ذوي الهمم| بطاقة الخدمات المتكاملة.. خدماتها «مش كاملة»!    اعرف تحديثات أسعار الذهب اليوم السبت.. وهذه نصائح ضرورية عند التعامل    موعد مباراة الأهلي والترجي التونسي في ذهاب نهائي إفريقيا والقنوات الناقلة    الأهلي والترجي| المارد الأحمر يسعى لتقديم مهر الأميرة السمراء في رداس    27 ألفا و120 طالبا وطالبة يؤدون امتحانات الشهادة الإعدادية أمام 302 لجنة بأسوان.. اليوم    زيلينسكي: أوكرانيا ليس لديها سوى ربع الوسائل الدفاعية الجوية التي تحتاجها    نوح ومحمد أكثر أسماء المواليد شيوعا في إنجلترا وويلز    زعيم كوريا الشمالية يشرف على اختبار صاروخ جديد: تعزيز الحرب النووية    ارتفاع سعر الفراخ.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية السبت 18 مايو 2024    جسم مجهول يصيب سفينة في البحر الأحمر    عاجل.. حدث ليلا.. اقتراب استقالة حكومة الحرب الإسرائيلية وظاهرة تشل أمريكا وتوترات بين الدول    ذروة الموجة الحارة ورياح شديدة، الأرصاد تحذر من طقس اليوم وتقدم 3 نصائح عاجلة    الأرصاد توجه رسالة عاجلة للمواطنين: احذروا التعرض للشمس    لبلبة تهنئ عادل إمام بعيد ميلاده: الدنيا دمها ثقيل من غيرك    عاجل - "تعالى شوف وصل كام".. مفاجأة بشأن سعر الريال السعودي أمام الجنيه اليوم في البنوك    كاسترو يعلق على ضياع الفوز أمام الهلال    حكايات| «نعمت علوي».. مصرية أحبها «ريلكه» ورسمها «بيكمان»    خالد أبو بكر: لو طلع قرار "العدل الدولية" ضد إسرائيل مين هينفذه؟    رقص ماجد المصري وتامر حسني في زفاف ريم سامي | فيديو    طبيب حالات حرجة: لا مانع من التبرع بالأعضاء مثل القرنية والكلية وفصوص الكبد    رابط مفعل.. خطوات التقديم لمسابقة ال18 ألف معلم الجديدة وآخر موعد للتسجيل    حماية المستهلك يشن حملات مكبرة على الأسواق والمحال التجارية والمخابز السياحية    تفاصيل قصف إسرائيلي غير عادي على مخيم جنين: شهيد و8 مصابين    حلاق الإسماعيلية: كاميرات المراقبة جابت لي حقي    إصابة 3 أشخاص في تصادم دراجة بخارية وعربة كارو بقنا    نصائح طارق يحيى للاعبي الزمالك وجوميز قبل مواجهة نهضة بركان    الأول منذ 8 أعوام.. نهائي مصري في بطولة العالم للإسكواش لمنافسات السيدات    فانتازي يلا كورة.. هل تستمر هدايا ديكلان رايس في الجولة الأخيرة؟    أحمد السقا يرقص مع ريم سامي في حفل زفافها (فيديو)    مفتي الجمهورية: يمكن دفع أموال الزكاة لمشروع حياة كريمة.. وبند الاستحقاق متوفر    ننشر التشكيل الجديد لمجلس إدارة نادي قضاة مجلس الدولة    مصطفى الفقي يفتح النار على «تكوين»: «العناصر الموجودة ليس عليها إجماع» (فيديو)    لبنان: غارة إسرائيلية تستهدف بلدة الخيام جنوبي البلاد    بعد عرض الصلح من عصام صاصا.. أزهري يوضح رأي الدين في «الدية» وقيمتها (فيديو)    عمرو أديب عن الزعيم: «مجاش ولا هيجي زي عادل إمام»    موعد إعلان نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 في محافظة البحيرة.. بدء التصحيح    قبل عيد الأضحى 2024.. تعرف على الشروط التي تصح بها الأضحية ووقتها الشرعي    سعر العنب والموز والفاكهة بالأسواق في مطلع الأسبوع السبت 18 مايو 2024    هل مريضة الرفرفة الأذينية تستطيع الزواج؟ حسام موافي يجيب    مؤسس طب الحالات الحرجة: هجرة الأطباء للخارج أمر مقلق (فيديو)    تعرف على موعد اجازة عيد الاضحى المبارك 2024 وكم باقى على اول ايام العيد    نحو دوري أبطال أوروبا؟ فوت ميركاتو: موناكو وجالاتا سراي يستهدفان محمد عبد المنعم    طرق التخفيف من آلام الظهر الشديدة أثناء الحمل    إبراشية إرموبوليس بطنطا تحتفل بعيد القديس جيورجيوس    أستاذ علم الاجتماع تطالب بغلق تطبيقات الألعاب المفتوحة    حظك اليوم برج العقرب السبت 18-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    هاني شاكر يستعد لطرح أغنية "يا ويل حالي"    سعر اليورو اليوم مقابل الجنيه المصري في مختلف البنوك    أكثر من 1300 جنيه تراجعا في سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 18 مايو 2024    دار الإفتاء توضح حكم الرقية بالقرأن الكريم    خبير اقتصادي: إعادة هيكلة الاقتصاد في 2016 لضمان وصول الدعم لمستحقيه    ب الأسماء.. التشكيل الجديد لمجلس إدارة نادي مجلس الدولة بعد إعلان نتيجة الانتخابات    البابا تواضروس يلتقي عددًا من طلبة وخريجي الجامعة الألمانية    «البوابة» تكشف قائمة العلماء الفلسطينيين الذين اغتالتهم إسرائيل مؤخرًا    دراسة: استخدامك للهاتف أثناء القيادة يُشير إلى أنك قد تكون مريضًا نفسيًا (تفاصيل)    حدث بالفن| طلاق جوري بكر وحفل زفاف ريم سامي وفنانة تتعرض للتحرش    فيديو.. المفتي: حب الوطن متأصل عن النبي وأمر ثابت في النفس بالفطرة    دعاء آخر ساعة من يوم الجمعة للرزق.. «اللهم ارزقنا حلالا طيبا»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تساؤلات في المسافة المتحركة من (ابن عربي ) إلي ( ابن آدم ) الشاعرمحمد آدم.. الباحث عن السؤال والحقيقة:
أنا الفلاح المصري المهموم بالمشروع الإنساني
نشر في أخبار الأدب يوم 16 - 03 - 2013

الشاعر محمد آدم يتحدث إلى الزميلة منى نور- تصوير : محمد نصر
مع حالة الفوران الكامنة داخل كل منا، حالة جمود الواقع.. نستدعي الشعر ليكون هو المحرك الذي يعطي إشارة الإستمرارية.. لمنظومة التنوير الحق والجمال، ومن الشعر إلي الشعراء.. ومن بينهم يتجلي.. الشاعر محمد آدم.. صاحب المساحة الواسعة في المشهد الشعري.. بمشروعه المتجدد والداعي إلي التنوير انطلاقا من الأساس المتمثل في تجربة فريدة تمثل الالتفات إلي بنية الجسد باعتبارها مدخلاً لرؤية العالم والواقع، والذات والثقافة.. لم يكن الجسد لديه مجرد نوازع حسية- كما قال لي- بل قدرة لغوية تخيلية تساعده علي كشف روح الواقع وسر العالم.. وهذا راجع إلي عمق الوعي الفلسفي والجمالي في طبيعة الشاعر.. من هنا كانت الضرورة لكشف المنابع التي تدفق منها شعر محمد آدم، الذي يري أن شعره منقذ للخلاص من الألم، وأداة للراحة.
ثمة أسئلة جوهرية حائرة.. أردت بها أن أقف معه علي إجابة تصل بنا إلي ضوء في آخر النفق الذي نسير فيه، فإذا بي في حواري معه اصطدم برحلة حياة شعرية مرتبكة، تركت صاحبها ليحكيها لنا، وقد آثرت ألا أقاطعه حيث توقفت خلالها علي محطات مؤثرة في حياته الإبداعية لايبوح بأسرارها إلا هو لذلك تركته ينساب في الاستعادة والاسترجاع..الماهية
أنا محمد آدم.. ابن هذه الأرض، الفلاح الذي تشققت قدماه في الغيطان، والذي قرأ في الثقافة الغربية بقدر ما أسعفني العمر والزمن، ولازالت، وشرقت في الثقافة العربية من فلسفة، وشعر، ولاهوت، وغرقت في الشعرية العربية حتي النخاع.. وكتبت عن متاهة الجسد إلي أن انتهيت بنص أخير لي بعنوان "متاهة إبراهيم" وكأنني أغوص في الوعي الثقافي والمعرفي الإنساني، بكل ما فيه من غني وخصوبة.. أنا الباحث عن السؤال والحقيقة، حتي هذه اللحظة، ولم أتوقف يوماً ما عن البحث، عقلي يعمل كزنبرق لا يتوقف.. حينما انتهي من كتابة نص، أبدأ بانشغالات أخري، وأتهيأ لنص آخر.
