بتكلفة 9.5 مليون جنيه.. افتتاح الجامع الشرقي بقرية العامرة بمنوف    لموظفي الحكومة ..إجازة خاصة بأجر كامل فى 5 حالات    ننشر تفاصيل نجاح "مشروع رأس المال الدائم" في مدارس التعليم الفني بمصر    تحرك برلماني لإجبار أصحاب المخابز على خفض أسعار الخبز السياحي    وزير المالية: مصر تتحرك لبناء نظام قوي للتأمين الصحي الشامل    باستثمارات 800 مليون دولار..اقتصادية قناة السويس تشارك بمؤتمر التعاون بين مصر والصين    5.7 تريليون جنيه حجم توظيفات الحكومة فى الأوراق المالية    وزير خارجية إسبانيا يؤيد انضمام فلسطين إلى الأمم المتحدة ويدافع عن الاعتراف بها    بلينكن: مجموعة السبع ستتبنى حزمة عقوبات أخرى ضد إيران    CNN : إسرائيل ستحتاج لدعم من الحلفاء للدخول بحرب شاملة    فتح ممر إنساني نهاية إبريل.. إعلام عبري: عملية رفح محسومة والسؤال عن توقيتها    قبل مواجهة مازيمبي.. الرباط الصليبي يهدد أحلام الأهلي في الصفقة المنتظرة    استمرار غياب رونالدو.. جدول مواعيد مباريات اليوم الجمعة والقنوات الناقلة    مصطفي يونس: إخفاء الكرات ليست سببا في هزيمة الأهلي من الزمالك    روديجر: رسالة بيريز سبب انتقالي لريال مدريد    شخص يعتدي على آخر بالضرب حتى الموت بالدقهلية    إدارة الخارجة التعليمية تنهي استعداداتها لامتحانات نهاية العام الدراسي    القبض على مسلح أثناء التنقيب عن الآثار داخل عقار في الوايلي    الحكومة تنفي عودة العمل بنظام "أون لاين" للموظفين يوم الأحد من كل أسبوع    ضبط عاطل وراء سرقة مبلغ مالي من إحدى الصيدليات بالقليوبية    نشر خدمات مرورية بمدينة نصر ومحور شنزو آبي لتوصيل الصرف الصحي    بني سويف.. حملة تفتيش لمتابعة توافر السلع والالتزام بتخفيض الأسعار بالمطاعم والمخابز    هتوحشنا ياخال.. أحمد السقا ينعي الفنان صلاح السعدني    إيرادات السينما أمس.. شقو في المقدمة وأسود ملون يتذيل القائمة    المسرح وأهدافه ضمن نقاشات قصور الثقافة بالأقصر    إبراهيم السمان: تحمست لدور محسن فى مسلسل حق عرب بسبب السيناريو    خطيب الأوقاف يؤكد: الصدق صفة المتقين وطريق الفائزين.. والأيمانات الكاذبة للباعة لترويج السلعة تمحق البركة.. فيديو    لماذا خلق الله الخلق؟.. خطيب المسجد الحرام: ليس ليتعزز بهم من ذلة    فضل الصلاة على النبي يوم الجمعة.. أفصل الصيغ لها    حياه كريمه.. قافلة طبية مجانية بقرية صنعاء بالوادي الجديد    الصحة: فحص 432 ألف طفل حديث الولادة ضمن الكشف المبكر عن الأمراض الوراثية    ليفركوزن يخطط لمواصلة سلسلته الاستثنائية    رئيس جامعة القاهرة: تخصص الصيدلة وعلم الأدوية تقدم ل 64 عالميًا بالتصنيفات الدولية    ضبط عاطلين بتهمة الاتجار في المواد المخدرة بالإسكندرية    بولندا تعلن إقلاع مقاتلات لتأمين مجالها الجوى خلال هجوم روسى على أوكرانيا    وزير الإسكان: صندوق الإسكان الاجتماعي نفذ أكثر من 900 حملة ضمن منظومة الضبطية القضائية    "الانتداب البريطاني انتهى".. رسائل نارية من محمود عاشور لبيريرا    بمشاركة وزير الشباب.. الجامعة البريطانية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي يطلقان أكبر ماراثون رياضي    توريد 799 طن قمح لصوامع وشون القليوبية وحصاد 15 ألف فدان    أعراض التهاب الجيوب الأنفية على العيون.. تعرف عليها    مصر تجدد قلقها تجاه التصعيد الإيراني الإسرائيلى وتحذر من عواقبه    تعرف على موعد إجازة شم النسيم 2024 وعدد الإجازات المتبقية للمدارس في إبريل ومايو    "الزمالك مش أول مرة يكسب الأهلي".. إبراهيم سعيد يهاجم عمرو الجنايني    مخرج «العتاولة» عن مصطفي أبوسريع :«كوميديان مهم والناس بتغني المال الحلال من أول رمضان»    طلب إحاطة لوزير الصحة بشأن استمرار نقص أدوية الأمراض المزمنة ولبن الأطفال    وزير المالية يعرض بيان الموازنة العامة الجديدة لعام 2024 /2025 أمام «النواب» الإثنين المقبل    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 19 أبريل 2024.. «الدلو» يشعر بصحة جيدة وخسائر مادية تنتظر «السرطان»    «التوعوية بأهمية تقنيات الذكاء الاصطناعي لذوي الهمم».. أبرز