عضو اتحاد الصناعات يطالب بخفض أسعار السيارات بعد تراجع الدولار    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. أسعار الذهب اليوم الأحد 28 إبريل 2024 بالصاغة    بعد التراجع الأخير.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 28 أبريل 2024 بالأسواق    فكري صالح: الزمالك قادر على تخطي دريمز والتأهل لنهائي الكونفدرالية    حسام البدري: وصفي ب "الهارب" صدمني ولم أظلم عماد متعب    أمطار رعدية على هذه المناطق.. بيان عاجل من الأرصاد بشأن حالة الطقس اليوم (لا تنخدعوا)    بالأسماء.. مصرع 5 أشخاص وإصابة 8 في حادث تصادم بالدقهلية    هيئة كبار العلماء السعودية تحذر الحجاج من ارتكاب هذا الفعل: فاعله مذنب (تفاصيل)    اضطراب الكبد المرتبط بنمط الحياة.. ونصائحسريعة لتحسين صحة الكبد    موعد مباراة ليفربول المقبلة بعد التعادل مع وست هام في الدوري الإنجليزي    لأول مرة بالمهرجانات المصرية.. "الإسكندرية للفيلم القصير" يعرض أفلام سينما المكفوفين    أهالي الأسرى يُطالبون "نتنياهو" بوقف الحرب على غزة    مصدر أمني إسرائيلي: تأجيل عملية رفح حال إبرام صفقة تبادل    قصف كثيف على منطقة ميرون شمال إسرائيل وعشرات الانفجارات في المنطقة (فيديو)    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم عدة قرى غرب جنين    المجموعة العربية: نعارض اجتياح رفح الفلسطينية ونطالب بوقف فوري لإطلاق النار    بشرى للموظفين.. 4 أيام إجازة مدفوعة الأجر    متحدث الكنيسة: الصلاة في أسبوع الآلام لها خصوصية شديدة ونتخلى عن أمور دنيوية    الأردن تصدر طوابعًا عن أحداث محاكمة وصلب السيد المسيح    تشيلسي يفرض التعادل على أستون فيلا في البريميرليج    حسام غالي: كوبر كان يقول لنا "الأهلي يفوز بالحكام ولو دربت ضدكم (هقطعكم)"    نصف تتويج.. عودة باريس بالتعادل لا تكفي لحسم اللقب ولكن    اجتماع مع تذكرتي والسعة الكاملة.. الأهلي يكشف استعدادات مواجهة الترجي بنهائي أفريقيا    وزير الرياضة يهنئ الخماسي الحديث بالنتائج المتميزة بكأس العالم    اليوم، أولى جلسات دعوى إلغاء ترخيص مدرسة ران الألمانية بسبب تدريس المثلية الجنسية    «مينفعش نكون بنستورد لحوم ونصدر!».. شعبة القصابين تطالب بوقف التصدير للدول العربية    إصابة 8 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ربع نقل بالمنيا    أول تعليق من الأزهر على جريمة طفل شبرا    مصدر أمني يكشف تفاصيل مداخلة هاتفية لأحد الأشخاص ادعى العثور على آثار بأحد المنازل    ضبط 7 متهمين بالاتجار فى المخدرات    قطار يدهس شاب أثناء عبوره مزلقان قليوب    الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري للبيع والشراء اليوم الأحد 28 إبريل 2024 (آخر تحديث)    وفاة الفنان العراقي عامر جهاد    عمرو أديب: مصر تستفيد من وجود اللاجئين الأجانب على أرضها    غادة إبراهيم بعد توقفها 7 سنوات عن العمل: «عايشة من خير والدي» (خاص)    نيكول سابا تحيي حفلا غنائيا بنادي وادي دجلة بهذا الموعد    تحولات الطاقة: نحو مستقبل أكثر استدامة وفاعلية    ما حكم سجود التلاوة في أوقات النهي؟.. دار الإفتاء تجيب    العالم الهولندي يحذر من زلزال قوي خلال 48 ساعة ويكشف عن مكانه    هل يمكن لجسمك أن يقول «لا مزيد من الحديد»؟    أناقة وجمال.. إيمان عز الدين تخطف قلوب متابعيها    23 أكتوبر.. انطلاق مهرجان مالمو الدولي للعود والأغنية العربية    دهاء أنور السادات واستراتيجية التعالي.. ماذا قال عنه كيسنجر؟    السفير الروسي بالقاهرة يشيد بمستوى العلاقة بين مصر وروسيا في عهد الرئيس السيسي    «الأزهر للفتاوى الإلكترونية»: دخول المواقع المعنية بصناعة الجريمة حرام    ضبط وتحرير 10 محاضر تموينية خلال حملات مكبرة بالعريش    السيسي لا يرحم الموتى ولا الأحياء..مشروع قانون الجبانات الجديد استنزاف ونهب للمصريين    ما هي أبرز علامات وأعراض ضربة الشمس؟    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من الإصابة بهذا المرض    رئيس جامعة أسيوط يشارك اجتماع المجلس الأعلى للجامعات بالجامعة المصرية اليابانية للعلوم    " يكلموني" لرامي جمال تتخطى النصف مليون مشاهدة    "مدبولي" يصل الرياض للمشاركة في المنتدى الاقتصادي العالمي    شرايين الحياة إلى سيناء    جامعة كفر الشيخ تنظم احتفالية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة    أمين صندوق «الأطباء» يعلن تفاصيل جهود تطوير أندية النقابة (تفاصيل)    سمير فرج: طالب الأكاديمية العسكرية يدرس محاكاة كاملة للحرب    رمضان عبد المعز: على المسلم الانشغال بأمر الآخرة وليس بالدنيا فقط    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر يوفر للقارئ عالماً بديلاً
نشر في أخبار الأدب يوم 13 - 12 - 2014

ولد مارك ستراند في عام 1934 في جزيرة الأمير إدوارد بكندا، لأبوين أمريكيين. اشتغل أبوه بأشياء عديدة -يمكنك أن تسميه رجل أعمالذ وكانت أمه في أوقاتٍ مختلفةٍ معلمةً في مدرسة، ومُنقِّبَةً عن الآثار.
عندما كان ستراند رضيعا، عاشت الأسرة في هاليفاكس، ثم مونتريال. وفي الرابعة انتقلوا للعيش في فيلاديلفيا. وأثناء حضوره للمدرسة، تكلم ستراند القليل جدا من الإنجليزية بلكنة فرنسية ثقيلة. "سخر مني زملائي في الفصل وكانوا متوحشين تجاهي عموما،" يقول. تعلم الإنجليزية سريعا، ولكن عندها، قام والده، الذي كان يعمل في بيبسي كولا، بأخذ العائلة إلي كوبا، ثم كولومبيا، ثم بيرو، والمكسيك.يقول ستراند: "تنقلت كثيرا، وذهبت إلي العديد من المدارس، لدرجة أنني لم أجد مكاني الخاص قط"، ويضيف: "في الحقيقة لا أجيء من مكان معين. ولكن كنت سعيد الحظ، فالعديد من الصيفيات كانت تُقضي في خليج القديسة مارجريت، بالقرب من هاليفاكس، وخلال هذه الصيفيات السعيدة، اكتشف بيئة تم استبطانها وأصبحت البيئة التي حملتها أينما ذهبت: البحر، الصنوبرات الصغيرة بطول الساحل، الصخور الكبيرة المغطاة بالأشن، النهارات الباردة..."
بالرغم من أنه كتب القليل من الشعر في الثانوية، وقرأ وكتب الشعر أثناء دراسته في كلية أنتيوك، فقد دخل مدرسة ييل للفنون والعمارة ليصبح رساما. (عندما كان في التاسعة عشرة عمل طوال صيف كامل في المكسيك كمساعد لديفيد سيكويروس، ليساعد في صنع "نوع من الفن تعلمت أن أحتقره بينما أعمل عليه")، ولكن بينما كان يدرس الرسم، أصبح قارئا متحمسا لوالاس ستيفنز، وبشكل مدهش له وجد نفسه ينتظم في كورسات الإنجليزية، ويكتب الشعر، ويكسب إعجاب بعض أساتذة الإنجليزية في كليته. في1960 حصل علي منحة فولبرايت للذهاب إلي إيطاليا لدراسة الشعر الإيطالي في القرن التاسع عشر. بعد فترة وجيزة، بدأت بعض قصائده تُنشر في النيويوركر، وبدأ يشعر أنه يتجه إلي إخلاص حياته للشعر. أول دواوينه "النوم بعين مفتوحة" نُشر بواسطة مطبعة ستون وول في أيوا سيتي في 1964، وفي 1968 أخذ هاري فورد مجموعته أسباب للحركة إلي أثينيوم. يقول ستراند:" أدين بمهنتي كشاعر إلي هاري فورد."
