عاتبني عدد من الأصدقاء علي ماكتبت من مقالات في هذه الفترة بالذات في "أخبار الأدب" وغيرها، لما يبدو علي هذه المقالات من التركيز في الشأن الثقافي باستمرار بجوانبه المختلفة، والانصراف عن الشأن السياسي الموار والهدار والذي يأتينا في كل يوم بجديد يستوجب التوقف والتناول والتأمل والنظر.. ومع انه من الصحيح علي الأقل من الناحية الشكلية إنني أفعل ذلك بالفعل ، أقصد أقتصر (ظاهريا) علي الكتابة في الثقافة والأدب والفن، ولا اقترب من السياسة والأحداث الجارية.. ومع أن الرد المبدئي الجاهز والمباشر والسريع علي هذا الاعتراض.. قد يتلخص في ان لكل كاتب قدراته المعينة، وميدان تميزه الخاص، وان كل كاتب بل وكل إنسان مهيأ لما خلق له، كما يقال، أو لما يجيده إجادة شبه تامة، ويعرفه معرفة شبه كاملة، وأن للسياسة وتحليلها أناسا متخصصين. ما أكثرهم هذه الأيام في الصحف بأنواعها والفضائيات بألوان إلي.. وللثقافة ومشاكلها أناس عارفون، وللاقتصاد وأبعاده مثلا خبراء معينون.. وهكذا.. وإن العاقل هو من عرف قدر نف سه، وحجم قدراته الفعلية (والفاعلة) وفي أي ميدان هي والتزمها، ولم يجنح بعيدا عنها توقيا للخطل في الرأي، وحذرا من الخطأ في القول.. إلي آخر ما يمكن أن يقال في هذا السياق بهذا الشكل المباشر الواضح وربما المفحم!. ولكننا إذا تجاوزنا هذا المستوي الأولي في تناول الموضوع، فسنكتشف أن هذا الكلام ينطلق في أصله من مفاهيم (تجزيئية) أحادية، مازالت تفصل بين مالا ينفصل، أو يجب ألا ينفصل، لأنه في حقيقة الأمر، فالثقافة جوهريا لا تنفصل عن السياسة، والسياسة لا يجب أيضا أن تنفصل عن الثقافة.. ليس بمعني أن (السياسة) عادة، وكما هو سائد في بلادنا حتي الآن تحدد المنطلقات وأفق الحركة، أو ترسم الاستراتيجيات الكلية للثقافة وغيرها.. لكي تقوم الثقافة بوضع هذا التوجيه السياسي القائد والمرشد موضع التنفيذ.. وإنما كلامي يتوجه إلي معني أكثر عمقا من هذا الارتباط الخارجي الذي مازال يحكم العلاقة بين الثقافة والسياسة، كما قلت، وأقصد به أن الثقافة في العمق ليست مجرد موضوع منفصل تأخذ به السياسة أو لا تأخذ، أو حلية خارجية تضعها السياسة في عروة قميصها علي سبيل التأنق والزينة، أو يافطة براقة تعلق بشكل براني في حفلات تتويج السياسة، أو مناسبات الإحتفاء أو الاحتفال بها فالثقافة بهذا الشكل وبهذا التصور، لا تزيد علي أن تكون طبلة وزمارة ونوعا من مزيكا حسب الله في معية السياسي والثقافي جميعا مجتمعنا حتي الآن، ويغلب علي فهمنا وأدائنا السياسي والثقافي جميعا. أما الثقافة بمعناها الجوهري العميق، فهي روح ضامة وقوية تسري في عروق السياسة، وبنية عميقة قارة تحدد الهوية وتشكل الانتماء، وتدقق الرؤي، وتؤصل المنظور للسياسة، وهي بكل ذلك.. ليست مواضعة منفصلة، ولا موضوعا مستقلا، إلا عند من يتصورونها بهذا الشكل المجزوء المحدود.. وإنما هي كما قلنا روح تسري في الجسد، وبنية قارة في الوعي، ورؤية ثاقبة في العقل، وخبرة ديناميكية مستقاة من منظور الوجدان الجمعي وضميره.. وربما لوكان مثل هذا المفهوم للثقافة حاضرا ومتجسدا من زمن طويل في التعليم بمراحله ومستوياته، وفي الإعلام بمختلف تجليلاته، وفي السياسة نفسها في معانيها كلها.. ربما ماكان للمجمع العلمي أن يحترق بكل مافيه من مخطوطات ومجلدات تاريخية وعلمية، أو يتم الاعتداء علي المتحف المصري وتسرق منه بعض تماثيله ومقتنياته في بدايات الثورة، ربما ما كان يتم أصلا علي مدي عقود وعقود هذا النهب المنظم الفاجر لآثار مصر وتراثاتها جميعا.. إلي آخر كل ذلك، فالأمثلة أكثر من أن تعد أو تحصي.. ولكن غياب مثل هذا المفهوم الشامل المتكامل للثقافة، ومعاملتها باستمرار بشكل منفصل تماما عن مخزون القيم ومنظور الوعي ورؤية العقل وخبرة القرون.. هو الذي جعل الأمور تؤول إلي ماآلت إليه! ومن ثم، فتركيزنا علي الشأن الثقافي فيما نكتب ليس انفصالا عن السياسي كما يبدو ظاهريا، وإنما هو علي العكس