توصيات مؤتمر "تربية قناة السويس"    حرب السودان.. كلفة اقتصادية هائلة ومعاناة مستمرة    خريطة إعلامية تعزز المهنية والمصداقية    «العشرية الإصلاحية» وثوابت الدولة المصرية    أخبار الأهلي : موقف مفاجئ من كولر مع موديست قبل مباراة الأهلي ومازيمبي    والد شاب يعاني من ضمور عضلات يناشد وزير الصحة علاج نجله (فيديو)    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    السفير نبيل فهمي: مصر ركيزة أساسية لأمريكا وأوروبا في ظل اشتعال الصراع بالمنطقة    دعاء الضيق: بوابة الصبر والأمل في أوقات الاختناق    نبيل فهمي يكشف كيف تتعامل مصر مع دول الجوار    فيتو أمريكي يُفسد قرارًا بمنح فلسطين عضوية كاملة في الأمم المتحدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العربية والعبرية فقط ما تبقي من اللغات القديمة جميعا.. أثبتتا صموداً نادراً لاعتمادهما علي علاقة كل منهما بكتابها المقدس
لغة مقدسة وناس عاديون
نشر في أخبار الأدب يوم 21 - 04 - 2012

هناك ارتباط لا يزال قائما بين الفصحي ومعني "اللغة الرسمية" فلا نتخيل أن الرئيس المخلوع كان سيتكلم العامية في زهو قوته كما فعل في مراحل انهياره؛ أذكركم ب "خليهم يتسلّوا". ولا يمكننا كذلك أن نتخيل عادل إمام يتكلم بالفصحي.
من حيث المبدأ يستطيع المتابع أن يعمّم أن الحوار المعاصر حول "الازدواجية اللغوية" كان ولا يزال نقطة التقاء وافتراق للاتجاهات الفكرية والأكاديمية السائدة أو حتي المهمشة في سياق النقاش الثقافي المعاصر. لكن تلك النقطة طالما توارت خلف شعارات سياسية وأيديولوجية حوّلت مجري النقاش من اللغة إلي السياسة، وحالت دون التوصل إلي أي إجابات جذرية بخصوص بحثنا اللغوي. فكان أن تكون لدينا فريقان؛ أحدهما كبير يتمتع بالسلطة الدينية والاجتماعية والآخر محدود الصوت لكن لبعض عناصره ثقل ثقافي يحميه من الزوال. انشغل الفريق الأول بتوصيف الفريق الثاني بأنهم مغتربون يسعون لإحلال العامية محل الفصحي تنفيذا لمؤامرة الاستعمار، وانشغل الفريق الثاني بتوصيف الأول بأنهم رجعيون ويربطون الثقافة بحبل التخلف. وانتهي الأمر بهؤلاء وأولئك إلي صياغة مؤتمر هنا أو ندوة هناك بعناوين مثل "أزمة اللغة العربية"، أو "الصراع بين الفصحي والعامية" أو غيرها من التوصيفات التي لا تعكس تصالحنا مع واقعنا اللغوي ومحاولتنا أن نفهمه دون أن تكون الأيديولوجيا هي العنصر السائد في النقاش. فلا نحن استطعنا أن نتخفف قليلا من الضوابط الأيديولوجية علي خطابنا، ولا تمكنّا حتي من التوصل إلي صياغات ذات معني يذكر في الخليط اللغوي الغني والمركب الذي نعيشه.
اللغة والبحث العلمي
غير أنه من ناحية أخري جرت مياه كثيرة في نهر البحث اللغوي في العالم، وطالت دون شك ما يجدّ علي اللغة العربية من ظواهر وطوارئ وتداخلات انكبّ عليها باحثون عرب وأجانب في جامعات متفرقة من أنحاء العالم، حاولت تلك التجارب أن تصطنع طريقة تربط البحث اللغوي العربي بالبحث اللغوي عموما، ساعية في الوقت نفسه إلي إدراك خصوصية اللغة العربية من حيث إنها - ضمن لغات قليلة جدا في العالم استطاعت أن تحافظ علي شكلها القياسي مع السنوات، ولم تقم كما قامت ثقافات أخري بإحلال اللغات المحلية بقرار واع محل اللغة القياسية الأقدم كما هو الحال في اللغات الأوروبية المتفرعة عن اللاتينية مثلا. وهو السؤال الأساسي للكتاب القيم "لغة مقدسة وناس عاديون" الذي ألّفته "نيلوفر حائري" أستاذة اللغويات والإنثربولوجيا إيرانية الأصل تعيش وتدرّس في الولايات المتحدة، وترجمته إلي اللغة العربية ترجمة لم يكن لينهض بها متخصص دقيق علي هذا الوجه الأكمل كما فعلت إلهام عيداروس وهكذا هي عادتها فيما تترجم، وحظيت الترجمة الشفّافة بمراجعة أستاذة كبيرة من الذين عبّدوا الطريق أمام الدراسة العلمية للغة العربية هي الدكتورة "مديحة دوس".
ليست "حائري" أول من أفتي بهذا الموضوع، كما أنها ليست منتهاه أيضا، ولكنها تضع يدها علي مكمن الداء الحقيقي في تناول اللغة العربية، وتشتبك اشتباكا أكاديميا مبهراً مع آراء عربية واستعرابية لا تزال تعتبر بيننا من قبيل "اللحن" و"التحريف" و"الصراع".
