الدفاع الألمانية تستعين بأسراب «صراصير» للتجسس والإستطلاع    سعر الذهب اليوم السبت 26 يوليو 2025.. الجنيه الذهب ب37040 جنيها    أجندة البورصة بنهاية يوليو.. عمومية ل"دايس" لسداد 135 مليون جنيه لناجى توما    سعر الحديد اليوم السبت 26-7-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    الجيش الإسرائيلي يتلف 1000 شاحنة من المساعدات الإنسانية المخصصة لغزة    ستارمر: بريطانيا ستعترف بالدولة الفلسطينية بعد وقف إطلاق النار في غزة    مراسل إكسترا نيوز: معبر رفح لم يُغلق يومًا منذ بدء الحرب    جوتيريش: ما يحدث في غزة أزمة أخلاقية تتحدى الضمير العالمى    الأهلى يزاحم الهلال على ضم نونيز من ليفربول    اختتام جولة مفاوضات "النووى" فى إسطنبول.. محادثات طهران والترويكا الأوروبية للمرة الثانية عقب حرب ال12 يوما.. إيران: مشاورات جادة واتفقنا على استمرارها.. الهجمات قوضت أمن المنشآت النووية    كريم فؤاد يرد على شائعة إصابته بالصليبى: "حسبى الله ونعم الوكيل"    رابطة الأندية توجه الدعوة لأبو ريدة لحضور قرعة الدوري    جثة و23 مصابًا.. الحصيلة النهائية لحادث ميكروباص قنا    قرار جديد من النيابة بشأن والد «أطفال دلجا المتوفيين»    بشرى لطلاب الثانوية الأزهرية.. مؤشرات النتيجة مرتفعة ونطمئن الطلاب وأولياء أمورهم وإعلانها قبل نهاية يوليو.. رئيس قطاع المعاهد: لا نستعجل فى إعلان النتيجة لضمان حصول كل طالب على حقه فى الدرجات    إصابة شاب في مشاجرة وتسمم مزارع بحوادث متفرقة في سوهاج    خدمة جوجل فوتو تضيف أدوات لتحويل الصور القديمة إلى مقاطع فيديو متحركة    نقابة الموسيقيين تتخذ إجراءات قانونية ضد الناقد طارق الشناوي    حظك اليوم السبت 26 يوليو وتوقعات الأبراج    ليلة أسطورية لعمرو دياب في الرياض .. والجمهور يغني معه «خطفوني»    حقوق الإنسان والمواطنة: المصريون يعلمون أكاذيب الإخوان ودعواتهم للتظاهر مشبوهة    التليفزيون هذا المساء.. جمال شقرة: الإخوان لم تقدم شيئا لفلسطين    دعاء الفجر.. اللهم إنا نسألك فى فجر هذا اليوم أن تيسر لنا أمورنا وتشرح صدورنا    "الحشيش حرام" الأوقاف والإفتاء تحسمان الجدل بعد موجة لغط على السوشيال ميديا    3 مكاسب الأهلي من معسكر تونس    اليوم، انطلاق امتحانات الدور الثاني لطلاب الابتدائي والإعدادي والثانوي    بالأسماء.. مصرع طفلة وإصابة 23 شخصًا في انقلاب ميكروباص بطريق "قفط – القصير"    7 جنيهات للشاي والأرز أقل من 30، انخفاض أسعار السلع الغذائية في الأسواق    بعد أزمات فينيسيوس جونيور، هل يتحقق حلم رئيس ريال مدريد بالتعاقد مع هالاند؟    «هيسجل إمتى بعيدًا عن ضربات الجزاء؟».. تعليق مثير من الغندور بشأن زيزو مع الأهلي    وزير الأوقاف يحيل مجموعة من المخالفات إلى التحقيق العاجل    موعد إجازة المولد النبوي 2025 الرسمية في مصر.. كم يومًا إجازة للموظفين؟    