فاروق شوشة ترفعت باستمرار طيلة رئاستي لقناة التنوير »المغدورة« عن الرد علي كل ما تعرضت له هذه القناة من هجوم، قام به باستمرار أصحاب أغراض وأمراض وأعراض معروفة للجميع! ولا أنكر بالمقابل أيضاً أن أضعاف هؤلاء من شرفاء المثقفين والمتابعين- الأبرياء من الغرض والمرض والعرض- قد دافعوا دفاعات مشهورة عن هذه القناة، نذكر منهم - علي سبيل المثال لا الحصر- أحمد بهاء الدين شعبان، فريدة النقاش، د. مأمون البسيوني، د. نصار عبدالله، مفيد فوزي، د. مجدي يوسف، محمد بدرالدين، منير عامر، د. مرسي سعدالدين، محمود الأزهري، بشير عياد، عزالدين نجيب، حلمي سالم، جمال القصاص، إدوار الخراط، عبير سعيد، وفريدة الشوباشي وغيرهم.. فالقائمة طويلة جد حق، ولست الآن في معرض رصد لهؤلاء أو أولئك، إنما هي بعض الأسماء التي وردت سريعاً علي الذاكرة المتعبة! ولا بأس أن نعترف، أن الآراء انقسمت فعلاً بشأن هذه القناة، في مراحل عدة من عمرها القصير، ولكن الأمانة تقتضيني أن أشير أيضاً إلي أن الغالبية العظمي ممن انبروا لهذا الموضوع، كانوا مع »التنوير« واستمرارها في لعب دورها الوطني التثقيفي المعروف، والأقلية كانوا ضدها، وكانت لهذه الأقلية باستمرار اعتباراتها وأغراضها الذاتية، مع القناة أو مع رئيسها، لأسباب يطول شرحها، وليس وقتها الآن. المهم.. إنني لم أكن أهتم - في معظم الأحيان- بالرد علي أي هجوم تتعرض له القناة خاصة إذا أحاطت الشبهات بصاحب هذا الهجوم، وحتي بعد سقوط معسكر الجهلاء اللصوص الذين أغلقوا »التنوي« بالضبة والمفتاح، لم أعُنَ بالكتابة عن القناة إلا في مقال واحد، نشر في أكتوبر 8002، وجهت فيه النقد المفحم لأصحاب القرار الخاطئ، في عز وجودهم في مناصبهم، وطبعاً لم يرد أحد علي ما كتبت وقتها! وكان من الطبيعي بعد الثورة، وهو نفس حالي قبلها، أن أزداد ترفعاً كما قلت عن تناول الموضوع، أو عن نقد هؤلاء الناس، لما خشيته- علي نفسي أولاً- من أن أقع في تلك الشبهة التي يقع فيها الضعفاء من الناس، وهي شبهات الشماتة والتشفي.. إلي غير ذلك من المشاعر السلبية، لمن لا يملكون لأنفسهم الآن دفاعاً أو ردوداً.. خاصة أن الواقع الأكبر كله بأحداثه ووقائعه ومآسيه، الواقع الشامل عموماً، أو الإعلامي خصوصاً يشهد علي خطل وختل وخلل هؤلاء السادة، وعن بؤس رؤيتهم، وضحالة أدائهم، وبشاعة استغلالهم لنفوذهم، بما أودي بالوطن، وبسياساته الإعلامية إلي المهاوي التي نعرف، وإلي الفضائح التي نسمع عنها كل يوم، بما يصغر بجوار أمواله وجرائمه وفظائعه.. أي حديث عن قناة التنوير أو غيرها.. ومن ثم آثرت أن ألتزم الصمت!