لقد أثبت البحث اللغوي أن اللغة العربية ليست فقط النهرين الكبيرين "فصحي" و"عامية" وإنما هي مستويات خمسة كما تقضي نظرية السعيد بدوي التي وضعها في بداية السبعينات. ثم أثبت البحث اللغوي أن ما يسمي "العربية الفصحي" لم تكن أبدا لغة مستخدمة في الحوار بين العرب داخل أقطارهم أو خارجها، ثم أثبت أن الطريقة التي نكتسب بها اللغة في مجتمعنا هي أننا نبدأ بتعلم العامية كلغة أمهاتنا في بيوتنا ثم ننتقل إلي "التعليم" فنبدأ في تعلم اللغة القياسية التي هي في الحقيقة لغتان "الكلاسيكية" و"المعاصرة"، واجتهد البحث اللغوي أن يفرق بين هذين المستويين، ثم بينهما من طرف وثلاثة مستويات أخري "للعامية المصرية" من طرف آخر، وكيف تُشكل هذه المستويات جميعا طبقات متراتبة من التفاهم والإبداع وهما شأن اللغات كلها. لكن البحث اللغوي عاد من رحلته في الفصل بين هذه المستويات ليؤكد لنا أن ذلك مستحيل حتي في عملية التدريس للأجانب، وأن اللغة التي نعيشها الآن هي خليط من روافد ثلاثة هي الكلاسيكية والمعاصرة والعامية تتمازج علي مستوي المفردات من ناحية، ومستوي البنية اللغوية التحتية الخاصة بالقواعد والأساليب من ناحية أخري، وبالتالي أصبحت اللغة العربية تدرّس الآن في كبريات الجامعات المنشغلة بهذا الأمر مثل جامعة تكساس علي أنها "اللغة العربية"، وعلي الطالب والمدرس والباحث أن يجتهدوا بكل السبل للتوصل إلي المرجع الذي يقف وراء كل مفردة وتعبير وتيمة قاعدية وسمة أسلوبية من بحر تاريخ اللغة العربية وجغرافيتها الواسعين، وعلي كل منهم أن يحاول في الوقت نفسه إدراك التمايزات داخل مزيجه الخاص الذي ينتجه أو يتلقاه، وأن يعمل علي اكتشاف طرق تطويع ذلك المزيج في الاستخدام.
لقد تعرّض كتاب "حائري" للأسئلة الهامة في علاقة اللغة العربية بالحداثة في مصر حتي نهاية عملها علي البحث في عام 1996، وربما جدّ ما جدّ علي البحث اللغوي منذ ذلك الحين نظراً لمتغيرين شديدي التأثير استجدّا علي المجتمع اللغوي نفسه منذ حينها وهما:
- تسارع وتيرة الفضاء التليفزيوني الناطق بالفصحي (المعاصرة وأحيانا الكلاسيكية) سواء في القنوات الإخبارية العديدة، إلي قنوات الأطفال، إلي القنوات الدينية والتي أضافت رصيداً هائلاً زاد من نسبة استخدام الفصحي الشفوية علي غير المعتاد منذ النهضة العربية.
- تسارع وتيرة الكتابة بالعامية سواء علي الوب بدءاً من المدونات ووصولاً إلي شبكات التواصل الإجتماعي، أم النشر الورقي في الصحف والكتب التي حظيت بانتشار لم يتحقق لكثير من الكتب المكتوبة بالفصحي، ليس فقط بين أفراد النخبة وإنما في جماعات أوسع نطاقاً ربما يعزي إليها إحداث "الربيع العربي".
رغم ذلك يظل التحليل الذي تقدمه "حائري" صامدا للإجابة علي سؤاله الأساسي حول "الازدواجية اللغوية" حتي حينه، إذ هي تشير إلي أن تلك الازدواجية متغلغلة في عقل منتج اللغة بحيث إننا عندما نتكلم عن الفصحي نعني بها لغة مقدسة، وحين نمارسها لا نعبأ بتلك القداسة، وحين نتكلم عن العامية فإننا نتخيل عدواً مخيفاً للغتنا "الجميلة"، وحين نمارسها فإننا لا نعبأ أبدا بتلك العداوة، والمطلوب فقط هو تطبيع العلاقات الأربعة هذه.
حقائق بشأن "اللغة والحداثة"
يقوم السؤال الأساسي للكتاب علي فرضية أن الحداثة العربية اتخذت قراراً بوضع الثقافة المعاصرة في قالب اللغة الكلاسيكية وهي تتساءل كيف يمكن "تحديث" لغة مقدسة؟ وتشير إلي "دو سوسيير" عالم اللغة السويسري الشهير الذي بدأ دراسة اللغة "الحديثة"، وكان الإنجاز الأهم للرجل هو إنكار أي علاقة منطقية بين الدال والمدلول مؤكدا علي أن العلاقة بين "الكرسي" وأي من الكلمات التي تدل عليه في أية لغة إنما أصلها الاعتباط، وليس في ذلك شيء مقدس. المدهش أن أساتذة اللغة أصلا لهذه الصياغة النظرية كان الواقع اللغوي فيما حوله قد صدّقها من قبل ذلك بوقت طويل. حيث إن "دو سوسيير" لم يُنزل اللغة من مرتبة القداسة "التي يرتبط فيها الشكل بالمعني حُكما" إلي الحداثة التي فيها "يرتبط الشكل بالمعني اعتباطا" إلا عندما كان الكتاب المقدس قد تُرجم بالفعل إلي كافة اللغات الأوروبية الحديثة.