خلال الستينيات، أقام ستراند صداقات مؤثرة مع شعراء هم ريتشارد هوارد، تشارلز سيميك، وتشارلز رايت. صديقٌ آخر وشاعر لعب دورا هاما في حياته هو جوزيف برودسكي، الذي قابله في السبعينيات.
نشر ستراند الكثير من الكتب العربية، وكتاب قصص قصيرةٍ فريد من نوعه عنوانه "السيد والسيدة بيبي"، وتأملا مزعجا في الخلود علي شكل قصيدة نثر" الُنصُب". كما درس في لجنة الفكر الاجتماعي بجامعة شيكاغو، حيث أعطي كورس عن سيمبوزيم أفلاطون مع الفيلسوف جوناثان لير.
في 1987 حصل علي زمالة مكآرثر، وفي سنة 1990 نُصِّبَ شاعرا للدولة في مكتبة الكونجرس. قام أيضا بترجمة شعر رفائيل ألبيرتي وكارلوس دروموند دي أندرادي وكتب مونوجرافات عن لوحات ويليام بايلي وإدوارد هوبر.
يقول ستراند إن العناصر التي يحتاجها لكي يكتب هي "مكان، مكتب، غرفة مألوفة. أحتاج بعضا من كتبي هناك. وأحتاج الهدوء. هذا كل شيء." وعندما سئل عن امكانية الكتابة في مكانٍ أقل هدوءا، مثل قطار، أجاب أنه يفعل، ولكنه يكتب النثر في معظم الأحيان، لأنه "أقل إحراجا. من سيتفهم رجلا في سني يكتب حزما من الشعر في قطار، لو تلصصوا عليّ؟ سوف أُري كشخص زائد العاطفة."
يكتب بالورقة والقلم، ويؤجل الطباعة علي الآلة الكاتبة بأقصي ما يستطيع، يشرح أن ذلك بسبب: "عندما أقرأ قصيدة مكتوبة بالقلم والورقة، فأنا أسمعها. عندما أقرؤها مطبوعةً، فأنا أقرؤها. يمكن للقصيدة أن تبدو منتهية فقط بسبب نظافة الورقة المطبوعة، وأنا لا أريد أن تبدو منتهية قبل أن تكون قد انتهت. القصيدة تكون قد حضرت إلي العالم بشكل ما عندما تكون قد كُتبَت علي الآلة الكاتبة. أشعر كأنني محررٌ أكثر من كوني شاعرا بعد ذلك.غالبا، بعد أن يقرأ ما كتبه علي الآلة الكاتبة، سوف يعود إلي الكتابة بالقلم والورقة لعدة أسابيع.
عرف المحاور ستراند كصديق لسنوات طويلة، واستغل الحوار بلا خجل كتبرير ليسأل أسئلةً حولَ الشعر، وحياة الشاعر، أسئلة أراد أن يسألها في فرص كثيرة فيما سبق. من الصعب في الغالب أن تسأل صديقا أسئلةً عامة أو أساسية عن حقل العمل الذي قام هذا الصديق بمنحه عمره. إضافةً إلي ذلك، فالمحاور، الذي يكتب للمسرح، ولكن يقرأ قليلا من الشعر من غير أن يكون متأكدًا قط إن كان يفهم أيا منه أو يعرف ماهيته، وبالرغم من أنه يعرف أنه يحب عمل ستراند وكان يفعل دائما، اندفع للأمام بسذاجة صلبة. جري هذا الحوار في شقة مؤجرة بالباطن في شارع جرين بنيويورك.
بدأتُ بقراءة ذلك الشيء الذي كتبه ذلك الرجل عنك. ولكنه ضايقني، لأنه ظل يتكلم عن تيمات كتابتك، ولم أفهم. لا أظن أنني أفهم حقا مفهوم "التيمات." لهذا لن أسألك سؤالا من قبيل ما هي رؤيتك للعدم؟ لأنني لا أفهم ذلك تماما.
- أنا أيضا لا أفهمه. ولست متأكدًا إن كنت أستطيع التفوه برؤية للعدم، بما أن العدم لا يسمح بوصفٍ لنفسه. بمجرد أن تبدأ في وصف العدم، تنتهي إلي الشيئية.
علي أي حال، هل نقرأ الشعر لأننا مهتمون بال "تيمات"؟ أم أننا نقرأه لنتعرف إلي رؤية أحدهم للعالم؟ لنري إن كان الشاعر الذي نقرأه يري الأشياء كما نراها؟
- إنك لا تقرأ الشعر لتجد تلك الحقيقة المقبولة كحقيقة في العالم اليومي. لا تقرأ القصيدة لتعرف كيف تصل إلي الشارع الرابع والعشرين. لا تقرأ القصيدة لتجد معني الحياة. بالعكس. أقصد أنه سيكون من الحمق إن فعلت ذلك. الآن، بعض الشعراء الأمريكيين يقدمون للقارئ شريحةً من الحياة، قائلين: ذهبتُ اليوم إلي المتجر، ورأيتُ رجلا، ونظر إليّ، ونظرتُ إليه، وكلانا عرف أننا... لصوص. وألسنا كلنا لصوص؟ تعرف، هذا استخراجٌ لعبارة عن الحياة من التجربة اليومية، أو عظة. ولكن هناك نمط آخر من الشعر، والذي فيه يوفر الشاعر للقارئ عالما بديلا يقوم من خلاله بقراءة هذا العالم. والاس ستيفينز كان سيد القرن العشرين في هذا. لا يوجد شعرٌ آخر يشبه قصيدة والاس ستيفنز. ولكن من ثمّ، لا يوجد شيء يشبه قصيدة فروست، أو قصيدة هاردي. هؤلاء الناس خلقوا عوالمَ لأنفسهم. لغتهم قويةٌ وخاصةٌ بهم لدرجة أنك لا تقرأهم لتتحقق من معنيً أو حقيقةِ تجربتك الخاصة في العالم، ولكن ببساطة لأنك تريد أن تشبع نفسك بأصواتهم الخاصة.
حسنا، شعرك ينتمي بشكلٍ واضح وكبير إلي هذا القسم من الشعر. عندما نقرأ شعرك، يحرضنا الصوت- ثم يتم اقتيادنا إلي عالمٍ قد قمت أنت بخلقه. وفي البداية، أود القول، يمكننا بشكل أو بآخر أن نتصور أو نتخيل المشاهد التي تقوم باستحضارها، بالرغم من أنها تتكون من عناصر لن تجتمع في عالمنا اليومي بذلك الشكل التي تجمعها أنت به. لكن أحيانا، في قصائدك ذ في الغالب حقا- نصل لنقطة تكاد تكون شبيهةٌ بتناقضات زينون الإيلي، حيث يُطلبُ منا أن نتخيل أشياءً إما تكاد أن تكون متناقضةً ذاتيا، أو لا يمكن تخيلها حرفيا. أعني أنه، في لوحة سوريالية، الرسام يمكنه أن يقدم بيئة غريبة جدا، ولكنه لا يستطع أن يقدم شيئا كهذا! فهذا لا يمكن رسمه!
- حسنا، أظن أن ما يحدث عند نقطةٍ ما في قصائدي هو أن اللغة تسيطر وأنا أتبعها. فهي تبدو محقةً تماما. وأنا أثق بوقع ما أقول، بالرغم من أنني لست واثقا تماما مما أقوله. أنا فقط موافق علي تركه يتكون، لأنني لو كنت متأكدا تماما من أي مما أقوله في قصائدي، لو كنت متأكدا وأستطيع أن أتحقق منه وأفحصه وأشعر، نعم، لقد قلت ما قصدته، لا أظن أن القصيدة ستكون أذكي مني. أظن أن القصيدة ستكون، في النهاية، شيئا قابلا للاختزال. إنها تلك "الما- ورائية،" ذلك العمق الذي تصل له في قصيدة، هو ما يجعلك تعود إليها من جديد. وتتعجب، لقد بدت القصيدة طبيعية جدا في البداية، كيف وصلتْ إلي المكان الذي انتهتْ فيه؟ ما الذي حدث؟ أقصد، يعجبني ذلك، يعجبني في قصائد الآخرين عندما يحدث. يعجبني أن أشعر بالغموض، لأنه حقا في ذلك المكان المنفصل، أو الغامض، حيث تصبح القصيدة مِلكًا لنا في النهاية، تصبح ملكًا للقارئ. أعني في عملية محاولة الفهم، مطاردة المعني، يمتص القارئ القصيدة، بالرغم من أن هناك غيابًا في القصيدة. ولكن عليه فقط أن يتعايش مع هذا. وحتمًا، سيصبح الغياب أساسيا لدرجة أنه يوجد في القصيدة، بحيث أن شيئا فيما وراء فهمه، أو خبرته، أو شيءٌ ما لا يتوافق تماما مع خبرته، يصبح أكثر فأكثر، ملكًا له. يصبح مالكًا للغز، أتفهمني؟- وهو الشيء الذي لا نتيحه لأنفسنا في حيواتنا.
