقوة (بياض) لأغلبية وأول (بياض) والإكرام المختص (بياض) حضرة الأمير الباشا محمود راجيا من كرم الله القبول والرضا من فضله العفو مرتضى تقبل الله».
طبعا أتذكر القول المعاصر للمصريين «بفلوسه»، ولكننى أنثنى لأقول، ليتها فلوسه، فقد نهب نهبا كثيرا ومن محصلة أموال المصريين بنى هذا المسجد، وهذه حالة شائعة فى مصر حتى الآن، إذ يقدم اللصوص الكبار على بناء المساجد والمنشآت الخيرية تقربا إلى المصريين أو - وهذا هو الأرجح - كمحاولة للتكفير عن ذنوبهم التى اقترفوها والأموال التى جمعوها، وكم من جمعيات خيرية الآن ومساجد يبنيها بعض الذين يتصدرون الواجهة الاجتماعية ومنهم أعضاء مجلس شعب وأصحاب أنشطة مرموقون، كان الدين ومازال من وسائل التقرب، وتجميل الصورة لمعرفة حب المصريين للتدين ومشاعرهم العميقة تجاه الذين يقدمون على أعمال الخير عموماً.
لاقى محمود باشا حتفه ودفن فى مسجده، نلاحظ أن دكة المبلغ تتوسط الجدار الغربى محملة على كوابيل حجرية، تعلوها مجموعة من الشبابيك التى نرى فيها زجاجاً ملوناً جميلاً معشقاً بالجص.
نخرج إلى الساحة المحيطة بالمسجد، نوافذ تطل على الميدان، الجدران من لونين، أبيض وأحمر.
النظام المعروف بالأبلق، هذا من بقايا العمارة المملوكية، شيئًا فشيئا سيجرى تحول إلى العمارة العثمانية أحادية اللون والطراز، الأقرب إلى الكاتدرائيات، فكلها مستوحاة من كنيسة أياصوفيا العملاقة التى حاول السلاطين العثمانيون مواجهتها بجامع السلطان أحمد المعروف بالأزرق، والذى لم تخطئ عينى آثار الفنانين المصريين فيه، خاصة الخط والزخرفة، للأسف أهملنا نحن فى الخط وتبناه الأتراك المعاصرون، بحيث أصبحت إستانبول الآن مركزاً للخط العربى، ويرجع الفضل فى ذلك إلى أكمل حسان أوغلو مدير منظمة المؤتمر الإسلامى الآن، ومن قبل تولى لفترة طويلة مركز الفنون «أراسكا»، فى إستانبول ونهض به، وهو مولود فى مصر، وأبوه مدفون فى ثراها، تعرفت إليه فى الستينيات بمكتب الأستاذ يحيى حقى- رحمه لله.
فى المساجد التى شيدت فى العصر العثمانى سوف نلاحظ تسيد اللون الرمادى، تماما كما هو الأمر فى إستانبول، إضافة إلى الاعتماد على مركزية البناء، إذا أردنا أن نعرف الفرق بين المنظورين المعماريين فلندخل السلطان حسن ومن بعده مسجد الرفاعى أو العكس، وإن كان المهندس النمساوى هيرتس باشا مصمم الرفاعى حاول أن يمنحه من الخارج بعضا من خطوط العمارة المصرية المملوكية، خاصة فى المآذن وزخرفة المداخل، لكنه من الداخل مسجد عثمانى، حاول أن يجرى مواجهة مع السلطان حسن بحيث يضاهيه ولكن شتان، شتان.
نرى القاعدة الأسطوانية التى تنبثق منها المئذنة عثمانية الطراز، الخالية من الزخرف، مئذنة القلم الرصاص وتبدو واضحة فى شكلها العثمانى الجاف الذى يذكرنا بحراب الحرب وليس بالسمو، تبدو واضحة فى مآذن مسجد محمد على، فى إستانبول كلها لا يوجد إلا طراز واحد من المساجد، طراز واحد من المآذن، كأنها نسخ مكرورة، معادة، الفرق فقط فى الحجم. فى مصر لا يوجد مسجد يشبه الآخر، لا توجد مئذنة تكرر الأخرى، ليت المصريين يدركون إلى أى حد مصر ثرية، إلى أى حد مصر مبدعة، تستند إلى تراث هائل نرجو أن يكون مصدراً لتأجيج الروح الوطنية وليس لإثراء مجموعة محدودة من لصوص الآثار سواء كانوا رسميين أو منتمين إلى المافيا الخفية.. أكرر، ليت المصريين يعلمون، ليت قومى يعلمون!
القاعدة الأسطوانية تحت المئذنة مقتبسة من السلطان حسن، مرة أخرى، ما أبعد الفارق! لا يمكن المقارنة، لا فى الهيبة ولا فى الحجم، المئذنة قريبة من الطراز العثمانى، القبة قاعدتها جميلة، لكن القاعدة لا تتناسب مع القبة، لم أعرف قبة بهذا الهزال والفقر كأنها برتقالة جفت، هذا طبيعى، فمصر المبدعة لم تعد فى هذه الآونة هى مصر المملوكية المستقلة، فلنقارن بالبصر بين ثراء وجمال وروعة قبة قانى باى الرماح على بعد أمتار، وبين فقر قبة محمود باشا، قبة خلو من أى زخرف، ضعيفة، فى لوحات الخط الجميلة، والنوافذ الجصية المعشقة بالزجاج الملون. نرى انتفاضات الروح المصرية، كذلك نرى انطفاءها فى هزال البنيان، لا شىء - كما أكرر مراراً - يكسر روح المصريين إلا الإهانة والعسف وجهل القائمين على أمورها بقيمتها وقيمة شعبها.
إن المساجد والتكايا والزوايا والخانات وما تبقى من عصور مختلفة، ليست عمارة من أحجار وزجاج وخشب وجص وما تيسر، إنها تاريخ حى ماثل أمامنا، تاريخ لمراحل الصعود، ولمراحل الانهيار، يمكن قراءة أحوال المجتمع وأحوال الخلق فيما نراه، لكن ما يعنينى تلك المجاهدات الروحية للمصريين، تلك المحاولات للارتقاء، لعبور الخط الفاصل بين الظاهر والباطن، ليست العمائر المصرية إلا معارج للروح صوب الخالق سبحانه وتعالى، من ميدان القلعة أسعى إلى منطقة أخرى كانت فى صميم الصحراء، إلى قايتباى حيث عمارة الخلاء، وحيث نعايش قصيدة من الجمال عنوانها، «مسجد قايتباى».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.