الوجه الآخر لعملة "اللغة الحديثة" غير نظرية "دوسوسيير" هو تقرير "بندكت أندرسون" بأن "اللغة الحديثة هي تلك التي طوّرت شكلا قياسيا للكتابة" وربما هي تفعل ذلك حين "تنتمي إلي الدولة"، فتصبح "لغة رسمية لوطن ما"، مثلما حدث مرة أخري - في تحول المجتمعات الأوروبية إلي اللغات المحلية علي حساب اللاتينية.
من ناحية أخري فإن الحقيقة الكبري في تاريخ اللغات هي أن اللغتين العربية والعبرية هما فقط ما تبقي من اللغات القديمة جميعا. ورغم اختلاف الحال بينهما إلا أن الباحثين يرون أن هاتين اللغتين أثبتتا صموداً نادراً لاعتمادهما علي علاقة كل منهما بكتابها المقدس.
والحقيقة الأخري التي تشير إليها "حائري" أن الحداثة المصرية (ممثلة ربما في محمد علي) - وباعتبارها المسئولة عن صياغة شكل الدولة "الحديثة" في مصر بما يشمله من مؤسسات ودواوين ومدارس تفرعت وتعقدت فيما بعد - قد اختارت اللغة العربية لغة رسمية. وربما حدث ذلك لاعتبارات الرغبة في مواجهة العالم بلغة هي جزء من هوية راسخة جامعة تعتمد علي قداسة متأصلة في المجتمع أو يمكن تأصيلها فيه عبر الدولة. وذلك بدلا من العامية التي كان المصريون يتواصلون بها في حينه، علي اعتبار أنها هجين محتقر لا يقوي علي الصمود في لعبة "صراع الحضارات" بمعني ذلك الزمان. وهذا الدافع هو نفسه بكل تأكيد الذي يقف وراء اختيار النخبة العربية فيما بعد علي يد الإحيائيين ومن جاء بعدهم للّغة الفصحي وسيلة للكتابة عندما أصبحت عملية أكثر انتشاراً. واستمر حال الجدل حتي جاءت دولة عبد الناصر التي أكدت علي اختيار الاستمرار في "تحديث الفصحي" لاعتباراتها القومية. والمفارقة الدالة التي تظهرها حائري هنا هي مقارنة ذلك بما حدث في اليونان في السبعينيات عندما صعد الاشتراكيون إلي سدة الحكم فأحلوا لغتهم المحلية محل لغة "الكاثاريفوسا" المعيارية المقدسة وعلي عكس الاشتراكيين في مصر الذين ربطوا مشروعهم الاشتراكي بمشروعهم الوحدوي.
وتمضي "حائري" في تحليلها لتصل إلي أن هناك آراء عديدة في سياق الإزدواجية اللغوية ينحو بعضها إلي الفصل التعسفي بين الفصحي والعامية إذا قبلنا بالتقسيمة العرفية ويميل بعضها الآخر إلي إظهار المشترك، كما يميل آخرون إلي القول بأن عملية "تحديث اللغة" قد تمت بشكل كامل لدرجة إنجاز لغة منفصلة عن قيم العربية الكلاسيكية، لكنها تقول إنه رغم الإبداع اللغوي العربي المعاصر لم يحدث حتي الآن أن جاء نصّ يعلن عن بزوغ فجر نوع من العربية تنفصل عن السلطة اللغوية للقرآن. وهو أمر يحتاج مناقشة؛ فربما أنه لو كان للنص العربي المعاصر أن يحقق انفصالاً عن لغة القرآن، فإن الثقافة العربية المعاصرة لم تكن لتسمح حتي الآن بإحلال تلك المرتبة من القداسة لنص آخر مهما كانت درجة إنجازه الأدبي واللغوي.
العائلة، الطائفة
الدولة، واللغة الحديثة
تلتقي "حائري" بأفراد عائلة مصرية من الطبقة الوسطي المنهارة "عائلة نادية" لتستكشف علاقتهم باللغة العربية، فتجد أن أفراد عائلة نادية يفرقون بين فصحيين؛ الأولي هي فصحي القرآن المُعجزة الجميلة التي تهدئ الروع، والفصحي الأخري التي تفرضها عليهم المدرسة للكتابة ويعانون منها في الامتحانات، تلك الفصحي تعني بالنسبة لهم علامات الإعراب الشكلية تماما، نسميها "التشكيل".
