قرأت أمجد ناصر متأخّرة. لكن منذ القصيدة الأولي من الديوان الأوّل الذي وقع في يدي، عرفت أني سأقرأ كلّ ما كتب ويكتب. كتبه في مكتبتي في الرفّ القريب من الكنبة، أعود إليها غالبا وكثيرا. لا صداقة تجمع بيننا، لا أظنّ أني التقيته يوما، ولا بالصدفة. ولم أكن أسعى لذلك وكنت سأتجنب محادثته لو فُرضت الصدفة علينا. فهذا الشاعر يضع في ما يكتب ما يحملني على لقائه كلّما قرأت له، كأخ حقيقي لروحي. وكالعادة أخاف من الخذلان، من الخيبة، وممّا قد يجعل من المعرفة الشخصيّة سقفا واطئا للخيال الجميل... وأمجد ناصر من النادرين الذين يدفعونك إلى الكتابة بعد قراءته وأنت تغصّ بكلماته، سطرا سطرا. فيحصل أن يدلّني صوته الخفيض إلى شخصيات رواياتي، وأحيانا أتخيّل إنّه يحادثهم. أو يقف بجانب أحدهم وراء نافذة في مكان ما. كتابة أمجد ناصر لا تتكئ على ما كنتُ عرفت وقرأت، ولا تشبه غير نفسها لا أدري كيف كنت ولا زلت أشبّهه ببسام حجار. فكلّما قرأت له كانت وحشتُه في شعره، وحدتُه في نثره، في المقهى أو الشارع، إزاء الليل والعناصر، وغربةُ الأشياء وغرابتها القريبة من نفَس العالم، كانت تلك الكتابة تدبّ في القلب أو تسير سيرا خفيفا حتّى الطيران فتعلو قارئها كهالات القدّيسين. كتابة أمجد ناصر لا تتكئ على ما كنتُ عرفت وقرأت، ولا تشبه غير نفسها، وهي لا تقعد في مكان فتستطيع ردّها إليه، بقيت زمنا لا أعرف أنه أردني، وأنّه عاش في بيروت، ولا أعرف أنّ له اسما آخر للأوراق الثبوتيّة. هناك قصائد لأمجد ناصر ترقّ لغتُها فترتفع عابرة الحدود فعلا، كأن تقول لنفسك إن رقّة هذه الملاحم الصغيرة ليست عربيّة «فقط». قرأت أن أمجد ناصر ينتظر الموت. قرأت ما كتب يكلّم السرطان. قلت إن ما وصلت إليه كتابته، شعرا ونثرا، كانت لتغيّر مسار السرطان في خلايا رأسه لو كان الموت يقرأ. وقلت إني لم أعرفه شخصيا، وإلاّ لما استطعت أن أكتب لأقول وداعا، لكني سأسمح لدموع خفيفة أن تطلع الآن إلى عيني، إعجابا وتأثرا حين أعود إلى قراءته، أمجد ناصر...