ابن محلة الكسرة بالعراق الذي كان يخبئ زجاجات البيرة والنبيذ مع أصحابه حين يعود بهم ليلاً إلي بيت العائلة ليسهروا في الحديقة والأهل نيام ، كان ينشر قبل " سيدنا الإنترنت " - كما يحلو له وصفه في أكثر الصحف العربية المعروفة علي فترات وقبلها في صحافة بغداد الأدبية ، مع هذا ظل عنان أسيراً لفكرة مثالية تسيطر علي أغلب المبدعين العرب قبيل إصدار العمل الأول : أن هناك من سيأتي من الناشرين مهرولاً يطلب أعمال المبدع بعد أن " يكتشف " أنه أمام موهبة يمكن أن تصل إلي نوبل . لما تبين له عدم وجود علاقة بين حجم الموهبة وسلوك الناشرين قدم له الحظ فرصة بديلة حين قرأ قصائده المترجمة للفرنسية مع شاعر فرنسي كان بالصدفة صديقاً حميماً له فاقترح نشر الكتاب. بعدها بدأ محسن ينشر بناء علي طلب من صديقه الشاعر عبد القادر الجنابي. حتي اليوم إنتاجه قليل يستشهد برامبو الذي بحسب كلامه " بكل عظمته لم يكتب أكثر من 200 صفحة " مضيفاً بتواضع هو قرين الفنان الحقيقي " مع حفظ الفارق " ، وحين تقرأ لغته تدهمك حالة البساطة ، الحالة الأولية للغة نيئة، بها براءة ما ، لغة بادية الخفوت مكتومة الحزن تصارع عرامتها بإقرارات شَجَنية بين سطر وآخر ، يمكن أن يتخلل نثريتها ما يأتي من الإرث العربي الذي يتسرب إليه بعض الإيقاع القديم . تقرأ لغته فتري ما يشبه الهرب من اللغة حتي قلت له " تبدو مثل " بيكيت شعري " ! .. حَجَزه النأْي الداخلي عن العالم في منطقة يأتيه فيها أغلي ضيفين : الحرية والشعر و منحه " نسيان " الآخرين له أهم ما تحتاجه روحه . صدر لعدنان محسن بالفرنسية " ذاكرة الصمت " ( عن دار لارماتان باريس عام 1994 ) وصدر له بالعربية " إلي آخره " ( منشورات فراديس عام 1996 ) وفي نفس العام صدر له بالعربية كذلك " نصوص عن الغير " ( عن دار الفارزة ، جنيف ) ثم صدر له بالعربية والفرنسية " علي هذه الشاكلة " ( دار لارماتان باريس عام 2005 ) وله في الترجمة " جنازة أنكيدو " ( المنقولة للفرنسية ) للشاعر العراقي الستيني عبد الرحمن طهمازي و " معراج العاشق " مختارات شعرية تم نقلها للفرنسية للشاعر الأردني المهاجر لبريطانيا أمجد ناصر وله كتاب سيصدر قريباً يحوي ترجماته لمقالات عن تاريخ السريالية بجانب ترجمته لكثير من نماذج الشعر العراقي إلي الفرنسية. ياطالب كلية الزراعة الشيوعي العراقي وعضو الاتحاد العام لطلبة العراق وفرقة مسرح اليوم للتمثيل ذات يوم ..احكِ لي، لنا سِفر خروجك من رحم العراق؟ - عندما وصل حزب البعث إلي السلطة في العام 1968 ، كنت جاوزت العاشرة من عمري بقليل. هذا يعني أنّ صباي قد ارتبط بأشد المراحل السياسية في العراق آنذاك تعقيدا. فمنذ وصول هذا الحزب إلي السلطة ، بدأت عملية قطعنة المجتمع العراقي وتبعيثه. وصار شعارهم في تلك الحقبة، العراقي هو بالضرورة بعثي حتي لو لم يكن منتميا للحزب. آنذاك، نشأت علاقة في غاية الغرابة بين الوطن والمواطن. ولم يعد الولاء للوطن معيارا للمواطنةا، فإن لم تكن من البعث فهذا يعني، من وجهة نظرهم أنّك عراقي ، علي قيد الفحص والشك والريبة والمراقبة. وهكذا خلقوا طرازا من العراقيين مشكوك بعراقيتهم. يومئذ، جعلوا مؤسسات الدولة وبعض الجامعات مقتصرة علي البعثيين فقط. بدأ الأمر في المؤسسات العسكرية: الجيش والشرطة وجهاز الأمن، وشيئاً فشيئاً طال التبعيث مؤسسات الثقافة والفن.