وهي بتحليلها لتلك العائلة تلتفت إلي العقود التي استغرقتها عملية جعل المصريين يدركون ويقبلون أسباب الحاجة لاعتبار أنفسهم مصريين عربا وتشدد علي أن تلك العملية "لم تتضح بعد جميع نتائجها". وتعبر سريعاً علي معضلة تدريس اللغة العربية للأقباط في مدارسنا عبر نصوص القرآن والحديث. وتشير إلي حقيقة أن الأقباط لا يعملون بتدريس اللغة العربية ولا يلتحقون بأقسام اللغة العربية بكليات التربية. وأذكر أن أحد أساتذتي في قسم اللغة العربية بتريية المنصورة كان أشار إلي أن القسم يسمي "لائحيا": "قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية" لاستبعاد الأقباط من الدراسة فيه، ف"كيف يتسني ( لنا ) أن نفرض (عليهم) دراسة العلوم الإسلامية وتدريسها. ذلك أيضا أن لوائح وزارة التعليم توحّد بين مدرس اللغة العربية والتربية الإسلامية، وربما في وضع المناهج أيضا. الأبعد من ذلك هو السؤال: " هل يضعف ثالوث العربية الفصحي والدولة والإسلام من مكانة غير المسلمين؟" الأقباط الذين استطلعت "حائري" آراءهم بهذا الخصوص أكدوا جميعا أن اللغة العربية هي "لغة بلدي". ورغم رأيهم بأن دراسة النصوص الإسلامية كمصدر للغة العربية لا يجب أن تكون ملزمة لهم، يؤكدون علي رفضهم القاطع لترجمة الإنجيل إلي العامية، وكأن قداسة اللغة انتقلت إلي ذلك أيضا!
أما من ناحية إنتاج اللغة كسلعة في عملية النشر كإحدي ظواهر "الحداثة"، فإن المؤسسات التي تقوم علي هذه الصناعة تحرص علي وضع مصحح لغوي بين منتج اللغة ومستعملها ليكون وراء النص الواحد أكثر من مسئول وليس كما نتصور عادة أن المسئول عن النص هو المؤلف. نشير هنا إلي تمتع المصححين اللغويين بصلاحية تغيير النص قبل نشره ودور الدولة في تنظيم ذلك بالقانون سواء في أوروبا أو هنا وهو الأمر الذي نشأ بالضرورة في حضن الدين.
إن آراء المصححين أو "حرّاس اللغة" كما تسميهم "حائري"، تؤكد علي أن الدولة المصرية لعبت دورا كبيرا في تنويع عملية الحراسة هذه بين الشيوخ والأفندية لتحتفظ بمساحة من اللعب علي التناقض تؤمن لها صيانة سلطتها. لقد تضمنت كافة الدساتير المصرية الحديثة عبارة "اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد" بما يؤكد أن للدولة مصلحة في استمرار الإيمان بالقيمة العظيمة للغة الفصحي، لكنها أي الدولة - تعمل في الوقت نفسه علي الاستفادة من الضعف الذي يصيب هذه العلاقة؛ وذلك بميل أركانها الكبار إلي خلط الفصحي بالعامية (راجع خطب الرؤساء والمسئولين)، واعتمادها تلك "اللغة الحديثة" التي كونتها لنفسها، وتعيينها لحراس علي تلك اللغة، ومساهمتها في نقل ثقل هؤلاء الحراس مع الزمن من الأزهر إلي التعليم العام أو "العلماني"، كما فعلت بالضبط في تحديث القانون.
فكأن النهضة قد قررت إحياء اللغة العربية وتحديثها، وجاء القوميون فأضافوا إلي ذلك قداسة الوحدة العربية، قبل أن تأتي الصحوة الإسلامية منذ السبعينيات فتنشئ لنفسها مجالاً سياسياً واجتماعياً ولغوياً خاصاً، وتخاصم الدولة بلغتها وأحيانا مدارسها، وينشأ جدل مجتمعي ربما لم تحسن تغطيته الأكاديمية حول أكثر اللغات تمثيلا للإسلام هل هي لغة "يوسف القرضاوي" من ناحية أم لغة "عمر عبد الرحمن" من ناحية أخري أم لغة "الشعراوي" والأزهر والدولة والحداثة من ورائه. والمؤكد بالضرورة في خلفية ذلك الجدل أن ارتباط اللغة بالدين أصبح ارتباطاً مقدساً وكأنه جزء من المعتقد رغم اختلاف اللغات التي تتبني هذه المقولة (وهو ما يستدعي كتابة أخري). حتي هذه النقطة، وبالعودة إلي كتاب "حائري" نجدها ترصد التأثير الأكبر للغة الشعراوي في المجتمع المصري. وما أتقنه الشيخ هو تفسير القرآن بعامية شديدة الأصالة كما تذهب المؤلفة، لكنها لا تشير إلي فصحاه شديدة الانضباط التي تحاول أن تدعو إلي الدين في إطار لغة الدولة، والتي ضمنت له تفوقه علي آخر الشيوخ الشعبيين من خريجي الأزهر "عبد الحميد كشك" الذي تبني اللغة نفسها ولكن في إطار زاعق لا يخلو من لحن ويحاول الانقضاض علي الدولة. ثم يحدث بعد أن تهدأ حمية الحرب مع الدولة ويتيح ضعف النظام وفساده أن تعيد الصحوة الإسلامية اكتشاف نفسها فتجد أن فرصتها للانتشار كبيرة، وأن جمهورها يتسع، ثم أن الإعلام الفضائي بعد سنوات الكاسيت الطويلة يتيح لها مساحة أوسع، فتجد أنه لا غني لها عن العامية فتتحقق نجومية لا بأس بها ل "وجدي غنيم" و"محمد حسين يعقوب" لكن هيهات لتلك النجومية أن تضارع نجومية "محمد حسان" الذي لا تكاد العامية تقارب لسانه.