أسعار الفراخ اليوم السبت 26-7-2025 بعد الانخفاض وبورصة الدواجن الرئيسية الآن    زيلينسكي: أوكرانيا تحتاج لأكثر من 65 مليار دولار سنويًا لمواجهة الحرب مع روسيا    مينا مسعود لليوم السابع: فيلم فى عز الظهر حقق لى حلمى    عبد الواحد النبوي يطالب هيئة الكتاب بسحب أحد إصداراتها والاعتذار للمصريين    موعد مباراة ليفربول وميلان الودية اليوم والقنوات الناقلة    رحيل نجم بيراميدز بسبب صفقة إيفرتون دا سيلفا (تفاصيل)    الأوقاف تعقد 27 ندوة بعنوان "ما عال من اقتصد.. ترشيد الطاقة نموذجًا" الأحد    «بالحبهان والحليب».. حضري المشروب أشهر الهندي الأشهر «المانجو لاسي» لانتعاشه صيفية    «جلسة باديكير ببلاش».. خطوات تنعيم وإصلاح قدمك برمال البحر (الطريقة والخطوات)    5 طرق بسيطة لتعطير دولاب ملابسك.. خليه منعش طول الوقت    "الجبهة الوطنية": دعوات التظاهر أمام السفارات المصرية تخدم أجندات مشبوهة    «الداخلية» تنفي «فيديو الإخوان» بشأن احتجاز ضابط.. وتؤكد: «مفبرك» والوثائق لا تمت بصلة للواقع    بعد «أزمة الحشيش».. 4 تصريحات ل سعاد صالح أثارت الجدل منها «رؤية المخطوبة»    الإسماعيلية تكشف تفاصيل مهرجان المانجو 2025.. الموعد وطريقة الاحتفال -صور    رسميًا.. دي باول يزامل ميسي في إنتر ميامي الأمريكي    "مستقبل وطن دولة مش حزب".. أمين الحزب يوضح التصريحات المثيرة للجدل    مستشفى الناس تطلق خدمة القسطرة القلبية الطارئة بالتعاون مع وزارة الصحة    «لو شوكة السمك وقفت في حلقك».. جرب الحيلة رقم 3 للتخلص منها فورًا    روعوا المصطافين.. حبس 9 متهمين في واقعة مشاجرة شاطئ النخيل في الإسكندرية (صور)    سعر الذهب اليوم السبت 26 يوليو محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير (تفاصيل)    الجمهور على نار والأجواء حماسية.. انطلاق حفل تامر حسني بمهرجان العلمين الجديدة    تنسيق الثانوية العامة 2025.. التعليم العالي: هؤلاء الطلاب ممنوعون من تسجيل الرغبات    رددها الآن.. أفضل أدعية لاستقبال شهر صفر 1447 هجريًا    برلماني: الدولة المصرية تُدرك التحديات التي تواجهها وتتعامل معها بحكمة    جامعة دمنهور الأهلية تعلن فتح باب التسجيل لإبداء الرغبة المبدئية للعام الجديد    شائعات كذّبها الواقع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشكلة السلطة في الإسلام المعاصر
وكل بدعة ضلالة...
نشر في أخبار الأدب يوم 05 - 10 - 2013

يستكمل الشاعر مهاب نصر تأملاته في موضوع السلطة في الإسلام المعاصر، والذي نشر فصله الأول منذ أسبوعين في أخبار الأدب...والمقالات تثير عددا من الأسئلة الهامة والجدية.
"ومن أوهام العامة التي منشؤها عدم العلم، والجهل بالحقائق أنه إذا اختلج حاجب أحدهم مثلا، وذكر ذلك لأحد أصحابه يقول له إن اختلاج الحاجب يدل علي إصابة خير كثير في
رأي بعضهم..... وفات هؤلاء أن اختلاج الأعضاء بحركة الجسم منشؤه احتقان البخار في داخله وطلبها المنفذ، وقد يكون من تغير الدم ولا ارتباط له بخير أو شر.".
"الإبداع في مضار الابتداع" الشيخ علي محفوظ
منذ أواسط القرن ال19 وهناك دين جديد في مصر (وربما في أنحاء أخري من الوطن العربي) يعاد تشكيله. دين يشكل إنتاجه قطيعة فعلية مع التطور الذي آل إليه الإسلام ثقافة وممارسة.
غير أن هذه القطيعة كانت ترتبط بوهم إعادة إنتاج الأصل "ليس هذا هو الإسلام بل هو...."، والغريب أن هذه العبارة السابقة هي محور الجدل حتي الآن بين من ينتمون إلي ما يسمي بالأصولية الإسلامية وبين سائر نخب المجتمع، بين من اعتبروا من "المجددين" ومن اعتبروا أنفسهم "حماة التراث، الأصالة، أوالهوية" دون التنبه إلي الإشكال الذي تتضمنه هذه العبارة و"تاريخية" هذا الإشكال، بمعني أنه إشكال لم تفرضه ضرورات حوار صراع داخلي حول مفهوم الإسلام، وإنما فرضه إعادة التأهيل الشاملة في ضوء "الخطر الخارجي".