تماما، محاولة لإعادة اللحمة الحية بينهما، ومحاولة لردم هذه الهوة المفتعلة البائسة بين ما هو ثقافي وما هو سياسي، ثم ان العلاقة بينهما من وجهة نظري قائمة بقوة فيما كتبت من مقالات عن رد الاعتبار للمثقف وللمؤسسات الثقافية.. الخ لأن هذا الرد اعتبار، ما كان له أن يحضر في التحليل لولا ثورة 25 يناير، التي ردت وترد الاعتبار لكثير من القيم والمعاني والمفاهيم الصحيحة والصحية التي غابت طويلا عن حياتنا العامة والخاصة، فهذا الرد للاعتبار، الذي ما كان له أن يبرز لولا الثورة، هو محاولة لإعادة هذه اللحمة العضوية بين الثقافة والسياسة، وهذا الفهم المعمق لعلاقتيهما، فالسياسة لو أفتقدت للرؤية الثقافية.. بمعني سلم القيم للأمة المصرية وأبعاد انتماءاتها ومنطلقات علائقها مع الكون والوجود والدول من حولها، ومنظور رؤيتها للعالم، ومنطق فهمها للعلاقة بين السماء والأرض، أو الله والإنسان، وفهمها للفن والدين والتاريخ، ومفاهيم العدالة والحرية والكرامة والديمقراطية.. الخ .. الخ لو افتقدت السياسة لكل ذلك لما استحقت اسمها، ولارتبك فعلها لأن هذا الفعل السياسي في هذه الحالة سيفقد بوصلته الهادية، ويفتقد نجمه المرشد، وقيمه الموجهة.. فماذا بيد السياسي أن يفعل؟ وإلي ماذا ينتمي؟.. وعلي أي مقياس يرفض ويقبل، ويناور ويفاوض.. الخ .. ان لم يكن رصيده ورصيد بلاده القيمي والمعرفي والفني والتاريخي والديني والمجتمعي والحضاري بشكل عام.. في ذهنه، وواضحا في وعيه، ومستوعبا في عقله فالسياسي بلا ثقافة.. هو كفاءة بلا معني، وتقنية بلا روح، ومعلومات لا سياق لها، وموقف حائر لا يكاد يعرف لنفسه منطقا في الحركة، وهاديا علي الطريق، ومن ثم تغلب علي مثل هذه السياسة »العشوائية« والارتباك، والإضرار بمصالح الشعوب، ومن ثم تفريخ لابد منه في ظل هذه المواضعات لبنية الفساد، فالفساد، كما هو مفروغ منه، وكما أثبتت الأحداث، يزدهر في جو من الضياع القيمي، وينمو في مناخ من الجهل بالتاريخ، والفقر في الوعي، والضحالة في التفكير، ولعل مرحلة الرئيس المخلوع خير شاهد علي ضياع السياسة إذا افتقدت الرؤية، وضلت الطريق.. لثوابت الأمة وقيمها ومحدداتها.. أي إذا افتقدت هذه السياسة لروحها القومية وأساسها الوطني ومرجعيتها الروحية.. التي هي جوهريا ثقافة هذا الشعب المصري، وما أطولها وأعمقها وأوغلها في تاريخ الإنسان علي هذه الأرض! أخلص من كل هذا، أن الحديث عن إصلاح الشأن الثقافي، ورأب صدوع الهيئات والمؤسسات الثقافية، وتفعيل دور هذه المؤسسات في علاقتها بجماهير الشعب.. هذا دور سياسي لا شك فيه، إذا فهمنا السياسة، علي انها جوهريا تسعي للدفاع عن مصالح الأمة، والتكريس لمواقفها وخياراتها الوطنية والقومية، والعمل علي الارتفاع بوعي الجماهير بنفسها وبتاريخها وبحراك القوي الموجودة في المجتمع.. لما لكل هذا التنوير الفكري والثقافي والاجتماعي من دور سياسي حاسم يتمثل علي سبيل المثال في نتائج صناديق الاقتراع في الانتخابات المختلفة، وإذا كان بعضنا الآن يعبر عن دهشته الكبيرة من نتائج الانتخابات الأخيرة، والدهشة هنا لا تعني الرفض أو القبول، وإنما مجرد الإقرار بالأمر الواقع، ومهما كان رأينا في كل هذه النتائج ودلالاتها، فلابد أن نكون علي ثقة، زن هذه النتائج بحلوها ومرها، هي انعكاس عادل وقاطع لمستوي وأبعاد وعمق العلاقة بين الثقافة والسياسة، وتسجيل لدرجة اقترابهما واقترانهما وتفاعلهما، أو لدرجة انفصالهما وابتعادهما وتنافرهما! وكلما زادت هذه العلاقة في السنوات القادمة (كما نأمل) تمازجا وتناسجا وانسجاما واتساقا، انعكس ذلك علي صناديق الاقتراع، وكلما رسخ هذا الفهم العضوي للعلاقة الشاملة المتكاملة بين الثقافة والسياسة، لتوسع مقابل في فهم العملية الديمقراطية، علي نحو يعكس بالضرورة في مساحات أوسع من الوعي والاختيار وإدراك المصلحة الوطنية في نتائج الانتخابات. وفي كلمة إذا استعرنا لغة الفلاسفة فالثقافة سياسة بالقوة والسياسة ثقافة بالفعل.