ألا نفعل؟
- أقصد، نحن نعيش مع السر، ولكننا لا نحب ذلك الشعور. أظن أننا يجب أن نعتاد عليه. نحن نشعر أنه يجب علينا أن نعرف ماذا تعني تلك الأشياء، أن نملك زمام هذا وذاك. لا أظن ذلك إنسانيًا، أتفهمني؟ أن تكون الحياة تنافسيةً هكذا. هذا الموقف من الوجود بعيدٌ تمامًا عن الشِّعر.
لقد خضتُ مرةً تجربةً من الغوص التام في السر عندما كنت أقرأ النصف الأول من الكينونة والزمن لهايديجر. تعرف، كان الأمر راجعًا لك تماما لتخلق بشكل ما ذلك العالم في رأسك، وسواءٌ كان الذي في رأسك هو الذي في رأس هايديجر- من يمكنه الجزم؟
- عندما أقرأ الشعر لا يمكنني أن أتصور أن الذي برأس القارئ هو ما كان برأس الشاعر، لأنه لا يوجد غالبًا إلا القليل في رأس الشاعر.
تقصد أن ..
- أظن أن حقيقة القصيدة هي حقيقة شبحية للغاية، فهي لا تهدف إلي الصلابة التي يحاولها السرد. لا تطلب منك أن تتخيل مكانا بتفاصيله؛ هي تقترح، تقترح، تقترح مرة أخري. أقصد، بينما أكتبها. كانت لويليام كارلوس ويليامز أفكار أخري.
لكن، هل تقترح شيئا كنت تصورته بالفعل؟
- أنا أتصوره بينما أكتبه. أضع معًا ما أحتاجه ليصبح ذلك الشيء حيًّا. ولكن أحيانًا ما يكون أكثر كمالا في وقت عنه في وقت آخر.
عندما تقول إنه عندما تكتب تسيطر عليك اللغة، ثم تتبعها، هل تلمح لأن تجربة الكتابة تجربة تكون فيها إلي حد ما علي الأقل في دور سلبي. شيء ما يأتيك من مكان ما، وأنت تستقبله. ولكن من أين يأتي؟ هل هو اللا وعي فقط؟ بذلك سيكون تحليلا نفسيا. يأتي من مكان آخر، أليس كذلك؟ أم ...
- لا أعرف من أين يأتي. أظن أن بعضه يأتي من اللاوعي. وبعضه من الوعي. وبعضه يأتي من ... الله يعلم أين.
أظن أن الجزء "الله يعلم أين" هو ..
- ليست القصائد أحلاما. إنها ليست كذلك. إنها شيءٌ آخر. الناس التي تكتب أحلامها ويظنون أن تلك قصائد مخطئون. فهي لا أحلام ولا قصائد.
أثناء الكتابة، أنت تنصت لشيء. ولكنك عند حدٍ ما تتخذ دورا إيجابيا في خلق القصيدة.
- أصبح مشغولا بوجهتها لأنني لا أعلم وجهتها. أريد أن أعلم. أريد أن أدفعها للأمام قليلاً. أضيف بضع كلمات، ثم أقول، أوه لا ذ أنت في الطريق الخاطئ.
ولكن نمط الشعر الذي تصفه يمكنه أن يكون محبطًا للقارئ. الكثير من الناس الذين أعرفهم سيعترفون أن النموذج الأساسي لما يجب أن تكون عليه القراءة هو شيءٌ يشبه تجربة قراءة النيويورك تايمز. كل جملة من المفترض أن تتطابق مع شريحة معينة من الواقع. إن كانت تلك هي تطلعات شخص ما للقراءة، فقصائدك ربما تكون...
- حسنا، أحيانا لا تكون القصائد تمثيلاتٍ حرفيةً لأي شيء. أحيانا توجد القصيدة في الكون كشيء آخر لم تقابله من قبل. إن أردتَ أن تقول القصيدة ما تعنيه، مباشرة، بوضوح ذ وبالطبع يتحدث الشاعر الذي يكتب هذا النوع من القصائد عن تجاربه الخاصة- حسنا، ما يحدث عندما تقرأ هذا النوع من القصائد هو أنها تضعك ثانية في العالم الذي تعرفه. تجعل القصيدة ذلك العالم يبدو مريحًا أكثر، لأن هناك شخص آخر له نفس خبرتك. ولكن كما تري، تلك الطرائف الصغيرة التي نقرأها في تلك القصائد والتي نحب أن نؤمن أنها حقيقية، هي في الحقيقة خيالية. تمثل اختزالا للعالم الحقيقي. هناك الكثير في تجاربنا مما نأخذه علي عواهنه- ونحن لسنا في حاجة إلي قراءة قصائد تساعدنا علي أن نأخذ هذه الأشياء علي عواهنها أكثر مما نفعل. أناس مثل جون أشبيري أو ستيفنز يفعلون العكس تماما- يحاولون تفجير تلك الاختزالات. هناك رغبة لأشبيري، علي سبيل المثال، في خلق استنباطات خُلفية (لا تتفق مع المقدمات)، في أن يفاجئنا دائما خارج دفاعاتنا. إنه يخلق عالما مهشما. لا يحاكي الحقيقة. لكن، بالنظر إليه من وجهة أخري، يمكنك أن تقول إنه ببساطة عالم بالقدر من التهشم وعدم قابليته للتوقع الذي يتحلي به العالم الذي نتحرك فيه يوميا. ومن ثم هناك عنصر للبهجة في هؤلاء الناس الذين يعيدون ترتيب الواقع. في الغالب نحن نتمسك بإمكانية التوقع الخاصة بتجاربنا إلي حد كبير.. ولا يوجد مكان آخر يستطيع المرء فيه أن يهرب من هذا بنفس العمق الذي يستطيعه المرء في عمل شعراء معينين. عندما أقرأ الشعر، أريد أن أشعر بنفسي أكبر فجأةً... علي تواصل مع- أو علي الأقل قريب إلي- ما أعتبره سحريا، مدهشا. أريد أن أجرب نوعا من العجب. وعندما ترجع إلي عالمك اليومي الخاص بعد اختبار غرابة عالم قد تم إعادة تركيبه وتنظيمه بشكل ما في أعماق روح شاعر، يبدو العالم أكثر طزاجة بشكل ما. عالمك اليومي يكون قد تم اجتزاؤه من سياقه. وتمت كتابة صوت الشاعر علي كل أجزائه، من جهة، ولكن أيضا يبدو أكثر حيوية، ليس فقط مرتميا هناك بشكل روتيني.
بالطبع، عندما تتحدث عن الشعر بهذه الطريقة، فأنت تفترض أن القارئ مستعد لأن يجتهد بشكل ما في تتبعك- في مفارقة مع الكتابة للمسرح علي سبيل المثال، حيث من الطبيعي أن يقول زملاؤك، الناس لن تفهم هذا. وضّحه.
- أظن أن الشاعر يكتب القصيدة وهو يعرف أنه لا يجب أن يُفهم في القراءة الأولي أو الثانية. إنه يكتب القصيدة آملا أن القصيدة سوف تُقرأ أكثر من مرة أو اثنتين، وأن مغزاها سوف ينكشف عبر مسار الزمن، أو أن معناها سيكشف نفسه عبر مسار الزمن.
عندما تقول إنك تأمل أن تُقرأ القصيدة أكثر من مرة أو اثنتين، كم مرة تقصد؟ كم مرة تقرأ فيها أنت القصيدة؟
- عندما أكتب قصائدي. أقرأها مئات المرات لنفسي. ولكن عندما أقرأ قصائد الآخرين، فسأقرأها عشرات المرات، أحيانا أكثر من عشرات المرات. لاأعرف لماذا قد يبدو هذا غريبا. الشخص العادي الذي يذهب إلي الكنيسة ويعيش في حزام الكتاب المقدس (منطقة في جنوب شرق و جنوب وسط الولايات المتحدة تنتشر فيها البروتستنتية:مترجم) سيكون قد قرأ نفس الفقرات من الكتاب المقدس مئات المرات، وستكون قد انكشفت له أكثر في كل مرة.
الممثل في مسرحية ما يمر بنفس الإجراء، حقا، والتمثيل قد يُري بمعني ما علي أنه شكل من أشكال القراءة، علي ما أفترض. يقرأ الممثل النص مئات المرات، ويري تلميحات أكثر ومعاني ممكنة مختلفة في كل سطر، وفي الوقت ذاته ينظر عبر الكليشيهات المختلفة للتأويل التي قد يكون طلي بها مخطئا كل سطر في القراءة الأولي.