هكذا بطرف من "حائري" وطرف من عندياتي نستطيع أن نفهم كيف ملأ دعاة الصحوة الإسلامية الفراغ الذي تسببت فيه موالاة الأزهر للدولة. حتي فوجئا معا (الأزهر والدولة) اللذين اعتمدا لغة تجمع بين القسم الديني والالتزام السياسي بمعناه الحديث في "اليمين الدستورية" بمن يستدرك عليهم ذلك في عقر برلمانهم، بمقولة "فيما لا يخالف شرع الله"، عندما هم نوّاب السلفية بحلف تلك اليمين في برلمان ما بعد الثورة ولا أعني هنا فقط تلك العبارة وإنما ذلك الإتقان في ضبط النص بصورة ربما لم تتوافر لأي برلمان مصري من قبل. وهو ما أدّت نذوره إلي قلق الأزهر علي مكانته فسارع شيخه بلقاء الداعية الأفصح محمد حسان، وإصدار وثيقته التي تنتمي إلي التعلق بقشة لغة الدولة أكثر مما تنتمي إلي لغة المدونة الإسلامية المحظية بالأغلبية.
لغة الصحافة.. خلْق المعاصرة
هكذا تصف "حائري" لغة الصحافة، فدخول الصحافة في الثقافة العربية المعاصرة كان يعني أن أغراضاً لغوية جديدة تطرأ عليها من ناحيتين أساسيتين:
- الموضوعات التي تعبر عنها من سياسة واقتصاد وفن ومجتمع وإعلانات
- المتلقي المستهدف بكل ذلك والذي يفرض خفة اللغة واقترابها من لغته اليومية
الفصحي قد وصلت إلي مستوي رأته هذه النخبة متردياً جداً. وهو أمر سببته مجريات التاريخ؛ فالمصريون أصلا كانوا يتحدثون اللغة القبطية، ومنذ أن فتح الإسلام مصر لم تكن اللغة الفصحي أبدا هي اللغة التي يستعملها عامة أهل البلاد، وإنما مزيج خاص من فهم هؤلاء العامة للغة العربية وقواعد كلامهم بلغتهم الأم. فوصلنا إلي نمط جديد من اللغة "العربية" ليس هو بحال "العربية الفصحي". وجاءت النهضة في القرن التاسع عشر لتعود إلي ما وراء تلك اللغة العربية المصرية مستعيدة جذور العربية الناصعة حيث إنها كانت الأنسب لتلك النهضة بما راكمته من كتابات وقواميس وأعمال كثيرة تناولتها، ولا يصح والحال حال نهضة أن نرمي بكل هذا لنستعمل لغة لم يتوافر لها أي قدر من الدراسة والتنظير. ناهيك بالطبع عن المكانة المقدسة لتلك اللغة. وهنا نشأت الفصحي المعاصرة.
ثم يأتي الاستعمار فيكسب تلك العملية "العودة إلي الأصول" شرعية أكبر، حيث إن مجابهة الاستعمار بلغة لها تاريخ إمبراطوري بحجم الفصحي هو بالتأكيد سلاح أكثر مضاء من مواجهته بلغة هجين لم يلتفت أحد يوما إلي التنظير لها بأوسع من حدود "لحن العامة"، أو "رد الفرع إلي الأصل" كما في "المقتضب" أو "دفع الإصر". وهنا تنشأ الأسطورة الكبري من أن الاستعمار يريد العامية والمقاومة تريد الفصحي حتي لو كانت معاصرة حديثة. وهنا تشير "حائري" إلي أن الاستعمار قوّي الدعوة إلي إحلال العامية ولم يكن السبب في التمسك بها من حيث المبدأ، وهي في ذلك تشير إلي تراكم عدد الكتب المنشورة باللغة العربية قبل وصول نابليون نفسه، وإلي عدد الدوريات التي كانت تنشر بالعربية الفصحي في مصر قبل وصول الإنجليز وعددها 168 دورية.
ليست أسطورة الاستعمار واللغة العربية متوقفة عند هذا الحد، وإنما تحلل "حائري" أيضا ما تكون حوله شبه إجماع من أن الترجمة من اللغات الأوروبية كانت مصدر نهضة وحداثة اللغة العربية، فتكشف عن أن نسبة الكتب المترجمة في القرن التاسع عشر لا تتجاوز 8٪ من الكتب المنشورة. وربما توجب عليها في نقاشها الرائع هنا أن تشير إلي ذلك الكم الهائل من التعبيرات الاصطلاحية (Idioms) التي تمت ترجمتها في أروقة الدولة، والتي انتقلت فيما بعد إلي لغة الصحافة والأكاديميا العربية، وكثير منها مترجم ترجمة مباشرة من اللغات الأوروبية. لكن لا يفوتها علي أية حال أن تطرح السؤال حول مصدر التغيير (الاعوجاج اللغوي من وجهة نظر البعض) في تركيب جملة الصحافة والتي تميل إلي ترتيب الجملة في العامية واللغات الأوروبية أكثر منها إلي الجملة الفصحي، نظرا بالطبع لاستبدال الترتيب بعلامات الإعراب حتي ولو لم يقم اللغويون بوصف ذلك التغير.
