قصص تدور في أجواء عالم مجاوز للواقع، يتراوح بين الحلم والكابوس والمتاهة الكفكاوية ليس هناك مبرر للكتابة عن مجموعتين قصصيتين في نفس الوقت إلا إذا كان هناك مشترك من وجهة نظر القارئ، وهو ما وقعت عليه بالصدفة البحتة. والصدفة ليست مهمة هنا إلا إذا كانت تؤشر علي سمة سردية جديدة، علينا أن ننتظرها لتكتمل، وإن كانت قد بدأت علاماتها تظهر في العودة إلي الذات. لكن الذات هذه المرة تنظر إلي نفسها بشكل مغاير لنظرة جيل التسعينيات. فهي ذات جل همها أن تعرف نفسها، أو تصل إليها، أو تهرب منها، أو تتعايش معها، أو تكتمل بها. وهو ما فعلته من قبل سمر نور في "محلك سر" (2013). في مجموعة هدي يونس "محاولة لاستعادة بناء الجسد" والصادرة عن لجنة الكتاب الأول بالمجلس الأعلي للثقافة (2013) يبدو الحلم الغرائبي الذي يقترب من كونه كابوسا هو الوسيلة لفك شفرة الذات، بمعني آخر، تُوظف الكاتبة اللاوعي- بالمعني المباشر- والذي يُعلن عن نفسه في الأحلام لتفهم الوعي الذي تري به العالم. وفي حين يُسيطر الحلم علي المجموعة فإن مضمونه أيضا يتخذ تلاوين متعددة تتفق في فكرتها: البحث عن المنزل ("المصير")، أو إنقاذ المنزل من الغرباء (قصة "اللغم")، أو تغيير شكل المنزل (قصة "العائد")، أو فقدان المنزل (قصة "الغريب")، أو محاولة الوصول إلي المنزل (قصة "المحطة)، ليدرك القارئ أن الجسد الذي تحاول الذات استعادة بنائه هو المنزل المقترن دائما بالأم (قصة "محاولة لاستعادة بناء المنزل")، ويتحول المنزل عبر المجموعة إلي مكان الذات مازجا دلالاته الأولي كملاذ وملجأ ومساحة خصوصية وصك ملكية وإحساس بالأمان مع دلالات الأحلام التي تُحول المنزل في اللاوعي إلي معادل موضوعي للذات التي لا تنعكس إلا في صورة الأم (ولا تبقي إشكالية الهوية الفردية بعيدا عن المنظومة). يتأكد ذلك عندما تحاول شخصية الأم إنقاذ ابنتها- في الحلم- من الطيور ذات المناقير السوداء (قصة "الطيور"). وفي نهاية المجموعة قدم الناقد والتشكيلي عز الدين نجيب قراءة قصيرة في القصص، ولاحظ أنها "تدور في أجواء عالم مجاوز للواقع، يتراوح بين الحلم والكابوس والمتاهة الكفكاوية وفانتازيا الواقعية السحرية، وكثيرا ما يختلط ويتماهي فيها الواقع مع ما تحت الواقع، في بئر اللاوعي...". ينطبق وصف عز الدين نجيب علي مجموعة إبراهيم عادل "التحديق في العيون" (دار الكتب، 2013). وبالرغم من أن الكاتب قد سلك نهجا مختلفا للوصول إلي الذات، فالذات نظرت داخلها بفعل عوامل خارجية، تفاصيل عادية، إلا أن النتيجة واحدة. فالنظر إلي الداخل يكشف عن طبقات اللاوعي والهواجس المتراكمة فيه، وإن كان الترقب يغلب علي الذات في هذه المجموعة. تلوح أجواء الحلم في القصص، حتي أن قصة "ثبات نسبي" تنتصر للحلم علي اليقظة، مع قصدية الخلط بين الواقع وما تحته (قصة "بين فيلم ومظاهرة")- وقصدية اللعب أيضا في عدة نصوص تكتب عن الكتابة، من أجل فك شفرة مفردات اللاوعي المراوغ الذي يخدع الوعي أحيانا في شكل نسيان، ليتحول إلي مجرد "ممارسة إنسانية"، أو يراوغه بشكل آخر ليصل إلي حالة إنكار الواقع كما في قصة "الولد الذي أحب الملائكة". وبمشهد مقتبس من الحياة اليومية،- راكب الميكروباص-، لا يتمكن الوعي من السيطرة علي ما خلفه، فينسج مشاهد لا يستطيع صاحبها أن يميز واقعها من حلمها (قصة "ذراع واحدة طويلة"). لكن بشكل عام، تصارع الذات في هذه المجموعة مع الهواجس التي تسيطر علي العقل الواعي، فيتجسد هذا الهاجس في "قطة في القهوة". وفي حين كان المنزل هو التيمة المتحكمة في سرد اللاوعي في مجموعة هدي يونس، فإن فكرة اللعب المفارق- المدعوم بتعدد الأصوات- هو ما يسيطر علي مجموعة إبراهيم عادل، ويتحكم في توجيه السرد نحو الداخل، وكأن الذات تلعب مع نفسها كما يظهر في قصة "رسالتي الأولي لناقدي العزيز". كأن السرد يهدف إلي التخلص من الذات عبر الحديث عنها أو بالأحري النظر داخلها، وفي حين اعتمدت هدي يونس علي مفردة "الجسد"- الذي تحاول إعادة بنائه- كمدخل للذات، فقد اعتمد إبراهيم عادل علي مفردة "العيون" كمهرب من ذاته إلي ذات الآخر ليعود فيواجه ذاته وحيدا. في مستهل قصة "التحديق في العيون" يعلنها صراحة ويقول: "خرجت مني، انطلقت من ذاتي، حاولت الابتعاد عني، لطالما ضقت ذرعا بي، الآن بإمكاني أن أنظر إلي العالم بطريقة أكثر رحابة، بمنظاري الخارجي، لا أثر لي علي، ولا أثر لآخرين علي ردود أفعالي". تهيم الروح في محاولة لعب مع الأرواح الأخري وتستغرق القصة في أجواء تجاوز الواقع بكثير، لتخاطبه ذاته في النهاية "أكمل الترقب، ولا تفقدني..أنا أقرب إليك". هكذا يتحول التحديق في العيون- مدخل الروح- إلي وسيلة للتحديق في الذات. في كلتا الحالتين، سواء الجسد أو العيون، يبدو أن الطريق إلي الذات يبدأ من الوجود المادي لينتهي نحو إعادة رسم للأنا التي تتخبط من أجل فهم الآخر ومن أجل استعادة المفقود. إنها الذات التي تعي تماما حالة التوهان التي تعيشها ولا تدعي أي نقاط ارتكاز وثبات- سوي ذاك الثبات النسبي.