إن الاختيار لهذه الحقبة تحديدا ليس لأنها بادئة الصدام بين الإرث الثقافي الاسلامي للمجتمع المصري وما يسمي بال"حداثة" ولكن لأنها اللحظة التي تكشف فيها ضعف الدولة، وهانة الشعور باستحالة "الحداثة"، وهي اللحظة المناسبة عادة، بحسب تاريخ السلطة في الإسلام، للمنازعة عليها، وسحب أو إضعاف شرعيتها. ويمكننا مثلا المقارنة بين تفاؤلية وجرأة رفاعة الطهطاوي وبين بداية الدعوة إلي الأصل الضائع مع محمد عبده (كتاب "نهضة مصر" للدكتور أنور عبدالملك). كما يمكننا في الوقت نفسه مقارنة وضع رفاعة من دولة قوية كان يرسم لنخبتها طريقهم الجديد، وبين محمد عبده الذي عاصر الثورة علي الخديو. وهي ثورة وإن فشلت لكنها ما كان لها أن تقع إلا بضعف السلطة المركزية التي انتقلت من دور منافس محتمل إلي تابع في دائرة المد الرأسمالي الاستعماري، واحتياجها إلي نخب وفئات اجتماعية تساندها وهو ما يجعل هذه الفئات تطالب بالثمن.
الحرب علي "الجاهلية":
في كتاب صدر أوائل القرن الماضي يحمل عنوان "الإبداع في مضار الابتداع" للشيخ علي محفوظ يتضح أن إعادة إنتاج الدين الإسلامي ارتبطت أيضا بمحاربة ما يسمي "البدع"، وهو المعادل المنطقي للعودة إلي الأصل.
ظاهريا اعتبرت "البدع" انحرافا بالإسلام عن مساره ومقاصده، وهو الانحراف الذي أدي إلي تخلف المسلمين.
كانت هذه البدع التي ذكرها الشيخ علي محفوظ في كتاب تجاوز 400 صفحة هي مجموعة واسعة من الممارسات الشعبية (وأحيانا تتصل بممارسات الانتلجانسيا الاسلامية نفسها) تتصل إما بالعبادات والشعائر، وإما بعادات اجتماعية تتصل بها أو بمعتقدات شائعة اعتبرت مخالفة للدين، أو بلا أصل أو مرجع منه.
بيد أن "الدين" الذي يشير إليه علي محفوظ كمرجع وأصل بلا "شوائب" كان قد اكتسب زخما عبر تاريخ طويل، وأصبح إطارا للكثير من الثقافات الشعبية أو الفرعية تصب في نهره الواسع، كان الاسلام الذي يهاجمه علي محفوظ وأشباهه هو الضمير العام ولغة المجتمع بكل تنويعاتها وثرائها حتي تناقضاتها الغنية.
ولم يفعل الشيخ محمد بن الوهاب في الجزيرة العربية أكثر من ذلك، فدعوته تتأسس علي الفكرة ذاتها، وله كتاب صغير يحمل عنوانا دالا "مسائل الجاهلية"، وهي الكلمة التي سيعيد سيد قطب والإخوان عموما إنتاجها في سياق أوسع. وبالطبع فإن الجاهلية التي يتحدث عنها ابن عبدالوهاب أو قطب هي صفة لما كان عليه "الإسلام" المعاصر لهما، الإسلام الذي أرادا أن يعيداه إلي جادة الصواب، وإلي "عصره الذهبي" المزعوم.
إلي الأمام بالاختزال والحذف:
من الأمور الدالة التي تجعلنا نعيد النظر في إنتاج "الإسلام الجديد"، باعتباره يمثل قطيعة أشمل بكثير من حدود "الدين" بمعناه الضيق، إلي إعادة انتاج الثقافة بعامة هو ما لاتزال المناهج التعليمية الحديثة تعيده وتؤكده حينما تتناول كتب اللغة العربية (في المدارس والجامعات علي السواء) فترة ما يسمي بال"ضعف" في الأدب العربي، والتي تمتد من العصر المملوكي غالبا لتبلغ ذروة انحطاطها في نهايات العصر العثماني.