وهكذا صار الدخول إلي أكاديمية الفنون الجميلة وكلية التربية مشروطا بالانضمام إلي حزب البعث، فلم أُقبل في اكاديمية الفنون الجميلة، إنّما وجدت نفسي، حسب قرار مجلس الإحصاء المركزي، طالبا في كلية الزراعة، أنا الذي لا يعرف الفرق بين أوراق الحنطة والشعير! ومن ذلك الحين، صار كلّ قرار اتخذه مقرونا برغبة عارمة مفادها أن أكون خارج القطيع. وهكذا وجدت نفسي عضوا في الحزب الشيوعي العراقي كرد فعل علي سياسة القطعنة إياها. ودليلي أنني طلّقت السياسة بمعناها الحزبي بالثلاثة حال خروجي من العراق. وبعد انفراد صدام حسين بالسلطة، لم يعد الولاء للحزب وحده كافياً، وتكاثرت صور الرئيس في كلّ مكان وتحول هذيانه السياسي إلي مقولات يتشدّق بها المتشدقون، وجاء شاعر من أهلها ليعلن للملأ : لولاك يا صدام ما خُلق البشر ! ولم يكن للسفر من بد، ولكن العراقي بطبيعته لا يحب السفر، وأذكر أنّ الشاعر العراقي بدر شاكر السياب المولود في البصرة التي تبعد عن الكويت بعدد قليل من الكيلومترات، وجد نفسه غريبا في الكويت القريبة من دارته، حيث أهلها يشبهون أهل البصرة في كل شي ،من الملامح حتي اللهجة، لكنّه كان يتضور حزنا لوجوده ببلاد غريبة! وكان عليّ أن أجيب علي هذا السؤال : أيهما اقسي الغربة في الوطن ام الغربة في خارجه؟ ولم أنتظر طويلا كي أجد ما يناسبني من جواب، وهكذا سافرت ، خرجت كخروج طفل من بيته ولم يعد. اسمح لي بالسؤال : هل ( مسخك ) الخروج بقرار أو اضطرار عدم العودة للوطن أبدا ام حاولت العودة وتعرضت للصدمة أم أنّ تنفسك الشعري والفيزيقي في مهجرك ( رمم ) بعضا مما كنت كما تقول في احدي قصائدك؟ - رغم أنّي كنت مناهضاً للدكتاتورية ولمنطقها، كنت أعرف الفرق بين الوطن وجلّاده، وجدت نفسي مناهضاً للحرب علي العراق ولم يخدعني حلم سقوط الدكتاتورية عن طريق الحرب، وكنت تنبأت بنتائجها فوقفت مع شعبي بقلمي وبما أُتيح لي من السبل، ولكن أحداً لم يمنع حدوثها، إذ قررت الإدارة الأمريكية شن الحرب علي العراق واحتلاله، وكان هذا القرار لا رجعة فيه. لست أنا من مُسخ بل هو العراق مسخ نفسه . فلئن كنت مناهضا للدكتاتورية ورفضت بما أُوتي لي من سبل تلك القطعنة البعثية التي أشرت إليها في بداية الحديث فإنّ رفضي اليوم كامل وقاطع وصريح للقطعنة الجديدة التي حلت محلها، وأعني تقسيم المجتمع العراقي إلي مكونات طائفية وقومية،ه. كان بإمكاني العودة بعد نهاية الطاغية ولكني لم أفعل ولن أفعل، لم يبق لي من العراق سوي ذكريات جميلة، هي الحبل السري الذي يربطني بما تبقي من الوطن. ساسة العراق يتصارعون بعد هدم البيت لا من أجل بناء البيت بل علي الاستحواذ علي مفاتيح بيت مهدوم. وليس لمثلي أن يكون شاهد عيان علي هذا الخراب. مات ورلدك دون أن تراه أن تراه. وتقول في قصيدة: " بداخلي، فزع واحد، أن تتعثر كسرة خبز، في لثة أمي ، وعلي مرأي الغير" . حدثني عن العائلة ؟ - هذه ضريبة التوافق مع الذات. في مكان آخر قلت: " في الزمان الخطأ في المكان الخطأ ولدت... ومن زمان إلي زمان ومن مكان إلي آخر قطعت حياتي كلها مشيا علي الأخطاء." أنا أحتفي بأخطائي، لأنّها أخطائي! هي ماركتي المسجلة ! لم أكن متصالحاً يوما مع نفسي لكني كنت دوما متوافقا معها، ولم أفعل أي شيء يربك هذا التوافق. مات من مات، لكني احترمت ذاتي ولم أضعها في موضع التناقض بين القول والفعل : قررت ألا أعود، وليمت من يموت! أما عن النص الآخر : " في قلبي فزع واحد فزع واحد لا غير أن تتعثر في لثة أمي كسرة خبز وعلي مرأي الغير." هذا نص كتبته عن الحصار الاقتصادي الذي فرضته أمريكا علي العراق لتجويع شعبه.ولم تكن أمي البيولوجية هي المقصودة في هذا النص. فقد كانت بمنأي عن أي حاجة بسبب مساعدة الأبناء العاملين في الخارج. كنت أقصد أي أم عراقية لا معيل لها وعانت من جريمة الحصار هذه ولم يبق لها من عدّة البقاء سوي ما تفيض به عيناها من الدموع .! أما العائلة فأنا الابن الأكبر لعائلة كبيرة.أبي من الجنوب العراقي استوطن في بغداد للعمل فيها وأمي ربة بيت. أجمل هدية قدّمها أبي لي ، أنّه لم يفرض عليّ طريقة عيش أو نمط تفكير يحلو له، وهذه فضيلة كبري في مجتمع شرقي. أما أمي فستموت وفي نفسها شيء منّي. ألح علي مكاشفة روحك للقارئ. بعد ثلثي عمرك في فرنسا.. ألا تدهمك غربة مفاجأة، أم اغترابك أعمق.. وجوديّ؟ .. هل تقيم في منطقة بينّية، تجاوزت ثنائية ( المنفي هو الوطن) و ( الوطن هو المنفي) ؟ - دعيني أقول لك حقيقة صادمة. لم يعد لهذه الثنائية وجود في حياتي. أنا أعيش في فرنسا وأعمل فيها منذ أكثر من ثلاثين عاما. درست في أشهر جامعاتها وحصلت منها علي أعلي الشهادات في الأدب والفن ،وصدرت لي في دور نشرها الشهيرة ستة كتب في الشعر والترجمة، لكنك لن تجدي فرنسيا واحدا يعتبرني واحدا منهم ! وبالمقابل لو عدت الآن لعراق اليوم لن أعثر علي عراقيتي التي نفد مفعولها في زحام الطوائف.بدأ المنفي هناك في بغداد لأسباب سبق أن أشرت لها وعاد الوطن في باريس، في شوارعها وأزقتها. الوطن اليوم بالنسبة لي مفهوم مجرد، وكذلك المنفي. وطني حيث أكون حرا ومنفاي حيث أفقد حريتي. وفي هذا السياق، دعيني أروي لك كابوساً لأغلب العراقيين في الخارج أيام الدكتاتورية (هو كابوس مرّ علينا جميعا ) هو أن يجد الواحد منا نفسه في العراق ولا يستطيع الخروج منه. وعندما نستيقظ من النوم لا نكاد نصدق أن ما حدث كان أضغاث أحلام ، ومن شدة الهلع نفرك العينين كي نتأكد أن ما حصل لم يكن سوي كابوس. تصوري نعيش في ( المنفي ) وكابوسنا ( وطن ) لا نستطيع منه الخروج ! أي وطن هذا وأي منفي ذاك؟ العالم قريتي الكبيرة، قلت هذا ذات يأس من كل شيء وها أنا وقد تقزمت مطالبي إلي أقصاها، ويكفيني اليوم أن أكون مواطنا حيث لا يُعقد لساني وحيث لا يفكر بالنيابة عني الآخرون. تصف نفسك في » شعرك بكونك« الأخير، الآخر، المتأخر، الوحيد الواحد المتوحد، لكنك مع هذا ستطالب بالباقي من دمك. نهجس هنا بقليل من رثاء الذات وتأليهها.. بقليل من إدانة الآخر، نقد الذات. تحت شبهة الحزن الهامد ونبر الوصف المقر بهزيمة هائلة، موحي بها خفيفا، ما الذي ترجوه روحك، ما الذي لا يكف عن ملاحقتك؟ - هذه قراءة للنص وثمة قراءة أخري : لم أصف نفسي بهذا النص ولم أقل أنا الأخير الآخر..الخ فضمير المخاطب في القراءة الثانية يعود إلي ما هو أبعد وأكبر من الشخصنة، قد يكون الوطن الأقرب لهذه التوصيفات. العراق متفرد في كل شيء وحتي في المأساة. وكان بدر شاكر السياب يقول في قصيدته الشهيرة " أنشودة المطر" : .. وكلّ عام حين يعشب الثري نجوع ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع. وقال مظفر النواب: "جوع وثلاثة أمطار". العراق هو الأخير لأنه لا يستطيع اللحاق بماضيه، .ولم يكن السياب رائياً ولا مظفر النواب مبالغاً، هذه حقيقة مُرّة ولكنها حقيقتنا. بلد فيه من الموارد ما يكفي لعيش قارة كاملة، أغلبية الناس فيه من الفقراء. ثلاثة أنهار ويشرب العراقيون اليوم من المياه الآسنة. بلد النفط لا كهرباء فيه، وأرض العراق شرّعت للبشرية أول القوانين، لا قانون فيها !. كل هذه التناقضات جعلت منه ( الأخير الآخر المتأخر ، الوحيد الواحد المتوحد). ومن قلة حيلته لا يطلب شيئا بل سيُطالب بالباقي من دمه، أعني وحدته. ماذا تمثل لك الترجمة: هروباً من الواقع، من انسداد الكتابة أحيانا؟ هل كانت مصدراً لرزق إضافي أم تراها تهديداً لشعريتك؟ - أنا لست مترجماً محترفاً وعلاقتي بالترجمة يمكن وضعها في مصاف الهواية. أترجم فقط النصوص التي تروق لي وأحسبها ضرورية . ساعدتني الترجمة في الاقتراب من الأدب الفرنسي والوقوف علي أسراره ومتابعة تاريخه ومراحله ، كما أنّي قدّمت الكثير من النصوص العربية إلي الفرنسية، محاولة مني للمساهمة في نشر الإبداع العربي في فرنسا. لا يمكن للترجمة أن تشكل تهديداً للشاعر، فمنذ شارل بودلير إلي يومنا هذا لم يكف الشعراء من محاولة تقديم الآخر في لغته الأم. وثمة عبارة وصلتنا عن اللغة اٌلإيطالية تقول إنّ الترجمة خيانة. والمتفحص لهذه العبارة يري كلمة الخيانة باعتبارها إعادة صناعة النص ومن ثمّ تكرار صياغته بفضل عملية خلق جديد.