أنا مشاء مثل الفلاسفة المشائين، اتخذت من المشي فلسفة وأنا في سن السادسة، واكتشفت أن المشي حل لكل مشاكل الإنسان، يعطي لحظة تأمل واستراحة مع الذات، وإعادة اكتشاف العالم بشكل يومي، تولدت فكرة قصائدي وأنا في حالة مشي، إلي أن أصل إلي مكتبي.. المشي حالة إنسانية، هناك مدرسة المشائين في اليونان القديمة، أنتجت فلاسفة عظاما، أفلاطون كان مشاء، فالمشي فلسفة حياة وضرورة إنسانية، وكان نجيب محفوظ يقطع طريقه يومياً من منزله إلي مكتبه في جريدة الأهرام ماشياً، وكان ذهنه يعمل وهو سائر، فالحركة أساس فعل الوجود، والثبات هو الفعل.
كنت أعمل في فرق مقاومة دودة القطن في قريتي من السابعة صباحا، وحتي السادسة مساء، فقط هناك ساعة ونصف راحة "القيلولة" كنت أتناول فيها غذائي، وفي أيام المدرسة "الابتدائي وقبل الابتدائي: كنت أذهب الي كتاب القرية، أجلس الي جوار معلمي الشيخ (طه) كي أحفظ القرآن، وأنا بجلباب واحد فقط وهذه كانت حالة كل أبناء القرية الفقراء وظللت أحفظ القرآن، لمدة عشر سنوات، وياويله من يخطيء أو يتلعثم أمام معلمه، كان لا يجد إلا العصا، التي لا يعرف كيف يتقيها، وأعود الي بيتي وأنا مثقل بالجروح، باكيا، شاكيا من غلظة معاملة الشيخ، ثم بعد ذلك علي أن أسهر ليلا لأحفظ القرآن.
ومن الشيخ العظيم الذي علمني نغمية القرآن، بدأت أتشرب حروف اللغة، دون أن أفقه المعني، لأني كنت صغيرا آنذاك.. كان النص القرآني يشدني بقدر ما فيه من جلال وهيبة ونغم.
وفي مرات كثيرة، حاولت أن أهرب من هذا الجو، ولكن نغمية النص القرآني تشدني شدا، إلي أن أعود لغرفة التعذيب والحفظ، ربما تكون هذه هي البدايات التي شكلت وجداني اللغوي وأصلحت لساني.
كنت أميل إلي تأمل شجرة الجميز التي تغطي فناء مدرستي بالكامل، وكنت أصعد فوقها لاقتطف ثمارها، وربما كانت هذه الثمرة، أشهي ثمرة تذوقتها في حياتي حتي الآن! انها بمثابة لحظة اكتشاف عناصر الوجود من يد الطبيعة الملآنة.. انها شجرة تعطي بلا حساب، وثمرة تؤكل بطعم أو رائحة الجنة، وفي المرحلة الابتدائية صادفني بيت من الشعر عجيب، ظل معي يساندني حتي هذه اللحظة، ما أن أقع أو أنكسر، إلا ويكون هذا البيت بمثابة حائط الصد الذي يحميني من الانهيار وهو:
لا تيأسن وان طالت مطالبة
إذا استعنت بصبر أن تري فرجا
أظن أنه لشجاعر جاهلي، وقد صادفته (هذا البيت) بعد أربعين سنة وكأن ثمة قدر يتربص بنا ويدير دفة الحياة ونحن لا ندري لماذا هذا البيت بالذات؟ ولماذا تحتفظ به الذاكرة حتي هذه اللحظة؟ هل كان ذلك بمثابة القوة الخفية أو يد الله التي تعمل في الخفاء لتساندني طوال رحلة الطريق الشاقة، وأنا أعاني العزلة واليأس والمرارة لأن زمن الكتابة، زمن شاق، ورحلة الشاعر العظيم، رحلة شاقة لا تتساوي مع أي رحلة عادية، إنه القلق والوعي الذي يعمل طوال الوقت، ولا يتيح لك، ولو للحظة واحدة الاسترخاء، رحلة كتابة في اللاوعي طوال الوقت، كي تتمكن من انجازه بعض الوقت.
