أعادت مكتبة الأسرة في الأسابيع الماضية طبع كتابين من كتب الدكتور شكري عياد، وهما سيرته الذاتية «العيش علي الحافة» ورسالته للماجستير «من وصف القرآن يوم الدين والحساب» وشكري عياد (1921 – 1999). لم تكن همومه الثقافية تقتصر علي نقد النصوص الأدبية، ولكنه كان صاحب مشروع حضاري عن الوضع الإنساني في حياتنا المعاصرة، فيه من حنكة الوعي قدر ما فيه من القدرة الفنية. وكان يملك من الشجاعة ما يجعله قادرا علي التعبير بلا تحفظ عن أفكاره في مناخ لا يسمح بها، وعلي الكتابة عن أدباء شباب لا يعرفهم أحد، أو أباء غابوا بالاعتقال، وراء الجدران، وأن يترجم من الآداب العالمية الأدب الروسي الذي كان النظام في مصر، في كل عهوده، يربط بينه وبين الشيوعية المحرمة، ويداهم المكتبات لمصادرة ما فيها من كتب روسية، حتي ما ألف منها في القرن التاسع عشر، في روسيا القيصرية، قبل ثورة 1917 وبذلك كان شكري عياد منخرطا بالفطرة في السياسة، وإن لم يحترف العمل السياسي، تجنبا لوجع الدماغ في أحسن الظروف، بسبب غياب القانون، دون أن يفرط في إيمانه الوطيد بالحرية والثورة والتجديد، بصفتها الأقانيم التي يعيش الإنسان من أجلها علي الأرض، في دولة مدنية حديثة، تقوم علي المواطنة، واحترام تعدد الآراء. بفضل هذا المفهوم كون شكري عياد مع محمود عبدالمنعم مراد ومحمود الشنيطي جماعة أصدقاء الأدب الروسي. ولكن اهتمامه لم يقتصر علي الأدب الروسي الذي يعتبر من الآداب الإنسانية الخالدة، وإنما اهتم أيضا بالأدب الهندي، وله كتاب جميل عن «طاغور شاعر الحب والسلام»، صدر في المكتبة الثقافية في 1960، غير ترجمته المرهفة لرواية طاغور «البيت والعالم»، ومقالاته العديدة التي كتبها عن نظريته في النقد. ويتناثر في كتابات شكري عياد الكثير من الأفكار التي يتألق بها التراث الإنساني، معبرة عن روح العالم، وعن الهويات الثقافية، وهي أفكار تثقف بها أكثر من جيل من القراء والمثقفين، وفي مقدمتهم من تلقوا عليه العلم والمعرفة في الجامعة وغيرها. نذكر من هذه الأفكار رؤيته الدقيقة للحضارة الإسلامية التي تخلو من أي سلطة دينية، ولا تفرق بين طوائف المجتمع. ومنها تأكيده علي تعاظم الوعي الجمعي في الملاحم، وإيمانه الوطيد بأن التفسير المادي للتاريخ ليس حكرا علي الفلسفات المادية، لأن المذاهب المثالية لا تنكر أثر الظروف المادية في الحركة والتطور وهناك أيضا الصلة الوثيقة بين الوعي الفني والموقف الاجتماعي، وما تنطوي عليه الكتابة الفكاهية والساخرة من روح شعرية وفلسفة. ومن هذه الأفكار أيضا ما يراه شكري عياد من عدم استطاعة المبدعين تجديد ثقافتهم القومية والإضافة إليها إلا بعد دراسة إنتاج من سبقهم، لا تجاهله أو نسخه. ولا معدي لهم عن إتقان لغة أجنبية واحدة علي الأقل، يقرأون بها التراث الإنساني. ولكن علي هؤلاء المبدعين أن ينتهوا من هذه الدراسة للسلف والأجنبي، وأن يختلفوا عنها بكيانهم الخاص، لأن هذا الكيان الجديد