لقد تأثرت لغة الصحافة بطبيعة الحال بالعامية، وإلي جوار التراكم الذي استحدثه محمد التابعي، وهيكل، وصلاح جاهين وقوافل المثقفين المصريين الذين كتبوا للصحافة أن نتخيل مثلا مراسل الأهرام في السنبلاوين في بداية القرن العشرين. فكأن اللغة التي تقرر إحياؤها لم تكن لتستطيع النهضة وحدها دون التأثر بما كان اللغة الأم لأبناء هذا البلد قبل النهضة. لكن الأكثر إدهاشا هو أن العامية نفسها تشربت كثيرا من سمات الفصحي الحديثة لدرجة تدفعنا إلي القول بنهاية عصر تخيل أن اللغتين في صراع ستقضي فيه إحداهما علي الأخري كما لا يزال راسخا في قناعة أغلبية المهتمين بهذا الشأن، وإنما سيظل ذلك التبادل والتداخل قائما علي مدي سنين طويلة قادمة، والأجدر أن نستفيد منه بدلا من إدانته.
إن المقارنة بين أربعة حوارات صحفية نشرت علي صفحات الأهرام عام 1995 تشير إلي الكثير. الحورات الأربعة كانت مع الشخصيات التالية علي التوالي: حسني مبارك، نجيب محفوظ، عمر الشريف، عادل إمام. المؤكد أن الحورات الأربعة عندما دارت كانت بالعامية المصرية، لكن الذي نُشر كالتالي: ترجمة كاملة للفصحي في حوار مبارك، فصحي إلا قليلا في حوار محفوظ، مزيج من الاثنتين في حوار عمر الشريف، وعامية مطلقة في حوار عادل إمام. يدلنا ذلك علي أن هناك ارتباطا لا يزال قائما بين الفصحي ومعني "اللغة الرسمية" فلا نتخيل أن الرئيس المخلوع كان سيتكلم العامية في زهو قوته كما فعل في مراحل انهياره؛ أذكركم ب "خليهم يتسلّوا". ولا يمكننا كذلك أن نتخيل عادل إمام يتكلم بالفصحي. والجدير بالاستقصاء هنا هو مناقشة "حائري" لتقنيات عملية الترجمة من العامية إلي الفصحي في لغة الصحافة المعاصرة.
من حصة اللغة العربية
إلي حصة الفيزياء
يبدو أن الدولة لعبت دوراً مزدوجاً في هذا أيضا ففي حين أن كتب تدريس اللغة العربية تعتمد لغة فصحي هي أقرب إلي فصحي القرآن بتركيزها علي الضبط والالتزام بالمواقع الإعرابية الكلاسيكية، نجد في الوقت نفسه أن الدولة هي التي قامت وتقوم بنشر هذا الكم الهائل من الكتابات بفصحي معاصرة تختلف كثيراً عن لغة القرآن في الكتب الدراسية للمواد الأخري. وهو ما تميل "حائري" إلي وصفه ب "محاولة ربما لا تكون واعية" من الدولة للسيطرة علي مواطنيها عبر التعدد الذي يضمن لها ضم كل شيء إلي حيازتها. وربما يتوجب هنا أن نشير إلي أن تلك الدولة لم تكن أبدا بالجرأة الكافية علي إتخاذ القرار بجذرية التحول نحو مستوي لغوي علي حساب الآخر، صحيح أنها لم تفعل ولم تكن لتستطيع أن تفعل، لكنها لم تحاول مثلا الاعتراف بالفروق بين هذه المستويات التي تقدمها لمواطنيها في مدارسها بأي صياغة رسمية أو أكاديمية، وهي أيضا لم تمنع سخرية العامية أو الفصحي المعاصرة من الكلاسيكية في العديد والعديد من السياقات التعبيرية الاجتماعية التي تعتبر مسئولة عن "تليين" العربية، أو قل إن شئت: "تحديثها".
اللغة ونخبة التسعينات
هذا الخليط المركب متغلغل إلي أبعد مدي؛ هنالك في عقول أطراف من النخبة أعلنت في بعض الأحيان أو كلها قطيعة مع الدولة، وخفّضت كثيرا من تقديس ما لا يقدّس. وجّهت "حائري" سؤال الازدواجية اللغوية إلي "محمود أمين العالم"، الحاج "محمد مدبولي"، الشعراء "زين العابدين فؤاد"، و"إيمان مرسال"، و"محمد بغدادي"، وضمنت كلامها مقاطع لكل من "إبراهيم المعلم"، و"فاروق حسني" لتخرج من نقاشها بأمرين:
أولا: أن التضارب في الواقع اللغوي يخفي وراءه تضاربا في النظر إلي نوع اللغة التي يعبر بها هؤلاء علي اختلافهم - فيما ينتجونه. فهم جميعا يتكلمون العامية بطبيعة الحال، وحينما ينتجون فهم ينتجون بالفصحي بطبيعة الحال أيضا، وشعر العامية استثناء هنا. وربما كان تعبير إيمان مرسال دالا جدا حين قالت: "العامية للحياة، والفصحي للثقافة". وهو ما يفسر - مثلا - تلك الكلمات التي تحولت قافها إلي همزة لتصبح من كلمات "الحياة"، وتلك التي احتفظت بقافها محققة لتظل من كلمات "الثقافة".