شقاء الكتابة
هنا آثرت أن أسأله عن ذلك الشقاء وماذا يمثل له، رغم أن الكتابة هي التنفس فمن أين يأتي الشقاء؟
الكتابة الحقيقية عند كل كاتب حقيقي في العالم، هي رحلة بحث عن المعني، وعن الحقيقة.. أي كتابة لا تتهم بالبحث عن الحقيقة، هي كتابة زائفة، وخارج التاريخ، والكتابة كبحث عن الحقيقة خارج الذات، معناها اننا نبحث عن معني العالم، عن الوجود الكلي للعالم، عن حقيقة الانسان ومصيره في رحلة تبدأ من الميلاد وتنتهي بالموت، وما بين لحظة الميلاد، ولحظة الموت، علينا أن نكتشف لحظة وجودنا علي الأرض فكان عليّ أن أقوم بقراءة كاملة للموجز الثقافي العربي..
ماذا علي أن أضيف؟
هل أتيت لأكرر المتنبي.. المتنبي ابن زمن وثقافة ووعي وتاريخ، وأنا ابن زمن آخر وثقافة أخري، ووعي وتاريخ مختلفين.. هل علي أن أكرر ما أنجزه صلاح عبدالصبور، أو أدونيس أو ما يسمي بشعراء عصر الحداثة، ان كنت سأفعل، فمن الأجدي أن أتوقف لا لشيء إلا لأنني سأكون لبنة متماثلة في بناء شاهق لا يقبل ذلك إلا كل مغامر ومختلف، وبناء عليه كان علي أن أبدأ بقراءة التراث العربي كاملا، وتوقفت عند أعظم بناءاته سواء كانت الفلسفية أو الشعرية أو الكلامية أقصد بها علماء الكلام الذين أضافوا للفلسفة العربية أولا، والغربية ثانيا ما لم تضفه الفلسفة الغربية للثقافة العالمية!
توقفت عند المعري، علي سبيل المثال، واكتشفت أنه شاعر بحجم الكون، لا يقل عمقا، وقامة عند أعظم شعراء العالم، لأنه في حقيقة الأمر، كان بناء شامخا ومختلفا - أيضا - في منجز الشعر العربي ورغم أنه كتب عن "المتنبي"، "معجز أحمد" إلا أنه- وفي الحقيقة- كان يكتب عن المعري من خلال المتنبي هذا الضرير، الأبدي، الرائي، الخالد، رأيته مبصراً بل هو المبصر الوحيد في الثقافة العربية.
المعري برؤيته للكون وللانسان قام بعملية تفجير واسعة في الثقافة العربية، انه الوحيد الذي طرح مشكل الإنسان بشكل واع في هذه الثقافة.
ومن غير المعري في الفلسفة العالمية توقفت أمامه في مرحلة التكوين؟
كان عليّ أن أعرج إلي الفلسفة العربية.. توقفت أمام أزهي ما أنجزته هذه الثقافة من رؤية متمثلة في هؤلاء: "ابن رشد" العظيم الذي احتفي بالعقل والعقلانية، كما لم يحتفِ بها أحد من قبل، وكان يشكل علاقة فارقة لا في الفلسفة العربية وحدها، وإنما في الفلسفة الغربية كذلك.
"ابن رشد" كان اللبنة الأساسية التي استطاع الغرب أن يعبر من علي قنطرتها لكي يكتشف ويفصل أبعاد وحدود العقل الغربي.. ابن رشد الذي أهملناه في ثقافتنا العامرة، وأحرقنا كتبه وطاردناه طويلاً حتي هذه اللحظة، صار مواطناً عالمياً في ثقافة الآخر، وفاعلاً مهماً في الثقافة الغربية.
أضف إلي ابن رشد، ابن سينا، الفارابي، ابن طفيل.. كل أولئك شكلوا لبنة مهمة في الثقافة العربية.
لم يتوقف التكوين عند هذا الحد، بل كان عليّ أن أقرأ "علم الكلام"، وهو العلم الذي لا مثيل له في ثقافة الغرب، يكفيني القول إن هذا العلم يفتح الباب واسعاً أمام ما أسميه حرية الفكر، إنه يتكئ بالدرجة الأولي علي النص القرآني، ويعيد اكتشاف المسكوت عنه طوال الوقت، بحيث يكون النص القرآني قابلاً لكل التأويلات والتفسيرات، لا يحوزه أحد، ولا تتحدث به طائفة من الطوائف.. إنه نص هيئةمفتوح لجميع النوافذ الضوئية، يدخل منه الضوء، ولا يخرج منه إلا الضوء.