هو القيمة المتميزة، وشاهد الأصالة والإبداع الذي لا يحتذي أي مثال أو نموذج، مهما كانت المبادئ الفنية والفكرية المتوارثة والوافدة راسخة في الضمائر، وممتدة في الحاضر. وبهذا الاختلاف يصبح الإبداع الجديد نقدا لما سبقه، أو مجرد تعليق علي الآثار الماضية. ويلتقي مع هذا الموقف من بعيد ما كان شكري عياد يقوله لطلابه في الجامعة، في أولي محاضراته، من أنه لم يأت إليهم ليعلمهم شيئا يضيفونه إلي معارفهم، بل جاء لكي ينسيهم ما تعلموه، حتي يبدأوا، ويبدأ هو معهم، المعرفة الجديدة علي غير منوال سابق، بلا حواجز، وبلا حدود. وعلي هذا النحو يتوفر لطلاب العلم الحافز للفعل الذي يدفع إليه ما يفتقده المرء ويبحث عنه، لا ما يمتلكه، ويكتفي به. وفي رأي شكري عياد أن الثقافة لا تتكامل، وتصبح جديرة برسالتها، إلا بهذا الاختلاف، سواء كان في أدب الفصحي أو في الأدب الشعبي، لأن الاختلاف داخل كل منهما، بين الماضي والحاضر، يثري بطبيعته الخاصة التجارب الحديثة، مثلما يثري النوع الآخر. وعلي من يريد تقليد كاتب أو شاعر قديم، عاش في الأزمنة الماضية، أن يشد إليه الرحال. ومع أن شكري عياد لم يكن شكلانيا، أو من دعاة الفن للفن، فقد كان أسلوب ومناهج المؤلفين في الفن أهم لديه من الموضوعات المطروقة في جميع الثقافات، لأنها هي التي تحدد المضمون. أما الذاتية عنده فهي التي تنبع من الواقع، وتحتكم إلي العقل، لا التي تتغرب عن هذا الواقع، وتتخلي عن العقل. وهذا الأسلوب أو المنهج هو الذي يتعين علي الناقد أن يتناوله ويفسره، لأنه المعبر عن التكوين والاتجاه والدلالة، علي نحو ما تعبر هياكل وآليات أي تنظيم عن تكوينه وفكره ومحتواه. وليس هناك فرق في نظره، في التعامل مع النص، بين القارئ والكاتب، أو بين القارئ والناقد، لأن القارئ – علي حد ما جاء في مقدمة مجموعته القصصية «ميلاد جديد» – هو الذي يؤلف أو يعيد تأليف ما يقرأه، خاصة إذا كان الكاتب والناقد والقارئ في محيط واحد، أو علي موجة واحدة. وكل قراءة لعمل فني اختبار لهذا العمل، واختبار لمن يقرأه. وتختلف الحقيقة العلمية بأنها بنت التفكير الموضوعي، فإذا وضعت لها القواعد المطلقة كتبت نعيها بنفسها، وقدمت الدليل علي الجهل. ويبدو أن شكري عياد كان يريد أن يتحدي بالفن، ومعه حق، قانون الضرورة، ويثبت بالخلق عكس القاعدة، أو كان يدرك أنه بوسع الفنان المطبوع أن يضع خمرا جديدة في آنية قديمة، رغم ما يتردد في نقده وفي النقد الأدبي بعامة، من أن لكل عصر ذوقه ودروبه وشروطه التي لا يمكن نزعها عن سياقها الزمني والمكاني، وهي قضية نقدية خاصة بارتباط الشكل بالمضمون، وبأن المادة الجديدة لا تتشكل إلا في القالب الجديد. ولأن احتفاء شكري عياد باللغة اللعربية والبلاغة العربية يصدران عن مقولة أن الأسلوب هو الرجل أو هو الإنسان، فقد كان في نقده وإبداعه ضد الصنعة والتكلف والاستعراض اللغوي الذي يقصد لذاته. كما أنه كان أيضا ضد بدع الثقافة