- القارئ الجيد للشعر ربما يكون مشابها جدا للممثل الذي يشتغل علي دوره، لأنه يقرأ القصيدة عاليا لنفسه مرة بعد مرة، وأحيانا يحفظها عن ظهر قلب. وتصبح مألوفة. في النهاية تصبح جزءا منه.
يمر الممثل بتجربة المسرحية مرة بعد مرة. ولكن فرد الجمهور لا يفعل. المسرحيات مختلفة للغاية عن الشعر، لأنها تكتب بافتراض أن كل شيء سوف يتم استيعابه في التو.
- المسرح مَعْنِيٌّ بأن يُسمَعَ من قبل جمهور عريض ويجب أن يوصل أشياء كثيرة في أول تجربة تلك، في أول اتصال هذا. القصيدة تطلِق نفسها، تفرز نفسها، ببطء ذ لدرجة السُمّية أحيانا- في عقل القارئ. تفعل هذا وفق إيقاع، وتفعله بتركيبات من الممكن أن تبدو للقارئ جميلة. بالطبع، الله وحده يعلم ما هو الجميل. أنا لا أعلم. لأن الجميل بعد خمسين سنة سيكون ما يبدو قبيحا الآن. أو ما لا يمكن دعمه الآن، وبالكاد يتم احتماله الآن. ولكن، تعرف، أظن أنك إن حاولت بجد لكي تكون مفهومًا في التو من قِبَلِ جمهورك، لو أعطيت الكثير من أجل اللحظة الأولي، فإنك أيضا تعطي الكثير للوضع الراهن. التزام الشاعر ليس تجاه جمهوره بشكل أوّليّ، ولكنه تجاه اللغة التي يأمل هو أن يديمها. وعندما تفكر في الوقت الذي نستغرقه لنفهم بعضنا، علي سبيل المثال- كيف نعطي فسحةً لمناطق أخري من المعرفة في حياتنا- لماذا لا يمكننا أن نكون أكثر صبرا مع الشعر.
ربما لا يكون قارئ النيويورك تايمز هو الإطار العقلي المناسب لقراءة الشعر.
- لا يمكنك أن تتوقع القفز من النيويورك تايمز إلي جون أشبيري أو جوري جراهام. اللغة موضوعة في امتحان مختلف. ومُستخدمة لغايات مختلفة. لغة القصيدة معنية بأن يُتأمّلُ فيها. إنك تفسح مساحة نفسية للشعر مختلفة عن تلك التي تفسحها للنثر. إنها مساحة تحوم فيها الكلمات كبيرةً. وهذه المساحة النفسية المُصفّاة التي تعدُّ نفسها للقصيدة هي التي تُقرَأ فيها القصيدة و تُسمَع.
ولكن كيف يمكن للمرء أن يعدَّ مساحة نفسية كهذه؟
- لو قضيتَ الكثير من الوقت وحدك، خاصة لو كنت تفكر في حياتك، أو حيوات الآخرين، فأنت بالفعل معتادٌ علي المساحة التي أتكلم عنها. هناك رسامون معينون أعرفهم تعني لهم لغة الشعر الكثير جدا. وربما كون هؤلاء الناس يقضون الكثير من الوقت أمام لوحاتهم، وحيدين، من دون أحد ليتحدثوا معه، هو السبب في استعدادهم: إنهم مستعدون لاستقبال القصيدة في الداخل. عقولهم ليست مليئة بالكثير بالضوضاء والتخبيط والرغبة غير المتحققة. أعني، يجب أن تريد أن تقرأ الشعر؛ يجب أن تكون لديك إرادة أن تلْقَاه في منتصف الطريق ذ لأنه لن يقترب أكثر من ذلك لو كان جيدا. للقصيدة كرامتُها، بعد كل شيء. أقصد، القصيدة لا يجب أن تتوسل إليك لتقرأها؛ سيكون من المثير للشفقة، لو كانت تلك هي الحال. بعض الشعراء يخشون ألا يسمعهم أحد لو لم يدلّلُوا القارئ، ويذهبوا تسعين بالمائة من الطريق، ويفعلوا كل شيء من أجل القارئ. ولكن ذلك مثير للشفقة.
اللعنة! أنا قلقٌ نوعًا لأننا لا نعيش في العالم الصحيح لنقرأ ما تكتبه أنت والشعراء الذين يعجبونك.
- الشعر- علي الأقل الغنائي- يحاول أن يقودنا لنرتحل داخل ذواتنا. ولكن كل ما نريد أن نفعله هذه الأيام هو أن نهرب من أنفسنا. لا يريد الناس أن يجلسوا في البيت ويفكروا. يريدون أن يجلسوا في البيت ويشاهدوا التلفزيون أو أنهم يريدون أن يخرجوا ويستمتعوا. والاستمتاع ليس تأمليا في الغالب. ليست له أية علاقة بإعادة تقييم التجربة الشخصية وإيجاد ماهية المرء نفسه، و ماهية الشخص الآخر. لها علاقة فقط بحرق الطاقة. عندما تذهب إلي السينما، تنجرف في التأثيرات الخاصة والأحداث الوحشية. تنْفَضّ الأشياء بسرعة مثيرة. ولا تُعطي ثانية واحدة لتتأمل المشهد السابق، لتتأمل في شيء حدث للتو- فقد حدث شيء آخر بالفعل.
من الغريب أن نظن أننا نهرب إلي مجموعة كبيرة ومتنوعة من المتع، ولكن في الواقع، غالبا ما يتضح أن بين تلك المتع المتنوعة ظاهريا الكثير من العوامل المشتركة.
- يبدو أننا نريد إشباعا لحظيا. الأفلام العنيفة تمنحك الإشباع اللحظي. الأحداث الرياضية تمنحك الإشباع اللحظي. العاهرات يمنحنك الإشباع اللحظي. هذا ما يبدو أنه يعجبنا. ولكن ما يحتاج لجهد، ما يكشف نفسه فقط علي المدي الطويل، ما يتطلب بعض التعلم، الصبر، أو المهارة- والقراءة هي مهارة- ليس هناك وقت كافٍ له، كما يبدو. ننسي أن هناك إثارةً حاضرة في المتع الأبطأ، المتع التي تصبح أقوي بشكل متزايد كلما قضينا وقتًا أكبر في مطاردتها.
كل النشاطات التي ذكرتَها ليست نشاطاتٍ كلامية. ربما تخسر اللغة عموما في نوع ما من المنافسة الغريبة في العالم.
- ولكن من جهة أخري، فنحن نُحدّث بعضنا. ونقرأ أشكالا أخري من الكتابة، غير الشعر. سنكون وحيدين إن لم نستخدم الكلمات. فنحن معتمدون عليها. نحن معتمدون عليها بشكل ما. وهذا الاعتماد لا يتخطي ليصل للشعر.
ربما يتحاشي الناس الشعر لأنه بشكل ما يجعلهم عصبيين أو يوترهم.
- هم لا يريدون أن يشعروا بأي تقارب مع المجهول- أو الغامض. الأمر كثير الشبه بالموت؛ ومُهدِّدٌ للغاية. الأمر يوحي بإمكانية فقدان السيطرة مباشرة عند المنعطف القادم.
عندما تقول "شبيهٌ بالموت...."
- عندما أقول المجهول- الموت هو المجهول الأعظم. أعني، معظم القصائد الغنائية تقود إلي نوع من الاعتراف بالموت. في الواقع، معظم القصائد هي أمورٌداكنة ومخيفة تتعامل مع الموت والاحتضار، أو خسارة من نوع ما ذ خسارة الحب، خسارة الأصدقاء، خسارة الحياة. معظم القصائد الغنائية حزينة، لأنك لو فكرت فقط في تجربتك، تفكر في تجربتك في الزمن-حياتك- وإن كنت تفكر في حياتك، لا يمكنك أن تتفادي واقع أنها ستنتهي بالموت. في الحقيقة، كل شيء في القصيدة ذ وزن القصيدة، أو مقياس القصيدة- ينبهك للزمن. حتي تكرار سطر: لقد عدنا ثانية. أعتقد أن شعبية القصائد التي تستخدم لازمة متكررة سببها الأكبر هو حقيقة أنها تبدو كما لو أنها تسمح بالمكوث ضد الزمن، تبدو كما لو أنها تمنحنا إرجاءًا لحظيا لما هو موضوع القصيدة في الغالب، أو لهمّ القصيدة. لهذا، حتي لو كانت القصيدة عن الموت أو الاحتضار، فنحن قد كررنا سطورًا تبدو أنها تقول أننا لم نذهب لأي مكان، لقد عدنا ثانية. لكن في النهاية، فإن ذلك يساعدنا للتمسك بالخسارة التي في القصيدة، يساعدنا أن نتذكرها.