وليس موضوع الجدل هنا ما إذا كان هذا الوصف صحيحا أم لا (وهو بالتأكيد غير واف علي الإطلاق).
ويمكننا أيضا رؤية ما حدث للغة العربية نفسها من إعادة إنتاج ودعوات النخبة إلي تخليصها من "الزخرف" اللفظي، ومن الهجنة، فنشأت لغة فصحي قاموسية، تختار من القاموس وتنتقي في إطار مبدأ "التشذيب" والإصلاح.
ومن اللافت للنظر ذلك التفاوت الواضح بين لغة الجبرتي ولغة عبدالرحمن الرافعي كمؤرخين مثلا، انتمي أحدهما لعصر ما قبل "القطيعة"، حيث كانت لغة الأول في كثير من جوانبها تقترب من اللغة المحكية بتراكيبها وهجنتها. وهو أمر يحتاج إلي دراسة حقيقية.
كل هذه الإجراءات بدت وكأنها إجراءات احترازية، لا تبدع شيئا وإنما تزعم العودة إلي أصل نقي بحذف كل ما ترسب في الثقافة من عناصر التنوع والغني، والأهم من عناصر التطوير الذاتي.
إن إجراءات الحذف هذه قامت بها النخب المتعلمة في إطار الدولة أو في إطار مشروعها علي الأقل، ذلك المشروع الذي كان بدوره يمثل قطيعة نسبية مع دولة شبه إقطاعية إلي دولة توشك أن تكون "قومية"، أو علي الأقل مطالبة بالحد الأدني من مظاهر "القومية" في إطار العلاقة مع منطق العالم الجديد.
احتاجت هذه الدولة إلي نوع من عقلنة الإدارة بدرجة أو بأخري، لفرض سيطرتها علي بقعة محددة من الأرض صارت "وطنا"*
في الإسكندرية (مدينتي) وحتي سنوات قليلة مضت كان المسافر إلي القاهرة يقول (أنا مسافر مصر..)، ولم يكن هذا أثرا من آثار المركزية فحسب، بل من آثار الخيال الجيوسياسي السابق علي "الدولة القومية" برأيي الذي يري مساحة وحدود الدولة مشخصنة في ولاتها ومن ثم في موقع عاصمتهم.
الهُجْنة:
نشأت الدولة "القومية" إذن بحالة هجين: امتداد نسبي ومتفاوت للوعي الجيوسياسي بحدود الوطن (وهو وعي لم يكن حاسما أبدا) مع زيادة الإحساس بتمركز السلطة وتحولها إلي وجود رمزي للوطن ككل: فمصر هي: القاهرة.
هذه القائمة بالاختزالات المتتابعة كما قلت احتاجت إلي لغة موحدة "منضبطة" ولكن ليس في ضوء الافادة بما استقرت عليه اللغة في الخطاب اليومي، بل في إطار فكرة "استعادة الهوية" وبالعودة إلي أصل لغوي.
هكذا أعيد في المناهج الدراسية إحياء كتب النحو واللغة، خاصة تلك التي تعد مجرد نقل موسوعي لخلاصات سابقة كمؤلفات ابن هشام والسيوطي وغيرهما. بل إن قاموسا موسوعيا مثل لسان العرب يجمع بين دفتيه كل المعاني الخاصة بالمفردة دون تحديد تاريخية أو جغرافية هذه الاستخدامات، وكأن اللغة فقاعة في الهواء لا تاريخ لها ولا مكان، والإشارات المكانية إن وجدت تعود إلي ما يسمي بعصر الاستشهاد الذي تحدد بمائة وخمسين عاما منذ ظهور الإسلام.
ارتبط هذا التوحيد والاختزال بحالة انضباط شبه عقلاني وموضوعي يضاهي موضوعية جهاز دولة حديثة. لكنه في نفس الوقت يحتفظ بإشكالات الحداثة المنقوصة أو المهجنة لهذه الدولة، إذ صار للثقافة طابع رمزي جاهز مبالغ فيه. ولم يعد "الإسلام" مثلا ثقافة وضميرا عاما، وإنما أيديولوجية سياسية ورمزا مطلوبا الحفاظ عليه "نقيا" من شوائب التاريخ.