ثانيا: وهي ملحوظة هامة أدلي بها المرحوم محمود أمين العالم ترتبط بأن الفكرة القومية عندما سيطرت علي الواقع المصري في مرحلة ما بعد الليبرالية جعلت اللغة العربية بطلا. وذلك بحسبانها "لغة الأمة" علي حساب "لغة القطر". ويؤكد العالم هنا أن كثيرا من مثقفي اليسار كانوا يريدون أن يثبتوا أنهم أكثر قومية من القوميين أنفسهم عندما توقفوا عن المطالبة بإحلال العامية محلها كما كانوا يطالبون خلال الجدل الليبرالي في النصف الأول من القرن العشرين.
من التحديث إلي التسليع
أما عن النشر بالعامية فقد تناولت حائري مطبوعتين ذوَي دلالة هما "قنطرة الذي كفر" رواية لويس عوض الشهيرة والتي تمثل واحدا من استثناءات نادرة صدرت بالعامية في الأدب المصري المعاصر قبل عصر الإنترنت. فتشير إلي الهجوم الذي انصبّ علي الرواية وصاحبها لدرجة أن إحدي طبعاتها المتأخرة استلزمت نشر سبع مقالات مع الرواية في كتاب واحد ربما لتعطي شرعية لنشرها.
كما أشارت أيضا إلي معاناة الشاعر "محمد بغدادي" لإصدار مجلة لشعر العامية في بداية التسعينات، عندما حاول أن يفعل ذلك بالتعاون مع الدولة، وترصد حائري معاناة المجلة منذ لحظة تأسيسها وحتي توقفها عن الصدور بعد ثلاثة أعداد فقط.
لقد جاء هذا الفصل وافيا من عدة نواح أهمها تسليط الضوء علي أبعاد إنسانية وشخصية ثرية لذلك الجدل اللغوي عبر رصده لدي أشخاص وإن كانوا قلّة لا تتيح التعميم إلا أن المدلولات الغنية والعرض الذكي الذي قدمته حائري جعلا منهم عينات شديدة الدلالة علي الوضع اللغوي في مصر، وهو ما تكرر في فصول أخري مع "عائلة نادية"، والمصححين الثلاث "حامد" و"مجدي" و"عبده". لكن لا ينبغي أن يفوتنا والحال كذلك أن إعادة النظر في مواقف المثقفين تجاه اللغة الآن، وما يؤكده الواقع اللغوي من ازدهار النشر بالعامية مطبوعا وافتراضيا يجعل النتائج التي توصلت إليها حائري في حاجة إلي مراجعة، وتظل لفصلها هذا قيمة كبري باعتباره تأريخا ومساهمة مفيدة في التعرف علي ذلك الواقع اللغوي حتي عام 1996.
لقد حاولت حائري أن تحلل في كتابها دور اللغة في ثالوث الدولة والأمة والدين في مصر. وكيف أن محاولات عديدة بذلت من أجل نفخ الحداثة في العربية. وجاءت في نهاية كتابها لتقترح أن بقاء الوضع اللغوي في مصر بلا حل يعود جزئيا إلي صعوبة اتفاق المصريين حول حقهم في التصرف في اللغة الفصحي رغم المحاولات الكثيرة في هذا الاتجاه. لتخرج بأن المسألة اللغوية لها دلالات قوية علي طبيعة الحياة السياسية في هذا البلد، والتي تحتاج إلي الاتفاق حول إجابات لمجموعة كبيرة من الأسئلة المركبة والخلافية ترتبط بالعلاقة بين اللغة والنص المقدس أولا، ونوع الهوية ثانيا؛ فإن كان المصريون عربا فماذا يحدث للغتهم؟ وإن كانوا غير ذلك فلماذا يجب أن يستخدموا العربية الفصحي؟ بالإضافة إلي هذا، إن كانت أحقية المصريين باللغة تعود إلي أن أغلبهم مسلمون فهل هم حراس هذه اللغة أم مالكوها؟
والحراس بالتأكيد يؤمنون بأن المعرفة المقدسة قد أنتجت بالفعل، وكل ما يجب هو الحفاظ عليها. أما الملاك فيؤمنون بأن المعرفة في حالة إنتاج دائم. وربما كان هذا هو السبب الكبير في أن علوم اللغة في مصر لم تستجب بما يكفي لضرورة دراسة اللغة كما هي عليه، وهو ما لن نستطيع فعله إلا عندما نقرر أننا مالكو هذه اللغة.
وبعد، فلم يعد من الوارد أن لغة ستنتصر علي الأخري في مدي زمني منظور، الإيمان بهذا سفه. كما أنه لا يحق لأحد أن يري عيبا في اللغة الفصحي أو العامية، فمعني ذلك الوحيد أنه يري عيبا في "الشعب" الذي يستخدمهما، وهو كلام عنصري لا يرقي للنقاش. أما الضرورة التي كلما تأجل النظر فيها كلما فاتنا قطار الوعي بحقيقتنا فهي فرض العين المتمثل في دراستنا لما نقول وما نسمع وما نكتب وما نقرأ كما هو، وليس كما يريده أي منا أن يكون، فهذا متروك للتاريخ.
وهنا نعود مجدداً إلي اللغة والحداثة، فعندما جاء الإحيائيون كانت اللغة العربية في جامعاتنا يدرّسون دو سوسيير ليل نهار دون أن ينعكس ذلك أبدا علي تصورهم لقداسة اللغة العربية. والأجدر بالإلتفات هنا هو أن الرجل عندما توصل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.