في بعض قصائدك، يكون الموت مزعجا، ولكن في بعضها الآخر، فإنه ليس بذلك السوء.
- إنه أمر حتمي. أشعر بأني أتحرك ناحيته. لهذا فهو موجود في قصائدي. وفي بعض الأحيان يظنني الناس شخصا كئيبا. ولكنني لا أظنني كئيبا علي الإطلاق. أقول ها ها للموت طوال الوقت في قصائدي.
يقول دكتور دورن في "النورس": "الخوف من الموت خوفٌ حيواني. يجب أن تكبته."
- نحن حيوانات أصلا. أوه، نستطيع أن نغلب ذلك مؤقتا. ليس دائما في العقل.
شخصيا، طالما فكرتُ أن الحياة هي المدهشة. معظم الأشياء ميتة، وقد كانت علي الدوام. الحجارة، الماء، الرمل، إلي آخره. ثم، يولد سنجاب. نولد نحن. تفور الحياة إلي أعلي في وقت قصير. ثم تتوقف. لماذا لن تفعل؟ أقصد، ذلك الخوف الحيواني من الموت، الذي قد أشعر به حينما أصحو في منتصف الليل وأفكر أنني مصاب بمرض رهيب...
- هذه هي الطريقة التي تمضي بها الحياة.
نعم، إنها ميزة تطورية أن نملك ذلك الخوف. ولكن بعيدا عن ذلك، فهو خوف غبي بالأحري..
- حسنا، إنه الخوف من ألا نكون هنا.
أظن أنني أغبي من أن أهتم.
- نعم، أنا أيضا لا أهتم. ولكنني لن أختار أن أموت الآن، أو غدا.
لا، لا، سيكون ذلك من المحزن جدا. ولكنني كنت كذلك علي الدوام ذ أقصد، في أبعد ذكرياتي، أمي كانت تأتي وتقول، والاس، حدث شيء فظيع. وأنا سأقول، ما هو؟ وهي ستقول، لقد مات السيد جرابوسكي. ثم لا أعطي أي رد فعل. ويمر الأمر هكذا، حقا، في معظم حياتي. بالطبع، هناك أشخاص معينون تفتقدهم بشكل كبير، لأنهم لن يكونوا هنا مرة أخري. ولكن يبدو الأمر نفسه طبيعيا بالنسبة لي أنه عند حد معين، فإن الناس تموت.
- الأمر الذي يجب أن نبتهج له هو حقيقة أنه كان لنا حظ أن نولد. احتمالات عدم حدوث ذلك فلكية.
فلكية! يمكنك أن تقول ذلك مرة أخري. أوافقك تماما. لكن لو كان الشعر بطريقة ما مزعج بطبيعته ومُرَجّحٌ أن يسبب القلق، هل النثر مختلف؟
- أعتقد أن بؤرة اهتمام الشاعر ليست تماما بؤرة اهتمام كاتب النثر؛ فهي ليست مُركّزة علي العالم الخارجي كليا. بل هي مرتبطةٌ بتلك المساحة حيث يلتقي الداخل بالخارج، حيث تلتقي حساسية الشاعر بالطقس، تلتقي بالشارع، تلتقي بالناس، تلتقي بما يقرؤه. إذا فالشاعر يصف نقطة الاتصال تلك: الذات، حافة الذات، وحافة العالم. أرض الظل تلك التي بين الذات والحقيقة. أحيانا ما تميل بؤرة الاهتمام قليلا لصالح الذات، أحيانا، بموضوعية أكثر، ناحية العالم. وهكذا، عندما يختل الاتزان ناحية الذات، تقال أشياء غريبة، تدخل أشياء فريدة إلي القصيدة. لأنه كلما ابتعدتَ عن العالم الذي يعرفه الجميع. كلما صارت الأشياء أغرب. أقصد، تفعل بعض الروايات هذا، ولكن معظمها لا تفعله. معظم الروايات تركز علي ما هو بالخارج، ويمحو الراوي نفسه، بشكل كبير، ليبقي السرد قائما. بعض الروائيين ا يزجون بأنفسهم، مثلما يفعل فيليب روث، بعبقرية وإدهاش. دائما ما تدوخني كتبه. العالم حي بشكل مُكَهرَب في رعوية أمريكيةعلي سبيل المثال، ولكن الراوي موجود أيضا: روث هو زوكرمان، وهو هناك، يروي الحكاية. لا تغيب عنا أبدا حقيقة أنه يفعل ذلك، ولكننا لسنا واعين تماما بحقيقة أنه يفعل ذلك. بطريقة ما، فإن ذلك الكتاب أكثر سحرا من أي قصيدة قرأتها مؤخرا.
لم أكن أعرف أنك من معجبي فيليب روث الكبار. أنا أيضا! هل تظن أن لك ذائقة قرائية واسعة، أنك تقرأ نوعيات مختلفة من الكتب؟ هل تعد نفسك شخصا يقضي وقتا كبيرا في القراءة؟
- لقد مررتُ بفترات في حياتي كنت أقرأ فيها كثيرا، وفتراتٍ أخري لم أفتح فيها كتابا. هناك روايات بعينها أستمتع بقراءتها وإعادة قراءتها. هناك شعراء أقرؤهم وأعيد قراءتهم. أميل إلي إعادة القراءة أكثر هذه الأيام، لأنني أعرف ما استمتعتُ به، وأحب أن أعود للوراء وأري إن كنت سأستمتع بنفس الطريقة؛ في الغالب هذا مقياس لكم التغيير الحادث فيّ. هناك وقت كنت أقرأ فيه فتجنشتاين. هناك وقت كنت أقرأ فيه للشعراء الرومانسيين، وكنت أقرأ ووردزورث كثيرا. لم تكن هناك أي فترة في حياتي كناضج لم أقرأ فيها والاس ستيفنز أو إليزابيث بيشوب. لم تكن هناك أي فترة في حياتي كناضج لم أستمتع فيها بقراءة فيليب روث أو من جهة أخري صامويل بيكيت.. أو إيتالو كالفينو، أو توماسو لاندوفلي. أو برونو شولتز أو فرانتس كافكا. شعراء عظام كأوكتافيو باث قرأتهم وأعدت قراءتهم عبر السنوات، جوزيف برودسكي، ديريك والكوت. هناك أيضا شعراء شباب كنت أقرأهم بدهشة: جوري جراهام، تشارلز رايت، تشارلز سيميك.
أعرف أنك تتقن عدة لغات- الإسبانية، البرتغالية والإيطالية علي الأقل- لقد قمتَ بكمٍّ معين من الترجمة. هل كانت تلك تجربة قيمة بالنسبة لكتابتك؟
- الترجمة تشبه اللعبة إلي حد كبير. إنها لعبة جادة، بسبب أنها وبشكل نهائي، هي قراءتك لعمل شاعر آخر. ولكنك تطور حسا بالإمكانية النحوية- تقوم باختيارات، يجب أن تقول لنفسك وأنت تترجم: هل يجب أن أفعلها بهذه الطريقة أو بتلك؟ عندما تكتب عملك الخاص، لا تسأل نفسك تلك الأسئلة. ربما في مرحلة تالية علي كتابة القصيدة، تقول لنفسك بشكل موضوعي، أحتاج كلمة من مقطعين هنا، بنبرة علي المقطع الأول. يجب أن ينتهي السطر هنا، بدلا من هناك. يجب أن تكون هناك إمالة في القافية، بعض التسجيع، أو شيء ما هنا... ولكن عندما تكتب، في البداية، عندما تكتب، لا تسأل نفسك تلك الأسئلة. عندما تترجم، دائما ما تفعل.
في الترجمة، تنظر إلي لغتك الخاصة من منظور تحليلي استثنائي، تفككها وتري كيف تعمل، تدرس بنيتها بطريقة عملية. ماذا كنت تقصد عندما قلت أن مسئولية الشاعر الأولي هي تجاه اللغة؟
- في كتابة الشعر، يريد المرء مرونة معينة في استخدام اللغة، مرونة يمكنها أن تبقي النجاحات اللغوية الحادثة في الماضي حية، أعني، القصائد اأخري، وهذا أيضا سيؤمن للشعر الحادث في المستقبل إمكانية أن يُرَسْمِلَ النجاحات بدلا من الإخفاقات. في الحقيقة فنحن نأخذ الكثير من التلميحات عن كيفية الاستمرار، وأفكارنا عما هو السطر الجيد، أو السطر الجميل، مما اختبرناه في شعر الماضي. بكلمات أخري، سيكون من الجميل أن نعرف أن شعراء المستقبل قد قرؤوا أحسن شعراء اليوم والأمس، إنهم لن يعمدوا في قصائدهم إلي اتباع تقارير إخبارية أو دلائل تعليمات. تفهمني؟ كي يحدث شيء من الاستمرارية في لغة الشعر. لأنها معقدة، ولكننا نُعرَّفُ بأحسن ما كتب في لغتنا لهذا نريد أن نُخَلّدَ أحسن ما كتب في لغتنا. لو صار الشعر مجرد مراجعة لصفحة في جريدة أو الرؤوس المتكلمة في التليفزيون، ليست هذه اللغة التي ستستمر؛ إنها ليست اللغة التي تُتَرجَم إلي المستقبل.