إنه التجسيد الحقيقي والفعلي لعبقرية العقل والتأويل في مواجهة نص لا يخضع للأحادية مطلقاً!
هذا الاكتشاف في علم الكلام، قادني إلي منطقة أخري وهي منطقة التصوف، ولا أدري إذا كانت مصادفة لأننا نعمل تحت قدر غامض تقودنا خطواته، ولا نحدد نحن مساره، وقد وقعت في هذه المرحلة الشائكة والمرتبكة في حياتي (بدأت من أواسط العشرينيات وامتدت إلي أوائل الخمسينيات من العمر).
حدث حينما بدأت أقرأ فيها وبعمق، أسطورة "سيزيف" وبدأت أقرأ دستوفيسكي، وهو لمن لا يعلم صاحب السؤال الأكبر في ماهية الإنسان والكون.. ما معني الخير؟ وما معني الشر؟
وأقرأ راسكولنكوف، والجريمة والعقاب، ثم قراءتي ل"كير كيجارد" المؤسس الحقيقي للمشروع الوجودي الكوني قبل "سارتر" فكان أن أصبت بالخلل، والارتباك، وبدأت أتشكك في كل شيء، وأعيش حالة العبث الكونية، وأنه لا معني لكل هذا الوجود.. كل ذلك قبل أن أنخرط في قراءة التصوف عند الشيخ الأكبر "محيي الدين بن عربي" في كتابه "الفتوحات الإسلامية"، والحلاج، والنفري، والتفسيرات المتعددة للنص القرآني، بدءاً من مدرسة المعتزلة، والتي يقف علي قمتها الرازي في تفسيره العملاق "مفاتح الغيب".
الاكشاف
نصل معه في الحوار إلي منطقة أخري وهي الاكتشاف فماذا يقول؟
إن هذه المرحلة التي امتدت لما يزيد علي الثلاثين عاماً سقطت فيها صريعاً، وأسير الفلسفة الغربية والتي اكتشفت فيما بعد أن هذه الفلسفة بكل منجزها الحضاري الضخم، والذي تتبدي مظاهره الآن في هذه التقنيات الحديثة، فقدت شيئاً مهما هو "الإنسان" وأن هذه الفلسفة أسست لما أسميه بالعدمية أو "فلسفة العدم".
وحينما توغلت في قراءة الفلسفة العربية- بعد ذلك- اكتشفت أنها أسست لشيء آخر مختلف وهو "الوجود" أو فلسفة الوجود، أي أننا أسسنا لفعل الإنسان وحريته وإنسانيته علي الأرض، والغرب أسس للعدمية والقتل والدم والاستعمار.. من هنا بدأ يحدث التوازن، وما أسميه بإعادة اكتشاف الذات حينما بدأت أتوقف أمام "قارة التصوف" ويقف علي رأسها الشيخ الأكبر ابن عربي، وبدأت أستنشق هواءً جميلاً ورائقاً للمرة الأولي في حياتي، وأنني ولأول مرة، أمشي علي الأرض، ولأول مرة أحب الحياة، لأن ابن عربي فعل شيئاً مهماً لم تلتفت الثقافة العربية إليه- حتي هذه اللحظة- فهو قد أعاد قراءة المشروع الإنساني بكامله من خلال رؤية مغايرة لما أنجزه العقل العربي، سواء في الفلسفة أو علم الكلام، أو علم التفسير الذي انتحي به اللاهوتيون وحدهم، إنه (ابن عربي)، قرأ الإنسان من خلال الرحمة الإنسانية الشاملة، ولم يضع الإنسان في خانة الشر المطلق أو الخير المطلق، لقد اكتشف هذا الرجل العظيم- الذي زرت قبره في دمشق بجوار ناشر فتوحاته المكية الأمير عبدالقادر الجزائري- اكتشف فلسفة الجدل قبل هيجل بقرون، ولكن العقل العربي دائماً غير منتبه، والثقافة العربية دائماً ما تهمل أبناءها العباقرة، وتتوقف أمام الصغار، لا أدري إذا كانت هذه نقيصة أم هي بذرة خيانة في هذه العقلية؟!