وبالعودة إلي الفقرة المجتزأة من كتاب الشيخ علي محفوظ "الإبداع في مضار الابتداع" في بداية هذا المقال، يظهر جزء من الوازع الذي قاد الشيخ وغيره إلي نبذ البدع. فهي تتردد بين إحياء رمزي للهوية، وبين السعي إلي نوع من الانضباط والتوحيد في الخطاب.
ولعل الشاهد المذكور يخرج عن إطار الكتاب منهجيا، فلا علاقة بين إساءة تفسير اضطراب الحاجب أو غيره بالدين (علي الأقل بطريقة مباشرة)، ولا يمكن اعتبارها من ثم بدعة مستحدثة قياسا علي أصل، حتي إن الشيخ يتكفل بتصحيح البدعة، دون استناد إلي حديث أو قول صحابي، بل إلي "فتوي" طبية تبرز هي نفسها حدود علمه بالطب، لكنها تكشف أيضا عن محاولة عقلنة السلوك اليومي للمجتمع.
غير أن ثقافة الشيخ (أو رأسماله الثقافي) لم يكن ليسعفه بالتصويب العقلاني في معظم الأحوال إلا استنادا إلي الأصل، مرتدا إلي عادته في سائر الكتاب.. والطريف أنه اعتبر اتباع هذا الأصل الديني هو "العقلنة" بذاتها. بمعني ان عودته إلي الأصل تنبع أساسا من محاولة عقلنة الواقع، ليس بالرجوع إلي العقل ذاته، وإنما إلي مصدر "موحد" للخطاب.
لعبة الرمز:
كل مظاهر الثقافة تقريبا استخدمت آلية النفي والاختزال. لكنها بدلاً من أن تبحث عن توحيد الخطاب وموضوعيته استنادا إلي العقل بمعناه التاريخي، كانت تعمل علي توحيد الخطاب من خلال الترميز الفوري. وغالبا ما اقترن بكلمة "العهد الجديد".
وهناك مثالان علي الأقل من الفترة الناصرية يمكن رؤيتهما بوضوح، الأول كان محاولة محو صورة الملك فاروق من الأفلام المنتجة قبل ثورة يوليو، والثاني أعمق دلالة. هذا المثال الثاني هو أغنية غير مشهورة بدرجة كافية كانت علي هيئة ديالوج يجمع بين صباح وفؤاد المهندس يشبه أغنيتهما الشهيرة "الراجل ده ح يجنني" ولكن هذه المرة ليس بسبب الافراط في طلب الطعام في رمضان، ولكن بسبب إصراره علي ارتداء "الجلابية" التي رأتها صباح "الزوجة" غير ملائمة لشخص مدني متعلم من "العهد الجديد". ومن المفارقات أن يدور الزمن بالطبقة المتوسطة نصيرة البدلة والفستان حتي نراها تدافع بقوة عن عودة الجلباب والحجاب في أقل من نصف قرن.
حتي الجفا محروم منه:
في أوبريت "العشرة الطيبة" لسيد درويش ديالوج ذائع الصيت يبدأ بجملة "علي قد الليل ما يطول". أعادت الإذاعة المصرية انتاج الأوبريت في الخمسينيات بأصوات مطربين آخرين، لكنها أبدلت بعض كلمات الأوبريت. مثلا: تحولت عبارة "شفتي بتاكلني أنا في عرضك/ خليها تسلم علي خدك" إلي "مهجتي في إيديكي أنا في عرضك/ خليها يا روحي أمانة عندك". وبغض النظر عن سخافة المبادلة وتهافتها، إذ أحلت مكان البراءة والحسية وخفة الظل في ديالوج بين حبيبين ريفيين بسيطين، لغة استعارية مجردة تتحدث عن عواطف مستبطنة وغير مرئية، أقول بغض النظر عن هذه السخافة، فقد كانت تمثل مزاجا عاما لأنتليجنسيا كانت حتي في قيمها الأخلاقية والجمالية تعتمد علي نوع من الاختزال والتجرد (مش احنا اللي نقول كذا.. مش احنا اللي نعمل كده..).