ولكن إذاً ما الذي ستظنه في شاعر، أو شخص يقول أنه شاعر، لنقل طالب أتي إليك وقال: حسنا، أنا مهتم فقط بالحاضر. لا أعرف شيئا عن شعر الماضي، لا يعجبني، ولست مهتما به بشدة؟
- سأسأله، " ما الشعر الذي قرأته وجعلك تشعر أنك تريد كتابة الشعر؟ لأنه عادةً ما يشدنا ناحية الشعر هو الصوت الفردي الذي نريد أن نسمعه- صوت ووردزورث، صوت كيتس، جيمس ميريل، أنتوني هيكت، أيا كان الصوت. وما يحدث أن الشخص الذي لا يشعر بأية رغبة ليسمع أصواتا كهذه لن يصبح له هو نفسه صوته أصيل.
إذا فأنت وبطريقة ما توافق الكتاب الأكاديميين الذين دائما ما يبدو أنهم يشيرون إلي أن آباء القصائد قصائد أخري، علي عكس ما أتساءل عنه دائما، وهو: لماذا لا تكون التأثيرات الأكبر علي الشاعر هي تأثيرات الناس الذين عرفهم، أو الخبرات والتجارب اليومية، بدلا من القصائد التي قرأها؟
- كل ذلك يعتمد علي الشعر الذي تكتبه. قد يتأثر بعض الناس بأمهاتهم أكثر من تأثرهم بروبرت فروست. يختلف الأمر من شاعر لآخر. ولكن بشكل كبير، أظن أن الشعراء متأثرون بقصائد أخري أكثر من تأثرهم بما يأكلونه ومن يتحدثون إليه- لأنهم يقرؤون القصائد الأخري بعمق، وأحيانا لا يأكلون العشاء بعمق أو يدردشون مع صديق بالهاتف بعمق. لأن القصائد لا تتطلب الصبر فقط، ولكنها تتطلب نوعا من التسليم. يجب أن تتخلي عن نفسك لها. وبمجرد أن تفعل ذلك، وتسمح لها أن تدخل إلي كيانك، بالتأكيد ستصبح أكثر تأثيرا. هذا هو طعام الشاعر الحقيقي، القصائد الأخري، وليس رغيف اللحم.
ولكن ماذا عن فكرة أن الشاعر يجب أن يتأثر بحقل واسع من الخبرات والتجارب، أن الشاعر يجب عليه أن يستكشف الحياة ويدعها تؤثر فيه؟ ألا تشعر أنك يجب أن تفعل كل شيء، ولو لمرة واحدة علي الأقل؟
- لا يجب أن أجرب كل ما في القائمة لأعرف ما الذي يعجبني. يمكنني أن أخمن تخمينا معقولا عما قد يعجبني، وهذا هو الذي سأطلبه. لا أخرج عن طريقي لأجرب كل شيء ممكن، لأن هذا خطير. أريد أن أحمي نفسي. لا أريد أن أجرب الكثير الكثير من الأشياء المختلفة، ولكن أريد أن أجرب أشياءًا أختار أن أجربها بشكل جيد وعميق.
بعض الكتاب، علي سبيل المثال، حاولوا أن يحسّنوا عملهم عن طريق الكتابة تحت تأثير الكحول أو المخدرات.
- هذا يشكل حاجزا. أقصد، لو أنني قد شربت عدة كؤوس، لن أشعر أنني أريد الكتابة. سأشعر أنني أريد كأسا آخر. أو سأشعر أنني أريد النوم.
ولكن إن كانت القصائد، بما فيها قصائد من الماضي، هي طعام الشاعر الحقيقي، ألا يؤدي ذلك إلي نتائج غريبة؟ علي سبيل المثال، يبدو أن الشعراء دائما ما يحبون أن يقتبسوا من قصائد أخري في قصائدهم. أعني ذ يا إلهي ذ لو أن كاتبًا مسرحيا معاصرا وضع سطورا من مسرحية من القرن التاسع عشر في إحدي مسرحياته، سيعتبر ذلك، أكاديميا بشكل سخيف.
- الكثير من ذلك يمكنه أن يكون مُنهِكًا ومتغطرسا. ولكن أحيانا ما يكون مبهجا؛ أحيانا ما يكون هناك سطر مناسب يليق بقصيدتك، ويكون آتيا من قصيدة عمرها ألف سنة. الشعر دائما ما يبني تلك الروابط. ليس هذا تباهيا. إنه التعبير الشفاهي عن الحياة الداخلية للإنسان. وكل شاعر يصنع حلقة في السلسلة، حتي تستمر.ربما تكون هذه طريقة متكلفة نوعا في التفكير في الأمر، ولكنها بالتأكيد ليست أكاديمية. أقصد أن الأكاديميين يعرفون القليل حقا عن الشعر؛ يعرفونه فقط من الخارج. بعضهم قراءٌ مثاليون، ولكن وظيفتهم أن يصنعوا الروابط. هذه هي طريقتهم في القراءة، الطريقة التي يضطرون بها للقراءة. ولكن لماذا علينا أن نجعل من الطريقة التي يقرأ بها الأكاديمي نموذجا للطريقة التي يجب علينا كلنا أن نقرأ بها.
ولكن بعض الشعر الحديث، مثل "الأرض الخراب"، كان مليئا بالروابط- روابط و إحالات- لدرجة أن مساعدة أكاديمية طارئة كانت مطلوبة لقراءته.
- نعم، كان من المستحيل أن أقرأ "الأرض الخراب" بدون تدخل نقدي.
ولكن أليس هناك خطأ في هذا؟ أم أنك لا تري ذلك؟ أقصد، أنت لا تكتب بهذه الطريقة.
- لا.
حسنا، لماذا لا تفعل؟ هل ستكتب بهذه الطريقة لو شعرت أنك تريد أن تفعل ذ أم أنه لديك اعتراض علي هذا؟
- ليس لدي اعتراض. إليوت كان شخصا متعلما للغاية، وكما تعلمذ كتب شعرًا مليئا بالإحالات. شعري أكثر اكتفاءًا بذاته. أظن أن هناك أنواع كثيرة ممكنة من الشعرذهناك أنواع كثيرة ممكنة من البشر. الأرض الخراب، أناشيد باوند- هذا نوع من الشعر. حالة متطرفة من الإحالية. هؤلاء الرجال كانوا مصرين علي مراجعة الثقافة؛ ووجد هذا طريقه إلي شعرهم.
وأنت علي استعداد لأن تذهب في هذه الرحلة؟
- بالتأكيد!
إنها تستحق. أنت لا تري في الأمر شيئا شائنا.
- لا. بأي مقياس يمكن أن يكون ذلك مشينا؟ فقط بمقياس سهولة قراءة الجريدة اليومية. ولكن ماذا لو كان مقياسنا هو محاولة فهم الأصعب والأكثر مواربة في أنفسنا. كيف نعرف من نكون، وما نكون؟ كيف نعرف لماذا قلنا ما قلناه؟ لو استخدمتَ هذا كمقياس، فستصبح الأرض الخراب بسيطة. أعني، أقل صعوبة.
المشكلة أنه وبسبب أهمية الشعر الحديث الإحالي، الكثير من الناس، علي الأقل في جيلي، أخذوا في أيام دراستهم فكرةً ملتوية جدا عن ماهية الشعر، وهذا أبعدهم عن الشعر لبقية حياتهم. أشعر بالامتنان لأنه كان لي مدرسي إنجليزية رائعين، لأن السيئين حاولوا بالفعل تعليمنا أن الشعر كان لعبة ببساطة، وفي هذه اللعبة تقوم بتبديل مجموعة معينة من الكلمات بالكلمات المشفرة الممنوحة من قبل الشاعر. عندما قال الشاعر "ماء"، تشبطها و تكتب "بعث" ، إلي آخره. كانت المسألة هي أن هذا رمز لذاك؛ وذاك رمز لذلك. وبطريقة ما، كرهنا تلك الرموز.