وحينما قلت لصديقي سليمان العطار- الذي أعد رسالة كاملة عن ابن عربي بالأسبانية- إن ابن عربي كان أسبق من هيجل في اكتشافه لفلسفة الجدل قال لي: لم يجرؤ أحد علي البوح بهذه المقولة إلا أنت وأنت صحيح وصائب.
من ابن عربي لابن آدم
طال حديثه عن ابن عربي، فقاطعته وقلت ماذا عن رحلتك أنت يا ابن آدم؟!
من هنا ووسط كل هذه العوالم المتضادة حتي الانحدار، كانت اللبنات الأساسية في تشكيل وعيي الجمالي والمعرفي، لأنه بدون هذا التشكيل الجمالي والمعرفي لا توجد كتابة!
الكتابة التي لا تشكل انحيازاً جمالياً ما أو معرفياً ما هي كتابة فارغة وبلا معني، ومن هنا بدأت أصيغ مشروعي الشعري عن وعي، فيما أسميه "الجسدنية" أي كيف يمكن التعامل مع الجسد شعرياً!
جسد المرأة أولاً، وجسد الثقافة ثانياً، لأن هذه الثقافة ارتكبت خطأ فادحاً، بابتعادها عن ملامسة الواقع، والتعامل الحي والفعال مع الجسد بكل أشكاله وصوره.. اعتبرت أن الجسد شيء مكروه "عورة" يجب ألا نلتفت إليه، وياليتنا نتخلص منه، الانهمام الأكبر، الانهمام أحادي النظرة بالروح، ومن هنا خرجنا من العالم لأننا تعاملنا- فقط- مع جانب واحد، هو جانب الروح وأهملنا الجسد، بدءاً من جسد العالم بكل ما فيه، وانتهاء بجسد المرأة الذي هو التحسس الأولاني لاكتشاف الكون، والانغراس فيه، وإعادة صياغته، وهذا ما فعله الغرب وأغلقنا أعيننا دونه.
متاهة الجسد
كان الديوان الأول (صدر عام 1988) عن دار الغد "متاهة الجسد" والذي أذكر- بكثير من الفرح- أنني بعت من أجل إصداره كل أثاث بيتي، ونمت أنا وزوجتي وأبنائي علي الأرض، كل هذا من أجل هوس نشر "متاهة الجسد"، وكنت فرحاً، ومأخوذاً إلي أقصي حد، ويكفي أن تعرفي أيضاً، أنني عشت في شقة في العشوائيات (18 سنة) بلا ماء بمنطقة (مطار إمبابة) أنا السقاء، وناقل الخبز، وأنا الكادح من الصباح حتي المساء في بنك، وأنا قارئ الكتب في الليل، وكانت مقولة "اسبينوزا" هي الأخري تترصدني "أنا أعمل ببضاعة الأرض في النهار وهي تصليح الساعات، وأشتغل ببضاعة السماء في الليل".. فكان هذا هو قانوني الذي وضعته عنواناً لحياتي أيضاً، ولم ألتفت لأي شيء، لا لشهرة، ولا لثروة، ولا لمجد.
وكانت متاهة الجسد سبباً في أن يتصل بي ناقد كبير في حجم شكري عياد ليسألني أنا، كيف كتبت هذا النص العظيم، وسألت نفسي هل أنا حققت شيئاً هل فعلاً أنا أنجزت كل هذا الشعر؟!
شكري عياد تلميذ العميد طه حسين- هو أيضاً- أهملته الثقافة العربية وياللأسف في زمن الصغار!! ونصحني بقوله "أكتب ولا تهتم" وكانت تلك هي النصيحة الثالثة بعد الشعر، وقول اسبينوزا، ساندتي حتي هذه اللحظة، وجعلتني أواصل الكتابة رغم التهميش الذي صادفته في حياتي حتي هذه اللحظة!
المصادرة
ثم جاءت مرحلة مصادرة ديواني "أنا بهاء الجسد واكتمالات الدائرة" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1992، وفي نفس العام الذي صودر فيه "مفهوم النص" لنصر حامد أبوزيد، لم أكن أتخيل أنني أشكل كل هذا القلق، الذي جعل كبار العلماء بالأزهر تجتمع كي تقرر مصادرة ديواني الشعري الثاني، والذي ما كدت أفرح به حتي فوجئت بمصادرته، وخاف د. سمير سرحان اطلاعي علي قرار المصادرة، إلا أنه قال بالنص: "قالوا إن النص الشعري لمحمد آدم يحيل الجسد إلي إله، ويحيل الله إلي جسد".. وأقول إن هذا البناء اتكأ في بنيته اللغوية والنغمية علي البنية اللغوية والنفسية للنص القرآني، وقد نسوا، أو تناسوا أن النص القرآني هو اللبنة الأساسية التي تشكل الثقافة العربية، والفاعل الأكبر في كل هذا الوعي الجماعي والمعرفي والإنساني، لا أقول في الثقافة العربية فقط، ولكن في الثقافة الإنسانية بشكل عام.