الغربية، لا ضد لغات الآخرين، أو ضد تجليات الفكر في العالم لأننا كأمة عربية جزء من هذا العالم، وفهم الغرب وثقافته يساعدنا بلا شك علي فهم تراثنا الحي، وإثراء ثقافتنا القومية. ويعد شكري عياد من أكثر النقاد الذين رفضوا البنيوية، في الوقت الذي كان النقد العربي كله في مصر ولبنان وتونس وغيرها يهلل لها، ويقدم القرابين علي محرابها، من غير علم كاف بها، يساعد علي كشف أعماق النصوص، علي كثرة الكتب المؤلفة والمترجمة لأقطابها، التي اتسمت بالركاكة. ويرفع من قيمة هذا الرفض أنه يأتي من شكري عياد، بعد اطلاع واسع علي أصول وروافد هذه المدرسة الشكلية التي يصعب علي من استوي قبل ظهورها – مثل شكري عياد – أن يحيط بها بهذا القدر، وأن يضع يده علي نقط الضعف فيها التي تتمثل في التناقض بين مفهومها للأدب كنظام آلي ثابت، وبين حقيقة هذا الأدب كتعبير عن حالات نفسية للإنسان في هذا العصر. وكان شكري عياد يملك من الشجاعة ما يجعله يعلن موقفه منها، ومن دعاتها في أوروبا وأمريكا، دون أن ينكر أن هذه البنيوية وجه من وجوه الحداثة، وأن بعض ما كتب عنها من نقد من معالم النقد الأدبي المعاصر. ونقد شكري عياد للنصوص العربية والأجنبية لا يلتزم التزاما حرفيا بالفكر الجدلي الصارم، الذي يربط الإبداع بالبيئة، لإيمانه بأن في كل إبداع عنصرا أو جوهرا إنسانيا يتجاوز كل الحسابات والمعايير النقدية. وهذا العنصر أو الجوهر الذي قد يعجز النقد عن إدراكه، هو الذي يضفي علي العمل الفني سحره الأخاذ بقوة الفن، لا بقوة الأيديولوجيا والعلم والمنطق. وإدراك هذا البعد المعرفي والجمالي لا يكون إلا بالذوق المدرب الذي يقوم علي العقل والوجدان. وللمحافظة علي ملكة الذوق هذه ابتعد شكري عياد عن المعارك الثقافية التي تستنفد الطاقة، ولا تثير إلا الغبار وفضّل الوحدة أو العزلة علي الصحبة العريضة، حتي يصون نفسه من الضجيج والتشتت، ويتاح له أن يتأمل ذاته وأزماته وهمومه التي عاني منها، وكان أفدحها في سنواته الأخيرة، امتناع السلطة أو النظام البائد في تسعينيات القرن الماضي عن منح هذا المعلم الكبير، صاحب الكبرياء الرفيع والجهاد المشرف، رخصة لإصدار مجلة ثقافية أطلق عليها «نداء»، كانت أمل المثقفين من كل التيارات، بعد أن أصدر منها ثلاثة أعداد تجريبية، لا تجد فيها الرقابة علي المطبوعات ما تعترض عليه، رغم حقها في أن تكون وتكتب بلا حيطة. ويذكر شكري عياد في أحد الأحاديث الصحفية التي أجريت معه في هذه المرحلة أن شعوره بالوحدة، بسبب موقف السلطة منه، لا يفارقه إلا وهو في صحبة أصدقائه الخلصاء، الذين يخففون عنه هذا الشعور المؤلم. وهذه الصحبة التي وقفت بجانبه في محنة مجلة «نداء» يعرفها كل من عرف شكري عياد عن قرب، وكل من قرأ نقده وأدبه. فهل يتآزر الذين وقفوا بجوار شكري عياد قبل رحيله لإصدار «نداء»، وتقدم لهم الدولة العون، إحياء لذكري هذا المعلم الكبير الذي يعد من أهم رموز الثقافة المصرية الحديثة؟!