- حسنا، من حقكم. يبدو تعسفيا من قبل المدرس، أن يخضعكم، ويخضع القصيدة، لهذا. أعني، لا أظن أن المدرسين المرغمين علي تدريس الشعر يعرفون لماذا يدرسونه، أو ما الذي يمنحه الشعر. بعض القصائد غير قابل لإعادة الصياغة، تماما مثلما أن بعض التجارب لا يمكن فهمهما بالفعل- بالرغم من ذلك نحيا مع تلك التجارب. أعني، يمكننا أن نحب قصيدة ولا نفهمها، كما أظن. ليس هناك سبب يمنعنا من أن نحيا مع قصيدة لا تمنح معناها مباشرة- أو ربما أبدا. أتفهمني؟ كان علي أحدهم أن يسأل المدرس، ما هي العلاقة بين معني القصيدة وخبرة القصيدة؟
لم تكن عندنا تجارب!
- يبدو الأمر كما لو أن إعادة صياغة القصيدة كان مقصودا بها أن تأخذ مكان القصيدة، وضاعت القصيدة.
أخشي أن ذلك ما حدث.
- تعرف، الفكرة هي أن نجرب القصيدة! ولكن هذا ما يحدث في المقابل: تنوب القصيدة عن ما يريد المدرس أن يقوله عنها.
حسنا، أعني، حرفيا، بسبب أنه في كتبي المدرسية القديمة، القصيدة نفسها تكون مغطاة بالملاحظات التي أخذتها عن تأويلات المدرس. الصفحة تصبح دوامة من الأسهم والدوائر والخربشات. لا يمكنك أن تقرأ القصيدة الأصلية أبدًا.
- لا أعرف لماذا يخاف المدرسون من خبرة القصيدة.
حسنا، لأن ذلك يبدو كتمرير المخدرات في الفصل، أتصور ذلك.
- الشعر سطلة. إنه رعشة إثارة. لو تعلم الناس كيف يقرؤون الشعر بالطريقة الصحيحة، لوجدوه ممتعا بشدة.
إنه أيضا تجربة للاتصال القريب مع عقل آخر، شخص آخر.
- حسنا، بالتأكيد ما أريد للقارئ أن يشعره بينما يعايش قصيدتي هو ذ شكل من الحميمية.
نعم. ولكن بالطبع- كيف يمكن أن أقول ذلك- كقارئ، لا أريد أن أشعر بتلك الحميمية مع الجميع.
- نعم ، يجب أن يعجبك الصوت. أعني، يجب أن تحب الموسيقي التي تسمعها.
صحيح. ومسألة الأصوات التي تبهجك هي مسألة شخصية وفردية للغاية. من الصعب التنبؤ بها. مثل تفضيلاتنا الأخري الخاصة جدا والعديدة، تغوص عميقا في نفس الشخص. أظن أن أحد الأسباب التي شدتني إلي صوتك الخاص من دون التفكير في الأمر، بالطبع- هو أنك تستخدم كلمات قصيرة جدا، حتي أنها كلمات سهلة النطق و الهجاء. يعجبني ذلك.ربما أتكلم عن شيء سطحي للغاية- ولكنه صحيح أليس كذلك؟ علي سبيل المثال، كلمة مثل السيتوبلازم، وهي كلمة ذات هجاء غريب- هل أنا محق في أنك تتفادي كلمات كهذه؟
- أتفادي هذه الكلمات لأنني لا أستخدمها في الحديث أيضا. الكلمات العلمية هي غالبا كلمات لاتينية مركبة. لا أفضلها؛ وهي في النهاية مجردة جدا- هي في الحقيقة تمثيلات لكلمات أخري. وعليه فأنا أفضل اللحظية التي للكلمات الأنجلو-سكسونية الخالصة: كلمات المقطع الواحد، تفهمني؟ كلمات المقطعين. تفضيلي كان دائما للجمل البسيطة الخبرية. بالطبع أصبحت قصائدي أكثر إسهابا، الجمل....
لكن الكلمات لم تصبح أكثر تعقيدا، لا أظن ذلك.
- لا.
يبدو دائما أنك تنمو وتتغير دائما كشاعر. هل تسببت تلك الميول التي كانت لك طوال عمرك في أي مشاكل بينما يتوسع كونك الشعري؟
- أظن أن أي شيء ممكن في القصيدة. ولكن المشكلة هي، بينما يتطور الشاعر، فإنه يطوّر حساسية لكلمات معينة- كلمات تخلق أو توحي ببيئات معينة، أو دواخل معينة، أو مواقف معينة. تلك، في الواقع، تصبح هويته كشاعر. وعندما يَطرحُ موضوعٌ بمفردات لم يستخدمها أبدا نفسَه عليه، يكون من الصعب التكيف. سيبدو غريبا وقد يتم إنكاره في الغالب لصالح الكلمات التي يعرف هو أو تعرف هي أنها ستعمل، لأنه في النهاية ذ بالرغم من التجريب و كل الوثوق بنزاهة مسعانا- فنحن نريد أن نكتب المزيد من قصائدنا، المزيد من قصائدنا الخاصة. قصائد تبدو كأنها كتبت بواسطتنا. إنه كبح رهيب. أعني، بطريقة ما، فإن هذا ما يشير إلي عبقرية جون أشبيري- أن لديه ثروة لغوية تحيط بكل شيء. يستطيع أن يتكلم عن جوبّلز، أو الطيور الطنانة.جواريف الفحم، والبواسير، كلهذا في قصيدة واحدة.وبإمكانه فعل ذلك، تقريبا في عشرة سطور ذ وسيبدو ذلك مثل أشبيري! ولكن شاعرا بمفردات مختزلة ذ قل، محصورة علي كلمات من مثل ، زجاج، داكن، حجر- هذه كانت كلماتي لأعوام- لا يمكنه فعل ذلك. سوف يستحضر نفس البيئة الموحشة، لمرات و مرات.لقد شعرتُ أنني يجب أن أخترق ذلك الحد بشكل ما. وهكذا تجد في قصيدتي الطويلة المرفأ المظلم أشياء أخري عديدة نابتة، مارسياس (أحد الساتيرات(مخلوقات نصفها الأعلي بشري والأسفل حيواني) في الميثولوجيا اليونانية مرتبط بحكايات الموت: والمافيا، والموجيك يتم ذبحهم (الموجيك هم طبقة الفلاحين الأقنان في روسيا الإقطاعية:، ونساء روسيات في حفل عشاء...
نعم. وطول تلك القصيدة كان أيضا شيئا جديدا عليك. هل أحببت كتابة القصيدة الطويلة؟
- هناك شيء مريح في كتابة القصيدة الطويلة. أتفهمني؟ لا يجب عليك أن تسنّ الحواف كثيرا. التركيز في قصيدة وحيدة يكون قاهرا أحيانا. لكنه يكون ضبابيا في قصيدة طويلة.
وأنت ارتحت بطريقة ما إلي الكوبليهات الثلاثية تلك؟
- حسنا، أردت ضوابط معينة. أحيانا من المفيد أن يكون لديك قاعدة، أن تحتفظ بعقد بصري. يعطيك ذلك هدفا تصوب عليه، وتبدأ في أن تري أن مقاطع النص تطور نوعا من الإيقاع. أعني، فيما يخص التيمة. لأنك لو عرفت أنه مقطع مكون من ثمانية كوبليهات، فعندما تصل للكوبليه السابع، تعرف أنك تصل للنهاية، ويجب عليك أن تغلق الأمور! بل إنك تفكر في الإغلاق عند الكوبليه السادس.
أظن إنه آلن جنسبيرج من قال أنه بعد سن الخامسة والثلاثين لم يراجع أي من قصائده. المسوّدة الأولي كانت المسوّدة الوحيدة.
- يظن بعض الناس أن هذه هي طريقة كتابة الشعر.
هل اهتممت أبدا بتجريب تلك الطريقة؟
- حسنا، سأحب أن أكتب مسوّدة واحدة لقصيدة وأنتهي منها هكذا، لكن هذا نادرا ما يحدث. حدث هذا مرات قليلة جدا. تفهمني، لست من العبقريين الذين يفعلونها بشكل صحيح في المرة الأولي. ولكن هناك ناس تفعل هذا.
ربما هم موجودون. لن نعرف أبدًا- ربما يخفون في السر آلاف المسودات لقصائدهم. علي أية حال، من يهمه ذلك؟ لو قرأنا شيئا وأعجبنا، لا يهمنا إن كان أحدهم قد أمضي وقتا طويلا أو قصيرا في كتابته.
- لا أظن أن الكاتب يجب أن يهتم. سنكون محظوظين لو كتبنا بعض الأشياء الرائعة في حياتنا، وربما نكون قد كتبناها بالفعل. إذا، من يعرف؟ لا أعرف شيئا عن قيمة عملي كل ما أعرفه أن هذا ما أفعله، وما أحب أن أفعله.
هل شعرت باختلاف عندما وصلت إلي الثلاثين؟ لأنني فعلت.