وبقدر "مادية" أو "موضوعية" الإدارة الدولتية وبراجماتيتها، نشأت ثقافة رافضة للحسية ومعتبرة إياها ابتذالا. وبدلا من أغاني بديع خيري بكل ارتكازها علي الملموس والصريح، جاءت لغة أحمد رامي التي شكلت إطارا مرجعيا وتقليدا عاما لما ينبغي أن يكون عليه التعبير الجمالي من "سنتمنتالية" بلغت أحيانا حد الاستحالة السخيفة كما في أغنية "سهران لوحدي" حيث يقول "ياللي رضاك اوهام/ والسهد فيك أحلام/ حتي الجفا محروم منه/ يا ريتها دامت أيام). واشتملت فكرة الحب ذاتها علي قدر من هذه السنتمنتالية بدت واضحة في أفلام الخمسينات والستينات حيث كانت نماذج مثل فاتن حمامة تمثل قمة العداء للجسدانية في صورة الطهارة والمشاعر المغفلة والخيال الموجه إلي لا أحد.
كان ذلك واضحا بصورة أكبر تدعو إلي السخرية في الأفلام الدينية التي تناولت حدث هجرة الرسول، أو معاناة المسلمين الأوائل. فمشاهد التهام قطعة اللحم بنهم، والملابس الملونة، والنساء شبه العرايا ارتبط بالكفار، بينما مثل المؤمنون كتلة من البياض الناظر إلي السماء كأنه لا يخاطبك إلا عبر سحابة تظللكما معا. كانت هذه السحابة هي حالة الترميز غير المسنود علي أي واقع تاريخي، أو أي اعتبار إنساني فعلي، وكان من السهل أن تصبح "السحابة الرمزية" موضع تنازع بين أطراف النخب السياسية والثقافية والدينية، بل إنها صارت الوسيط الوهمي الضروري لكل تنازع علي القيم داخل الحوار اليومي بين الناس بعضهم وبعض.
أنت ما تمثله فعلا:
لاشك أن هذه الرموز كانت بقدر أو بآخر تخلق واقعا اجتماعيا وسياسيا جديدا، فما "تمثله" يصبح أنت فعلا بطريقة أو بأخري، أي أنه يجعلك تتورط برموزك داخل واقع تاريخي فعلي.
فكما أوجد خيال "البطولة" ثورة حقيقية في الشارع، أو خيال "العودة إلي أصل" تيارا فعليا من الاسلام السياسي. لكن كليهما يمثل أزمة، ولا يقدم حلا مستقبليا حقيقيا، كلاهما له "أصل" مطلق وطهراني لا علاقة له بالواقع بل يري الأخير كحالة دائمة من التلوث.
هنا يقود الرمز، بعدم مرونته وبمصدره المتجاوز للتاريخ، حياتك ولكنه يحجبها عنك في الآن نفسه. كما أنه يوجد مجتمعا غريبا كأنه كله مجتمع من الشعراء أو المجاذيب.
وربما يفسر هذا شخصيات نجيب محفوظ الشاطحة خاصة في رواياته التي أعقبت المرحلة الواقعية، حيث بدوا كأنهم ساقطون من الجنة طوال الوقت مثل بطل "قلب الليل" دون أن يدركوا سر السقوط المتكرر. مثاليون يتحولون فجأة إلي مجرمين. وفي رواية الشحاذ يقول الصحفي لصديقه المحامي المريض بالبحث عن الكمال/ اللذة/ الله، إن مشكلتهم أن قطار العلم قد فاتهم، فتعلقوا بقطار الشعر، وهذا صحيح بدرجة مرعبة، ليس فقط علي المستوي الأدبي بل السياسي والاجتماعي. لقد أصبحت اللغة نفسها مريضة بصورة يصعب شفاؤها إلي حد بعيد.
هامش
علي أي شيء تتأسس هذه الدولة الحديثة المسماة: القومية. ربما كان ما يميز هذه الدولة بشكل حاسم لا لبس فيه هو حدودها الجيوسياسية. هذه الحدود الواضحة التي تؤطر بشكل خارجي وشبه موضوعي حياة المواطنين داخلها، لدرجة أنها تمثل نوعا من "القَدَر" القبلي. تطور فكرة الدولة القومية التي آلت إلي تسييجها بهذه الكيفية جلب معه تطورا آخر موازيا وناتجا في نفس الوقت عن منطق الحدود الجيوسياسي، إنه اعتبار "الوطن" شيئا سابقا علي الفرد ومنفصلا عنه وهو الضمانة الموضوعية لكلمة "مواطن".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.