إلي متي تظل آثار مصر عرضة للإهمال.. متي نفيق من سباتنا العميق للحفاظ علي آثارنا وتاريخنا.. متي نتحرك لإنقاذ ما تبقي من ذاكرة الأمة.. اليوم معنا مثال صارخ للإهمال الشنيع الذي يضرب آثارنا التاريخية.. إنه »حوش الباشا» أحد مقتنيات العائلة الملكية في مصر والذي دفنت به معظم أفراد تلك العائلة وخاصة أبناءه وزوجاته.. الحوش يغرق الآن في بحور الإهمال والنسيان.. فقد أكلت منه المياه الجوفية وأحاطته القمامة من كل جانب كما أن شواهد المقابر داخل الحوش تحطمت تماما.. »الأخبار» في زيارة سريعة داخل حوش الباشا بمنطقة مقابر الإمام الشافعي بالسيدة عائشة لتنقل بالكلمة والصورة مظاهر الفوضي التي تضرب مقابر العائلة الملكية لعلنا نحدث شرخا في جدار صمت المسئولين. حوش الباشا يعتبر من أحواش الأمراء اشتراه محمد علي باشا، ومؤسس الأسرة العلوية وحاكم مصر ما بين عامي 1805 إلي 1848 واستطاع أن ينهض بمصر عسكريًا وتعليميًا وصناعيًا وزراعيًا وتجاريًا، مما جعل من مصر دولة ذات ثقل وعراقة في تلك الفترة، إلا أن وضعها هذا لم يستمر كثيراً بسبب ضعف حلفائه وتفريطهم في ما حققه من مكاسب تدريجياً إلي أن سقطت دولته في 18 يونيو سنة 1953 م، بإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية في مصر.. ومن هنا تبدأ جولتنا في حوش العائلة الملكية لأسرة محمد علي باشا بمنطقة الإمام الشافعي.. فقد اشتراه محمد علي حينما توالي عليه وفاة أبنائه في حياته، إلي أن اجتمعت العائلة جميعها في تلك الحوش، وظل محمد علي في وحدته حتي في قبره يدفن بمفرده في مسجد محمد علي بالقلعة... ووسط تلك الجموع الكبيرة من المقابر تحتضن في وسطها مقبرة أبناء وأحفاد والي مصر وصاحب النهضة الحديثة محمد علي باشا لكن من الغريب أنها تلك المقبرة الوحيدة التي تقبع في مكانها يكسوها الحزن ولا تجد من يقرأ الفاتحة علي أرواح من تحتضنهم من أفراد العائلة الملكة.. ولا يقتصر الأمر علي قراءة الفاتحة ولكن الأخطر من ذلك أنك منذ وأن تصل أمام الحوش وتري جموعا من القباب تعلوه تشعر بشماخة وعظمة المكان ومن به ولكن بعد أن تخطو الباب وتتجه إلي الحجرات الداخلية تلاحظ تصدع الجدران وارتشاح مياه علي الحوائط وسقوط بعض شواهد المقابر وتصدع بعضها، وارتشاح الأخري مما أدي إلي انفجار الرخام وتشققه من عليها وانتهي به الأمر إلي تغطيته بلوح من الخشب ليس أكثر ولم يفكر أحد في ترميمه أو محاولة إصلاح ما فسد حفاظاً علي الأثر. ميزانية ضعيفة! وأعرب أحمد مطاوع مدير تطوير المواقع الأثرية »أن الحوش مسجل أثرا لكن عمليات الترميم تحتاج إلي ميزانيات عالية لترميمه، في حين أن وزارة الآثار قائمة علي ميزانية ذاتيه ولا توجد أموال كافية ولكن نسعي نحو الحفاظ علي الأثر». وفي جولة »الأخبار» داخل حوش الباشا أوضح لنا محمد سعيد مدير آثار منطقة الإمام الشافعي والمشرف علي الحوش قائلاً: »إن ذلك الحوش خصص لمدافن أسرة محمد علي باشا أنشئ علي مساحة مستطيلة الشكل لها واجهة واحدة رئيسية هي الواجهة الغربية تطل علي شارع الإمام الليثي في منطقة الإمام الشافعي تحديداً خلف ضريح الإمام الشافعي وهي المقبرة الوحيدة الموجودة في المنطقة التي يوجد حارس علي بابها ومسجلة كأثر وتذكرة المكان لا تتعدي 5 جنيهات لكن مع الأسف نادراً ما يأتي أحد إلي المكان ويكاد يكون غير معروف. من الراقدون؟ واستطرد لنا محمد سعيد قائلاً: »إن أول غرفة في واجهة المدخل فهي غرفة مستقلة تقع فيها مقبرة شفق هانم أم الخديو توفيق وزوجة الخديو إسماعيل فهي كانت من إحدي جواري القصر إلي أن تزوجت من الخديو إسماعيل وأنجبت منه ابنه توفيق صارت أميرة من أمراء القصر. أما الغرفة الكبري التي تجاور غرفة شفق هانم فتقع فيها مجموعة شواهد مقسمة بين أسر إبراهيم باشا والذي يستقل مدفنه في غرفة أصغر من شقيقته وإلي جواره مدفن زوجته ويليه مدفن ابنتهما الصغري ذات الثلاث سنوات.. وفي الناحية الغربية تقع مقابر أسرة إسماعيل باشا ثم مقابر أسرة طوسون باشا وحرمه وتليها مقابر الخدم والحشم تقع بخلفهم، ومجموعة من المماليك يبلغ عددهم 40 مملوكاً يقال إنهم من ضحايا مذبحة القلعة التي وقعت في 1811م، والبعض يروي لنا بأن المكان كان في البداية مختصا بمقابر المماليك إلي أن اشتراه محمد علي لعائلته. وإذا تأملت الباب الرئيسي للمقبرة تجده من الرخام ويغطي سقفها قبة محمولة علي أربع مناطق انتقال وقام محمد علي باشا بشراء هذا الحوش سنة 1805م ليبني عليه مدفناً له ولأسرته حيث بني هذا المدفن في أول الأمر بسيطاً يتكون من قبتين ليدفن فيه أفراد عائلته وبعض من رجال دولته.. وعندما مات ابنه طوسون وكان عمره 22 عاماً نتيجة إصابات خطيرة أصابته في إحدي المعارك، لكن محمد علي باشا لعزة نفسه أنكر هذا السبب وأعلن أن مرض الطعون هو من قضي علي حياة طوسون، لذلك قام محمد علي باشا بعمل تركيبة فخمة وضعها فوق قبره أحاطها بمقصورة من البرونز، وتم بناء سبيل عرف باسم سبيل الوسية أو السبيل الأحمر كما قام بعمل تجديدات وإصلاحات بسور مجري العيون استطاع من خلالها توصيل المياه إلي الإمام الشافعي والمدافن. وفي سنه 1883م قام الخديو توفيق بإنشاء حجرة أخري فوقها قبة لتكون مدفنا لوالدته، كما أنشأ أيضا البهو الذي يتقدم حجرة دفن والدته.. وفي عهد الملك فاروق تم عمل عدة أعمال إنشائية حيث تم بناء المدخل الرئيسي للمدافن وقبة المدخل والدهليز المؤدي إلي المدافن كما أحاط المدافن من الخارج بسور من الحجر. وأكد محمد سعيد أن »من أبرز من دفن في هذه المقابر هو إبراهيم باشا ابن محمد علي القائد العسكري الذي قاد الجيوش المصرية حتي وصل بها إلي مشارف القسطنطينية عاصمة الخلافة الإسلامية آنذاك، وضريحه يتكون من ثلاثة طوابق هرمية من المرمر الإيطالي، ومنقوش بالكامل من القاعدة الأرضية حتي أعلي الشاهد بأشكال نباتية وعربية علي الطراز الإسلامي ويمثل في بنائه وزخارفه وحدة هندسية متكاملة الشكل في تناسق هو غاية الروعة والكمال، ويعلو الضريح شاهدان للقبر الأول كتب عليه أبيات الشعر والمدح والرثاء، والآخر كتب عليه تعريف بصاحبه باللغة التركية ويعلوه الطربوش التركي باللون الأحمر.. حيث يعلو كل قبر تاج صغير أو كبير يدل أن هناك بنتا أو سيدة كبيرة تدفن بالمكان ومدافن أخري يوضع عليها طربوش كبير أو صغير يشير بأن هناك طفلا أم رجلا كبيرا.. مشيراً إلي أن الحوش تعرض لسرقات وأعمال تخريبية خلال ثورة 25 يناير لكن حالياً يتوفر الأمن والأمان وترميمه يحتاج إلي ميزانية عالية جداً قد لا تقدر عليه الآثار لأن ميزانيتها محدودة وذاتية. سرقة الحوش وأكد لنا محمود محمد الحارس الخاص بالمكان قائلا: »إن ذلك الجزء من المقبرة الذي يصاحب بوابة الحوش الرئيسية علي جانبيها يحوي مقابر تجرأت علي أرض الحوش من بعد ثورة 25 يناير، فمنها مقابر صدقة ويخصص لدفن رجال من الأوقاف وآخرين من حراس المكان الذين سبقوني والمفتشين والمشرفين علي المكان ومن وقت قريب دفن أحد مفتشي المكان فيه.. وتمت سرقة نجف المكان منذ الثورة.. لأننا حارسان ونبدل مع بعض واحد الصبح والآخر بالليل ليس أكثر، والمكان كبير يحتاج لعدد حراسة أكثر».