وقفنا ببابِ القيروانِ كأنّنَا قِفَا نبكِ من ذِكري حبيبٍ ومنزِلِ حيث المكانُ جزيرةُ العربِ القُدامي والزمان هنا زمانٌ لولبيٌّ، نحنُ عوّدنا أصابعنا علي أن تخرُقَ البلّورَ في الصحراءْ وتوقّعَ الأحجارَ والأشجارَ، علّمنا الأصابع أن تَشِيمَ البرق في نجدٍ.. وتمسكَ ضوءَهُ المبلولَ؛ علّمنا الأصابعَ أن تكون الماءْ لكأنّنا أسلافُنا إذْ نلتقي أسلافَنا، وَكَأنْ هُمُو جاءوا إلينا من وراء البحرِ، أو خرجوا إلينا من وراء الأرضِ؛ حيثُ الضوءُ أزمنةٌ بها مجدولةٌ لكأنّنا في البدءِ.. لا عدمٌ ولا موتٌ، ولا ليلٌ يرينُ ولا نهارٌ يستبينُ بها.. لنا تمتدُّ أيديهمْ إلينا من خلالِ عيونهمْ وبريقِها، متردّدينَ جميعنا: "هلْ نحنُ أنتمْ أيّها الأسلافُ؟ أمْ؟" هذا أبي قد لوّحتهُ الشمسُ مثلي..الريحُ تسخنُ والضبابُ يلفُّ أحمرَ، كلَّ شيءٍ حولنا: عينانِ سوداوانِ قاتِمتانِ مثل حصانهِ، عيناهُ من عينيهِ،وادِعتانِ: "منْ هذا الغريبُ شبيهُنا؟" ويمدُّ لي خُرْجًا مليئا بالصحائف والزعانفِ والعِظامِ الليلُ يقبلُ.. تسبُتُ الصحراءُ حُمرةَ جمرةٍ وسَوادَ حبرٍ، في بساتينِ النخيلِ..الرملُ تبرٌ عائمٌ من تحتنا والليلُ ضوءٌ عالقٌ بسمائهِ.. الحيوانُ يرقدُ آمناً في ظلّه.. ضوءٌ بطيءٌ ناعسٌ كانتْ ترقّطهُ الظلالُ..شموعُ دُهْنٍ.. والهواءُ يرنُّ، و"السّرواتُ" أبعدَ ترفع الأرض الخفيضةَ كالشراعِ إلي السماءِ.. علي حَواشي عشبة نِمْنَا وَظَلَّ أبي يقلّبُ خُرْجَهُ كالطفلِ،والأصدافُ بين يديهِ من بيْضِ النّعامِ وكانَ هواءُ البيتِ في الليلِ يابسًا كَأَنْ قُدَّ من شمسٍ ومن وهْجِ صلصالِ وكانَ مليئا بالثقوب كأنّهُ إذا نفختْ ريحٌ بهِ رجْعُ غِربالِ لكنْ شميمُ عرار نجدٍ لم يزلْ فينا يهمهمُ ناعماً، ويدورُ من ريحٍ إلي ريحٍ بنا.. أجراسُ مَاعِزِهمْ تَرَدَّدُ منْ قَصِيِّ جبالهمْ فينا.. قطيعٌ هادرٌ مُتشَمّمًا أحلامنا، يمشي علي خيطٍ كنسْجِ العنكبوتِ؛ وفي صُدوعِ قصيدةٍ وظلالها يجري عميقًا، والنسيمُ ينامُ في أشجارهِ.. غسقٌ هنالك زئبقيٌّ..بعضُ غيمٍ يشبهُ امرأةً بثديٍ واحدٍ.. هذي الغيومُ السابحاتُ كأنّهنّ مُحارِباتُ الآمَزُونِ وَثبْنَ.. يكتبهنَّ ماءُ الليل في لوحٍ أمامي لكأنّني في قصّة"البيت الذي فوق الشجرْ" صوتٌ سماويٌّ وآخرُ من حَجَرْ وأبي يقول عليك تهجيةُ الظلامِ اللّيلُ كان ظلالَ غيمٍ شاردٍ.. ذئبُ الحطيئةِ وَهْوَ يعوي أو يمدُّ لسانهُ الناريَّ من جوعٍ حصانٌ يستطيلُ ..يهفّ والصحراءُ لونُ المشمِشِ المصفرِّ في فجْر الحَمامِ مِنْ أيِّ بيتٍ هفّ؟ مِنْ بيتٍ لعنترةَ بن شدّادٍ(وأعني جيّدا بيتَ القصيدةِ لا خباءً في مضاربهمْ) حوافرُ في الفضاءِ.. ولا لجامَ له..ولا رِسْنٌ؛ كأنّ حصانَهُ القرْبانَ، من لحْم الغمامِ ..وهُوَ المدي والبرقُ قلْ: منْ كوّةٍ فيها(وأعني جيّدا هذي القصيدةَ) نسمعُ الدنيا وأَهْلِيها نرانا: في عيون ذبابةٍ قُزحيّةٍ كانت تحكّ ذراعَها بذراعِها، في الريحِ جاءتْ من أقاصي الأرضِ، من بئرٍ هناكَ، بعيدةِ المَهْوي،إلينا؛ وهيَ تحملُ جَرْسَ موتاهمْ كهجْسِ العشبِ.. في رُقُمٍ لهم كانت تكلّمنا وفي صُوَرٍ نعيدُ طِلاءَها حيث القصيدهْ كَفَنًا تكونُ لنا وشرنقةً.. وصَحْراءً حديقهْ من كوّة أخري نري عمرو بن كَلثومٍ يطوّحُ في الطريق إلي دمشقَ وقَاصَرينا.. النومُ باعدَ بيننا والحُلمُ غربالُ الحقيقهْ وَلأدْخُلنْ كالظلّ دارةَ جلجلٍ، من بيتها العشرين( أعني جيّدا بيت القصيدهْ) وأراه مختطفا ثياب المستحمّاتِ المرايا الساحباتِ علي فُضول وِسادنا،من ليلهنّ،حريرَهُ، والواهباتِ لنا وِسادًا خافقا أبدا؛فما نِمْنا عليهِ ولا إليهِ ولا صَحَوْنا. كانَ للضلّيل عاداتٌ، ويعرفُ كيف في دُهْن الشموع يفكُّ أردانَ القميصِ، وكيف تشتعلُ الورودُ، وكيف يهبطُ كالنّدي، متدثّرا بهوائهِ المبلولِ..حتّي النّبْعْ. يَخرجنَ في بللٍ..حليبٌ فاغمٌ مُصَّاعِدٌ كالنسغ في أثدائهنَّ وكان يلمعُ في العيونِ الدّمْعْ. يُبْصِرْنَهُ بثيابهنَّ.. وَيُردِفُ الضّلّيلُ أنثاهُ سنامَ بعيرهِ.. القدمانِ في كلّ النواحي تضربانِ.. وكان يعرف أنّ للمِرآةِ ذاكرةً، وتعرفُ مثلهُ؛ لكنّها ملساءْ فلأغلقنَّ الباَبَ..ذَا سرْبٌ من الغزلانِ جاءَ الآنَ يحرسُ نومها..وذواتُ أظلافٍ.. وكان الزيتُ ينفدُ في مصابيحِ الخيامِ مقاطع من قصيدة مطولة