ماهية النص
كان النص عبارة عن ثلاثة نصوص، أو ثلاث ملاحم في الجسد الإنساني بمفهومه الواسع، وليس بمفهومه الضيق، النص الأول كان بعنوان (نهايات الجسد سيادة الفراغ) أي أن الجسد الإنساني هو مركز الدائرة في الكون بكل تجلياته، والنص الثاني كان بعنوان "أنا مشغول عنك بالمرأة.. أنت مشغول عني بالعبارة".. أما الثالث فكان عنوانه "هكذا هو الذي لا اسم له"، كانت هذه هي اللبنات الثلاث التي تشكل العمود الفقري للديوان الذي تمت مصادرته عام 1992، وكنت أريد في هذا الديوان بالتحديد إعادة اكتشاف الغائب عن وعي الثقافة العربية، وهو الجسد.
ماهية الجسد
ماذا تعني بالجسد؟
أعني الجسد باعتباره المنجز الأكبر للصانع الأكبر وهو الله سبحانه، فكان أن ذهبت لنجيب محفوظ باكياً، وهي رحلة حياة كما ترين "ملطشة" وأخبرته بالمصادرة، وأن الديوان لم يكتب أحد من النقاد كلمة عنه، فهل مصر ماتت؟ هل غابت روح مصر؟ هل أصبحت عاجزة إلي هذا الحد، مصر التي وقفت بكاملها خلف كتاب طه حسين (الشعر الجاهلي).. النقاد انشغلوا بنفط الخليج وكُتّابه، بل اهتمامهم بالتقرب إلي السلطة وما الحديث عن التنوير وثقافته وصناعته إلا وهم زائف في لحظة غيبة الوعي هذه.. مصر اختفت منها الروح أو تلاشت.
وكان رد نجيب: افعل مثلما فعلت، انتصر علي اليأس بالكتابة لا تتوقف، فعندما صادروا أولاد حارتنا، ضحكت في سري، وقلت يكفيني أن يحتفظ بها قارئ واحد في هذا العالم، بذلك ضمنت لها الوجود، وأنت كتبت ونشرت، ولن تغيب عن الذاكرة.
أنت صاحب قضية فما هي، وكيف أنها صارت شاغلك الأول والأخير؟
- الكائن هو قضيتي الأساسية في ن الكون.. الكائن يعني الإنسان، يعني الأرض، يعني المرأة، أنا مهموم بالإنسان بشكل عام، وماذا تكون الكتابة إذا ابتعدت عن الهم الإنساني؟ في هذا النص بالتحديد رفضته الهيئة العامة للكتاب، ورفضته كل دور النشر.. كأنني كنت قاتلاً أو مجرماً.. لم يكن أمامي إلا النشر- مرة أخري- علي حسابي الخاص، ولأني لميكن لديّ ما أبيعه، اقترضت من البنك الذي أعمل به، وسددت علي أقساط، ونشرت ديواني في ألف نسخة، وبدأت أوزعه علي أصدقائي، واحتفظت بالباقي، واكتفيت بالخيبة، ولم يكتب عني ناقد واحد ولا كلمة في الوقت الذي كرّس فيه النقاد أنفسهم للحديث عن شعر أدونيس، وشعراء الخليج، وقلت يالهم من محظوظين!! كل ذلك لم يمنعني من التوقف عن الكتابة، لدي إصرار قاتل علي كتابة مشروعي الشعري، وهنا نأتي إلي الديوان الرابع (نشيد آدم) عام 2003.