إلي أن خرج علينا الأستاذ فاروق شوشة في مقاله بالأهرام المؤرخ بالأحد 8 مايو، تحت عنوان »معضلة الإعلام المصري- 4« بتخريجات وتحليلات وإطلاقات وتعميمات، تقدم- من وجهة نظره - أوراق اعتماده - لا أدري لمن - باعتباره الفاهم الأكبر، والمنظر الأعمق، والمطلع الأشمل، علي الوصفة السحرية لحل (معضلات) الإعلام المصري، ولا يعنيني- في الحقيقة- من معضلات شوشة وحلوله.. استشفاف مراميه وأهدافه، أو مناقشة موضوعية تصوراته للمعضلات وطرقه لحلها، وهو ما يبدو أن عليه الكثير من المآخذ والتحفظات، ولكن، ما علينا، فما يعنيني، وأحب أن أتوقف عنده هو هذا الكلام المرسل العاري من »الفهم« و»العمق« و»الوعي« و»الشمول« والقدرة علي حل المعضلات الذي تناول به قناة التنوير.. ناقداً وشاجباً وهازئاً.. فأخطأه حسن التقدير وصواب التفسير، ولنكن أكثر تواضعاً من السيد شوشة، ونقول، علي الأقل في هذه المسألة.. مسألة قراءته لواقعة (التنوير).. وبالتالي، فسنلزم أنفسنا- في هذا السياق- بالرد فقط علي هذه المسألة.. دون أن نتحدث عن معضلات، أو عن حل معضلات، مع تأكدي الآن، أن معضلات الإعلام ستظل متفاقمة ومتعاظمة طالما ظل مثل هذا النوع من التفكير الأحادي، والطرح الاحترازي.. يحكم نظر هؤلاء الذين يقدمون أنفسهم للساحة العامة والإعلامية باعتبارهم (حكماء) الإعلام و(فقهاء) الأنام لفك مغاليق الأفهام، والاندفاع بالأمة إلي الأمام!.. ولا يخرج الأمر في النهاية عن مجرد رص الكلام.. والسلام! يقول الأستاذ شوشة بالحرف في مقاله المذكور: »ولا حل خامساً: إلا بإعادة النظر- بصورة حاسمة- فيما يواجهه الإعلام المصري من ترهل، ناتج عن الأخذ- لسنوات طويلة- بفكرة الكم في كل شيء.. من غير التفات إلي الكيف والنوعية، نتيجة لهذه السياسة الجاهلة والمفسدة تراكمت الشبكات والقنوات تراكماً كميا دون تميز أو إضافة. تصوروا أن مسئولاً إعلاميا واحداً لم يعترض علي قيام قناتين فضائيتين لهدف واحد، إحداهما قناة النيل (الثقافية)، والثانية قناة (التنوير) ولم يؤنبه ضميره علي تشتيت الجهد والطاقة وضياع أموال الدولة، في عمل إعلامي عبثي الهدف منه المفاخرة بكثرة القنوات، قبل أن تُلغي أخيراً قناة التنوير التي لم يكن لها محل من الإعراب..«. والغريب العجيب، أنني وفاروق شوشة، وقبل أن أنبري للرد عليه، تشملنا معاً دوائر ثقافية وحضارية أربع، لم يقم لها أي اعتبار فيما يبدو قبل أن يكتب هذا الكلام المسيء، فهناك.. أولاً: الزمالة الإعلامية، ثم هناك ثانياً: الزمالة في لجنة الدراسات الأدبية واللغوية بالمجلس الأعلي للثقافة، ثم هناك ثالثاً: الزمالة الشعرية، ثم هناك رابعاً وأخيراً: العلاقة الشخصية والإنسانية التي كنت أظنها جيدة، وربما رد السيد شوشة علي هذا المستوي بأن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، ومع تسليمي بصحة هذه المقولة، لكنني أفرق بين الخلاف في الرأي وبين الهدم، وبين الود وبين الظلم، وأسفي شديد علي قول هذا الكلام، ولكن هل يستوي الظل والعود أعوج؟!