= وشخصيا تعلمت كثيرا بفضل الترجمة : من السرياليين تعلمت صياغة الصورة الشعرية وحب المفارقة، ومن أراغون وإيلوار عرفت أهمية الموسيقي الداخلية للنص، ومن رينيه شار تعلمت الإيجاز وتشذيب النص من الحشو والزوائد، ومن روبيرت ديسنوس تعلمت التلقائية والعفوية. وهكذا كما ترين أنّ الترجمة ممكن أن تكون من الروافد الشعرية للمترجم شريطة ألا يذوب نصه في مياه النصوص التي يترجمها. إذن أنت مع إنتاجك الشعري القليل نسبياً لا تقلق من مزاحمة ( صورة ) المترجم ل ( صورة ) الشاعر؟ - إنتاجي الشعري قليل وحسب، وأعني يمكن حذف كلمة نسبياً بسهولة. علي مرّ العصور ثمّة نوعان من الشعراء : المقلون والمكثرون، ولا أحسب أنّ قيمة الشعر تكمن في كثرته أو قلته. حدثني أحد الشعراء العرب الذي زاد عدد صفحاته علي أكثر من ثلاثة آلاف صفحة قائلا: لو بقي لي من كل هذا عشرون نصاً يمثلني سأكون في غاية السعادة. ولست بحاجة أن أذكرك بأنّ عظمة رامبو تجسدت في 200 صفحة من الشعر الخالص. تقر بهويتك بوضوح في ( مزايا الرماد) قائلا» أعرف أني نسيت في مدن النار مزايا الرماد،أن النخل شبيهي، والنهر آخر القادمين« وثمة ملامح في شعرك تسحب من إرث الصوفية الإسلامية( النفري مثلا) ومن الإرث المسيحي، قولك :" يا أبانا الذي في الشوارع"، وقصيدة إصحاح الخوف والإرث الديني اليهودي في قولك:" كنت انتزعت جدارا لمبكاك" ، طوال قراءتك يهب عليّ شيء حزين موسوم في أعماقك بلغة حنون هادئة مقتصدة. هل كان يمكن أن تكتب هكذا لو لم يسقط العراق. لنطرح السؤال معكوسا: هل يمكن أن تتغير شعريتك لو نجا العراق؟ - ثمة مثل فرنسي يقول مع ( لو ) نستطيع أن نضع باريس في قنينة ! ويقول العراقيون لو يُزرع ال ( لو ) لا ينبُت. يعني كل شيء ممكن عند الفرنسيين وكل شيء غير ممكن عند العراقيين! أفضل الإجابة علي هذا السؤال عن طريق الحديث عن هويتي الشعرية، وهي خليط وحصيلة لما تراكم في الذاكرة. دعيني أنقل لك هذه المقارنة الطريفة بين الغذاء والقراءة: تأكلين تفاحة وهي المادة الخام تتحول بفعل عملية بيولوجية معروفة باسم التمثيل إلي مادة مغايرة تماما للأصل وهي الدم. التفاحة هي المصدر والدم هو النتيجة. وكذلك الحال مع القراءة الخلّاقة. ثمة قراءات ببغاوية تكرر ما قيل تكون نتيجتها تقليد من سبق. وثمة قراءة مشابهة لعملية التمثيل الآنفة الذكر تتحول القراءة فيها بفعل عملية خلق جديدة إلي مادة جديدة لا تشبه المصدر هي النص المكتوب. وهكذا تجدين في نصوصي ( عراق أو بدونه) إحالات مباشرة إلي نصوص معروفة كم هو الحال في هذه الإحالة البودليرية ( كوني ... باسلة يا أخطائي) أو في تلك الرامبوية ( سأستعين برامبو ولن أقبل بغيره )، عندما وضعت العراق علي ركبتي ولم أضع الجمال كما فعل رامبو. وثمة إحالات غير مباشرة لا يلتقطها الّا من قرأ النفرّي والقرآن والإنجيل والتوراة في الأمثلة الواردة في سؤالك. وفي كلتا الحالين، سعيت أن يكون النص قائماً بذاته، بعيداً عن مصادره الأولي، يشير إليها دون أن يكررها، يحتفي بها دون يختفي فيها. أما إذا كان للعراق دور في كلّ فلا أستطيع الجزم بأي شيء. أترك لك الاختيار بين المثل الفرنسي والعراقي! رغم ترجمتك الكثيرة للسرياليين فأنت تكتب دون ظلال سريالية وقصيدتك في الأساس " واضحة ". هل هو اختيار جمالي أم عبء الواقع الذي يعانيه العراق أم أن الوضوح في قصيدتك له علاقة باعتناقك الشيوعية قديمًا أي بوجود تصور ما ولو قديم وشاحب عن وظيفة ما للأدب ؟ - الحقيقة أنني دخلت الحزب الشيوعي باكراً وخرجت منه باكراً، فليس من المستساغ أن نري في نصوصي آثاراً أيديولوجية من هذا القبيل. الوظيفة الوحيدة التي أعرفها للفن وأعترف بها هي الدهشة. وما تبقي لي من ( الشيوعية) هو إيماني الراسخ بأنّ الإنسان أجمل المخلوقات أو إن شئت ( أغلي رأسمال) علي حد تعبير كارل ماركس. ينعكس هذا في سلوكي وقد تجدين له ظلالاً في نصوصي ولكنها ظلال وحسب. أنا منشغل بالهم الذاتي ولكن من فرط فداحة الواقع، تحول ما هو ذاتي إلي هم جماعي، وكأن في ذات كلّ منّا شبيها لها، نحن أمة تجيد شراء البضاعة المنتهية المفعول. خذي مثلا قصيدة النثر، ما زلنا للآن نسهب في تنظيرات لتحديد ملامح هذا الطراز من الكتابة، بينما في الغرب، في فرنسا تحديدا، حُسم الأمر في منتصف القرن التاسع عشر من خلال مقدمة بودلير عن قصيدة النثر التي لا رأس لها ولا ذيل علي حد تعبيره.وانتهي بشكل نهائي في كتابات ماكس جاكوب في بداية القرن العشرين. وكذلك الحال فيما يتعلق الأمر بالسريالية، فهذه انتهت كحركة أدبية بشكل نهائي في أواسط القرن الماضي ومن النادر أن تجدي من شعراء فرنسا من يقدم نفسه بهذه الصفة. أما عن ظلال السريالية في نصوصي فهي موجودة بشكل خفي في بحثي عن الدهشة وتدوين المدهش عن طريق الكلام العادي. ولو تفحصتِ مجموعتي ( إلي آخره ) لوجدت أنّ العنوان يبعث علي الدهشة: هذه الكلمة التي نكتبها في آخر السطر جعلتها عنوانا لكتاب شعري! وينطبق نفس الكلام علي عنوان مجموعتي الأخيرة ( علي هذه الشاكلة ). وكنت كتبت: " أمام المقصلة بيد أصفق للجميع وبالأخري أرفع نخبا للعدم ". ما هي الدهشة إن لم تكن التصفيق بيد واحدة أمام الجميع ؟! تتردد في نصوصك الشعرية ثيمة الزمن وبالتحديد اللفظي ( فوات الأوان ). ما الذي فاتك أوانه؟ - إنّ فوات الأوان هذه هي موعدنا مع القدر. وصرنا نعطي للمستحيل أرقاماً، رابع المستحيلات، وخامسها وسادسها وسابعها ولا أحد يعرف علي أي رقم ستتوقف مستحيلاتنا الباهظة.فاتنا الأوان في كل شيء. سياسيا، عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، يوم رفضنا قرار التقسيم واليوم يلهث الجميع للحصول علي أقل من ربع ما كنّا رفضناه. فات الأوان في بناء مجتمع مدني وحتي الوطن صار من مشاريعنا المؤجلة. فات الكثير ومن العسير استعادته، وأحسب دون أكون عدمياً أن أواننا فات عليه الأوان. ديوانك الأول » ذاكرة الصمت« خرج بالفرنسية وصححني لو اخطأت من دار نشر مرموقة هي لارماتان، رغم معرفتي بسبب ذلك أريد أن أعرف هل كان حقا بالفرنسية فقط أم توزع المتن بين لغتين؟ وإن كان فرنسياً فقط ألم تحزن لكون تلك البداية أو التدشين لم يكن بالعربية ولجمهور عربي ؟ - ينبغي وضع النشر باللغة الفرنسية في السياق الاجتماعي الفرنسي. لا أبالغ بالقول إنّ أكثر قراء ( ذاكرة الصمت ) هم من عرب الشمال الأفريقي وفيهم أيضا مصريون وعراقيون وغيرهم. أغلب نصوص الكتاب كُتبت باللغة الفرنسية وثمة نصوص كنت كتبتها بالعربية وترجمتها للفرنسية ولكن الترجمة ابتعدت كثيرا عن النص العربي . ليس لي أن أحزن لصدور كتاب باللغة الفرنسية، ولست أول من فعل هذا. هل أنا بحاجة للتذكير بأنّ رائعة جبران خليل جبران ( النبي ) كُتبت بالإنجليزية أولا ثمّ صارت من أهم مصادرنا الأدبية باللغة العربية ؟ . أميل اليوم إلي نشر كتبي باللغتين، كما حصل في مجموعتي الأخيرة ( علي هذه الشاكلة). كما أسلفت لغتك تحزن أكثر مما تغضب.. تشرح هذا شعريا حين تكلمنا عن صرخة تخرج كدمعة بديلا عما لا يُقال. لم ألحظ عندك ألاعيب لغوية تجريبية، لا تهويمات فكرية تؤدي إلي تسييد الغموض والميتافيزيقي واللا معقول، لا كتابة تجعل اللغة ثيمة وهدفا بذاتها كما نلمح في كتابات أوروبية شتي شعرا ونثرا ؟ - أنا أكتب وتنتهي مهمتي عند آخر السطر والقارئ حر في فهم ما يريد. أنا آخر من يعتني بألاعيب اللغة التجريبية، واغفري لي مرّة أخري هذا الاستطراد الجديد ودعيني أن أوجز لك بحثي الشعري بهذه العجالة : اتخذت نصوصي من الكلام العادي مادة لها، وكل ما سعيت إليه وأخفقت في بعضه ونجحت في البعض الآخر ينطوي في هذا المسعي القاضي بتحويل المألوف إلي أليف، وهذه محاولة لتدوين اليومي عن طريق الكلام الشائع. وفي هذا المسعي خطورة كبيرة، حيث يمكن الانزلاق من البساطة إلي التبسيط أو يبقي المألوف يدور في فلك الشائع والمتعارف عليه. من عنوان الديوان إلي آخر كلمة فيه لا تجدين كلمة واحدة تخرج عن المعجم اليومي لكلامنا العادي. وفي إحدي المرات كتبت ( منذ الأبد) وبعد قراءات وجدت أنّ التركيب خطأ شائع. الأبد يحيل للمستقبل ونقول إلي الأبد، فلا يستوي ، والحال، استعمالها في الماضي. واقترحوا عليّ أن أجعلها ( منذ الأزل) فرفضت لأنّ الأزل ليس من قاموسي اليومي رغم بساطة الكلمة، ووضعت بديلاً عنها عبارة ( منذ عصور ). ما أريد قوله أن اختياري للكلمة محكوم بشيوعها ودوري أن أنقل هذا الشائع شعرياً. كان أحد شعراء اليونان الكبار يقول : "لا أريد أن أتحدث إلا بهذه البساطة وأن أُمنح هذا المجد"! كل موت لمثقف أو شاعر عراقي صديق في المنفي كيف تتعامل معه؟ - الصداقة الحقة في الغربة وطن. وغياب ألأصدقاء يعني بالنسبة لي ، أنّ جزءًا من الوطن يتواري وموتهم يقلل من مساحة وطن افتراضي . ما الذي تشعر حياله بالذنب؟ في قصيدة ( لست أكثر من غريق..) نعود إلي ال ( أنا ) الجماعية، وإذا كان هناك إحساس بالذنب فهو جماعي ! ما اللغة التي تحلم وتجد نفسك تتكلم بها في أحلامك وأنت نائم؟ - يحدث أن أتحدث بالفرنسية والعربية أيضا ، ولكن عندما أغضب أتحدث بالعربية فقط .