هل قصدت فيه الرمزية والخصوصية؟
- في هذا الديوان، حاولت أن أكتب ملحمة شعرية، أجسد فيها مأساة الإنسان في الكون، واتخذت من آدم رمزاً لصياغة النشيد، ربما تعني آدم.. محمد آدم نفسه، أو ربما تعني سيدنا آدم أول مخلوق علي الأرض، حينما واجه الكون، وخرج من الجنة مطروداً، فجعلت من أسئلته، أسئلتي، وسؤاله الممعن حول الكينونة والوجود، وكل ما في الكون من شر هو نفس سؤالي، باختصار أنا اتخذت من آدم قناعاً، أتحدث من خلاله وبواسطته عن موقف الإنسان في الكون فما هو، وما معناه؟ إنه موقف ملحمي يجسد مأساة السقوط، سقوط الإنسان في عالم يمتلئ بالشر والإثم والغموض، حتي إن ناقدا عظيما بحجم د. ماهر شفيق فريد، قال عنه بالحرف الواحد: إنه أعظم نص كُتب في الأدب العالمي في النصف الثاني من القرن العشرين.
نصف نوبل
كيف التفت إلي أعمالك ناقد ومترجم بحجم د. محمد عناني في كتابه عنك (أناشيد الإثم والبراءة) والذي صدر عن الهيئة العامة للكتاب بالإنجليزية عام 2004؟
- كنت موقناً أن الجائزة ستأتي يوماً ما، لأنني لم أنشغل بأي شيء آخر سوي بالشعر إلي أن فوجئت بالدكتور ماهر شفيق فريد، ودون أن أعرف، يخبرني أن د. عناني قد أنجز عملاً كبيراً عنك باللغة الإنجليزية وسوف يدرسه في الجامعات الغربية، خبر نزل عليّ كالصاعقة وكأنني حصلت علي (نصف نوبل)، بدأت أسترد نفسي في مقدمة الكتاب وضعني د. عناني جنباً إلي جنب مع إليوت، ووليام بليك، وازرا باونت، وأنه ترجم مختارات موسعة لا لشيء إلا لأنه رأي أن هذه النصوص الشعرية لا تقل عن نصوص الشعر الغربي.
في ظل هذا المشهد المرتبك.. كيف يكون الخلاص؟
- علينا أن نعترف أن مصر هي رُمانة الميزان، ليس في المنطقة العربية وحدها، ولكن علي مستوي العالم ككل، العالم يعرف حجمها، أكثر مما نعرفه نحن، وأنا عشت أيام الثورة كاملة في الميدان، لم أغادره إلا لأغتسل أو لأتقوت، ورأيت كيف تفجرت الأرض، كل الأرض، بكل هذه الجماهير الهائلة، إنها لحظة مخيفة، لا توصف ولا تستطيع الذاكرة أن تسترجعها، كل الشوارع والبيوت تنفجر بالصراخ والناس، هذا شعب يريد الحرية، ويحب الخلاص، علمته سنوات القهر، طوال تاريخه أن يشق الأرض ليسمع كل العالم صيحته المدوية بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، علينا ألا نخاف لأن روح مصر قد خرجت من القمقم، ولن يستطيع أحد أن يعيدها مرة ثانية إلي السجن.. مصر أصبحت تعرف كيف تتخلص من الطغاة، حينما تريد، وهاهي أرادت، المشهد الآن، أصابنا باليأس والإحباط، وقد يقف علي مشارف الخبوت، هذا هو مصير الثورة.
ليس من المعقول أن يخرج أولئك من السجون والمعتقلات ليدخلوا مصر كافة إليها، هذا غير معقول ولن يحدث، ولا يمكن لمصر التي حبست أنفاس العالم طوال الثورة، ليتفرج علي ما يحدث علي أرض مصر التاريخ والحضارة والجغرافيا بمفهوم جمال حمدان، لا يمكن أن تدخل إلي قفص فئران مصر سوف تخرج من هذه اللحظة المربكة المرتبكة، وقد صاغت نفسها بصياغة جديدة لتدخل إلي العالم بثوب يليق بها، مصر العظيمة، النبيلة، البهية، يتآمر عليها الغرب وإسرائيل، وللأسف دول الخليج، لأنهم يعرفون من هي مصر؟ مصر غنية بكل ما أنجزت في التاريخ الإنساني من ثقافة، وما شكلته من وعي، هل يمكن لمصر طه حسين، محمد عبده، أن تغيب؟ هل يمكن لمصر جمال حمدان تختفي خلف براميل النفط؟ هل يمكن لمصر محمود مختار، وسيد درويش، وأم كلثوم، وعبدالوهاب أن تخرص؟ مصر تعرف كيف تغني، وسوف تواصل الغناء بنفس القوة والإنسانية التي قدمتها للدنيا علي طول التاريخ.. مصر هي المعبر الرئيسي للديانات الكبري التوحيدية الثلاث، ولولا مصر لما كان العالم، فلحظة الظلام لن تسلبنا النظر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.