- أوه، شعرت باختلاف كبير. كنت أكثر طموحا. شعرت أنني كان مقدورا لي أن أحصل علي مكانة خاصة. هذا ما احتجته في تلك الأيام ليجعلني أظل أكتب. ليست بي حاجة إلي ذلك الآن، ولم أعد أؤمن بأي من تلك الهبات. ولكن عندما يتحدث معي كاتب شاب عن تلك الأشياء، أتفهم جيدا ما يعنيه، وأكون متعاطفا.
ولكن علي أي حال، ألا يضايقك أحيانا أن الملايين من الناس لا يبجلونك؟ أعني، ألا تشعر في بعض الأوقات أنه يجب أن تكرّم لكل إنجازاتك في كل مكان تذهب إليه؟ فبعد كل شيء، أنت تستحق ذلك.
- حسنا، بعض الناس يحبون شعري كثيرا. هذا أحسن من ألا يحبه أحد.
ولكن ماذا عن الملايين الآخرين؟
- هناك بعض الناس الذين أعرفهم الذين يشكل شعورهم حيال شعري أهم شيء بالنسبة لي. إن الأمر بهذه البساطة. لا أعرف الكثير من الناس الذين يقرؤون قصائدي. لا أعرف حتي، إن كانوا يحبون قصائدي حين يقرؤونها.لا توجد طريقة أعرف بها، لذلك لا يمكنني أن أقلق لهذا الشأن. ولو أحب الملايين من الناس قصائدي، سأتساءل، بأية طريقة؟ ما هو الشيء في قصائدي الذي ينادي أناسا كثيرين؟ سأبدأ في التساؤل..
نعم، ولكن مع هذا، ألا تمتعض من واقع أن أناسا آخرين بعينهم يتم تأليههم في ثقافتنا ؟ علي سبيل المثال، كنت أستمع مؤخرا لسي دي لإليوت كارتر، وكنت أفكر، أليس من غير المعقول أن ذلك الرجل، الذي أبدع موسيقي بذلك الجمال وتلك اللطافة ( يتضمن ذلك عمله مع إليزابيث بيشوب)، قد تم تكريمه في مجتمعنا بشكل أقل من أناس يكتبون أغانينا مستخدمين ثلاثة أو أربعة كوردات؟ أليس لديه السبب الكافي ليجعله غاضبا من ذلك؟
- الناس التي تحب تلك الكوردات الثلاثة أو الأربعة لن يُعجَبوا بموسيقاه غالبا.
لا.
- وهو لن يريد أن يكون شعبيا في هذه المجموعة.
لا لن يريد ذلك.
- إذا لا مجال للشكوي.
تقصد أن هذين جمهوران مختلفان، إذا فالأمر كعزف موسيقي الأفيال للزرافات.
- هناك سبب وحيد للغيرة من كُتّاب الاغاني هؤلاء، وهو أنهم يكسبون كمًّا من المال يمنحهم نوعا من الحرية لا يمتلكها إليوت كارتر. من الجميل أن يستطيع إليوت كارتر أن يذهب إلي المطاعم التي يستطيع إلتون جون أن يتحمل تكلفتها. ولكن لو كان الثمن هو كتابة الموسيقي التي يكتبها إلتون جون، فهو لن يقبل هذا. وهذا هو الأمر. لو اضطررت لكتابة ذلك النوع من الجمل التي تكتبه جاكلين سوسان، تعرف، أن أكتب النوع من الروايات التي كتبتها، لن يكون بإمكاني أن أرفع رأسي في أي مكان! سأنسل إلي المطاعم- مطاعم باهظة الثمن- و سأنسل إلي فنادق باهظة. وسيكون من العار أن أقول ما الذي فعلته.
ولكن ألا تجده شيئا مريعا، أن مجتمعنا لا يحترم الشعر حتي بما يكفي ليسمح للشعراء أن يساندوا أنفسهم عبر كتابتهم؟
- أظن أن الشعر كان سيصبح مختلفا لو أن الناس تستطيع أن تقتات من كتابته. عندها كنت ستضطر لإشباع توقعات معينة. وبدلا من الضوابط الموروثة التي نقرر بها أن قصيدة ما هي قصيدة، سيكون هناك مجموعة جديدة من القيود، ولن تكون قيودا طويلة الأجل، بسبب أنها مرتبطة بالسوق، وما يمكن بيعه، وما يخاطب الناس علي المدي القريب. لذلك ربما الشعر أحسن بسبب عدم حيازته لأي قيمة مالية.
لو لي حق الكلام عنك شخصيا، يبدو أن، للخير أو للشر، الكتابة تشكل جزءا أساسيا من هويتك، من إحساسك بنفسك- هل أنا محق في ذلك؟
- هويتي مغلفة بلا أمل بما أكتبه، وبكوني كاتبا. لو توقفتُ عن الكتابة، سأشعر بخسارة نفسي ببساطة. عندما لا أكتب، لا أشعر أنني أحيا بشكل جيد. كانت هناك فترة في حياتي، لمدة خمس سنوات، لم أكتب فيها أية قصائد. كانت تلك من أتعس سنين حياتي، ربما الأتعس علي الإطلاق. كتبتُ الكثير من الأشياء الأخري.التي لم ترضني كما ترضيني كتابة الشعر، ولكنني كتبت تلك، فقط لأنني كان علي أن أكون مستعدا، في حال أن عاد الشعر إلي حياتي، وشعرت أنني قادر بما يكفي لأكتب قصائد غير رديئة. أرفض الكتابة حين أشعر أن القصائد التي أكتبها سيئة. هويتي ليست بهذه الأهمية، في النهاية. عدم إهانة ما أعتبرها مهنة نبيلة هو الأهم. أفضل عدم الكتابة علي الكتابة بشكل سيء و إهانة الشعر- حتي لو كان ذلك يعني أنني لن أكون علي ما يرام. أقصد، يبدو هذا ساميا و نبيلا، ولكن في الواقع، هو ليس كذلك. أحب الشعر. أحب نفسي، ولكنني أظن أنني أحب الشعر بنفس قدر حبي لنفسي.
لا يبدو أن لك نفس الموقف الذي لبعض الناس الذي هو، أنت! أنا أستمتع بحياتي التلذذية المخصصة للكتابة والقراءة، وليس لدي أدني فكرة إن كان ما أفعله مفيدا للمجتمع أم لا، ولا أهتم أصلا بذلك.
- لا. ليست هذه حياتي علي الإطلاق. أنا متأكد أن ما أفعله، وما يفعله الشعراء الآخرون، هو شيء مهم.
علي أن أسألك سؤالا شخصيًا آخر. حسنا، لستُ مضطرًا، ولكن سأفعل، لأنني فضولي بهذا الشأن: هل تهتم إن كنت ستُقرأ بعد موتك؟
- حسنا، لكي لا أكون غريبا بهذا الخصوص. ولكن أنا مصاب بنوع من الانقسام فيما يخص ذلك الموضوع. أعني، أحب أن أُقرأ بعد أن أموت، ولكن ذلك إسقاط.
تقصد بسبب أنك تتخيل؟
- أعني، أحب حقيقة أن أكون حيًا بعد موتي. هذا كل ما في الأمر. لا أظن أنه سيشكل بالنسبة لي أي فرق إن قُرِئْت أو لم أُقرَأ وأنا ميت.
صحيح.
- تماما مثلما لا يعني لي شيئا إن كنت ميتا أم لا عندما أكون ميتا. أتري؟ بالطبع هناك كل هؤلاء الناس الذين يجمدون أنفسهم في الكبسولات. يريدون فقط أن يكونوا ويكونوا ويكونوا. وأحيانا أريد ذلك أيضا.
طبعا. إذا فمسألة أنك ستقرأ بعد موتك أم لا ....
- أظن أن معظم من نشروا كتبا، من تكون مهنتهم نوعا من التدوين العام، سيُقْرَؤون لمدة قصيرة ثم يسقطون. أقصد، بعد مدة، يسقط تقريبا كل الناس ليفسحوا مجالا للجديد. أعتقد أن هذا شيء عادل. أتمني فقط أن الجديد، أو التالي، يحتوي الشعر. هذا ما أريده. أظن أن الشعر نشاط إنساني أساسي، ويجب أن يستمر. أعتقد أنه في الدقيقة التي نتوقف فيها عن كتابة الشعر، أو عن قراءته، نتوقف عن أن نكون بشرا. الآن، لا يمكنني أن أسكت عند ذلك، لأن هناك كائنات بشرية في غاية الروعة ولم يقرؤوا شعرا ألبتة، ولكن أظن أنها طريقة من الطرق التي نفهم بها أنفسنا، ونعرف ماذا يعني أن نكون أحياء، حتي لا نتحول إلي آلات. إنه أمر معقد، ولكن أعتقد أنها تلك اللغة، لغة الشعر التي من خلالها نكون بشرا بشكل قابل للتمييز.
نُشِرَ في باريس ريفيو


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.