أظن أن تلك المقولات/ الثوابت، التي تتمتع بصحة شكلية، والتي دأبنا علي قولها بطريقة آلية، قد تبدو صحيحة من هذه الناحية (الشكلية) ولها وجاهتها بالتراكم والتواتر والتداعي.. الذي حولها إلي مصكوكات من الأقوال المأثورة، التي يكشف تعمقها عن (فراغها) من المعني وخلوها من المحتوي، كتلك المقولة الشائعة التي يستند إليها شوشة في كلامه عن الإعلاء من شأن (الكيف) علي (الكم).. وأن غياب هذا الإعلاء - للكيف علي الكم- كان وراء ترهل الإعلام المصري.. إلي آخره! ومع أنه، يبدو من الخطأ البين والقصور المنهجي، إحالة تفسير ظاهرة ما أو (معضل) ما في أي ميدان - ناهيك عن الإعلام- إلي سبب وحيد، واعتبار بعينه.. لأن أي (معضل)- كما هو الشأن في كل (المعضلات) الإنسانية، وكما هو مفروغ منه في العلم - تصنعه مجموعة من العوامل المتراكبة والمعقدة التي ليس من السهل- أو من صحيح العلم- ابتسارها في سبب، أو اختزالها في بُعد! وبغض النظر حتي عن هذا الابتسار المخل، والقصور المنهجي الواضح في كلام شوشة، فالمفاهيم الفكرية المحدثة في العالم كله الآن، لا تقبل مثل هذا (الصك الواثق) علي عواهنه، ولا تردد مثل تلك المقولات الشائعة دون تقليب وتأمل وتمحيص.. فلعله من القوانين الجدلية المعروفة جدا- والتي تكاد تكون كلاسيكية- أن التراكم (وإن كان كميا) يؤدي إلي تغير (كيفي) والإعلاء من شأن (الكيف)- دائماً- علي حساب (الكم).. قد لا يبدو مطلق الصحة.. فمثلاً.. في بلد كالصين، اعتمدت في نموها وتقدمها، عكس هذا القانون بالضبط، أي أنها أعلت من شأن (الكم) البشري، لا من شأن (الكيف) الفردي، كما تأخذ به المجتمعات الرأسمالية.. بمعني آخر، إنه إذا كان صاحب المصنع الرأسمالي يرغب في تقليص العمالة بقدر ما يستطيع توفير الجزء الأكبر من رأسماله مع التعظيم الممكن والأوسع لأرباحه.. فالمجتمعات الاشتراكية كالصين لا تناسبها هذه الحلول (الكيفية) وإنما هي في حاجة إلي تفعيل الاعتبارات (الكمية) لاستيعاب تعدادها البشري الكبير جدا والذي يقارب المليار ونصف المليار بني آدم! إذن، فمقولات (الكم) و(الكيف) هذه في حاجة إلي تأمل جديد.. خارج (الأمثولات) و(المصكوكات) الحكمية، والأقوال الدارجة والمأثورة! ثم إن هذه المقولة نفسها.. إذا أخذناها علي محملها القديم الذي يستخدمه خطاب شوشة التقليدي.. كانت دلالاتها معاكسة تماماً لما يقول!.. فلعله لو اهتم أن يشاهد (الثقافية) و(التنوير) جيداً.. دون اعتماد الأفكار الجاهزة السابقة التحضير والمعدة سلفاً.. فربما اكتشف أن موضوعية (الكيف) بالمعني الذي يقصده كانت في ناحية (التنوير).. وربما كانت موضوعية (الكم) في ناحية (الثقافية).. كما يردد البعض المعتبر من كبار المثقفين الذين تابعوا القناتين! ولو كان السيد شوشة، تكلم عن قنوات الأفلام وما أكثرها، وقنوات الدراما وما أكثرها، وقنوات المنوعات وما أكثرها.. فربما كان لنا أن نتفهم ما يقول حول تعدد هذه القنوات وتكرارها بلا معني.. لأنها جميعاً تذيع (نفس) الأفلام، و(نفس) المسلسلات، و(نفس) الأغاني.. أما القنوات (الثقافية) التنوير والثقافية وغيرهما (إذا كان هناك غيرهما!).. فهي لا تتكرر، ولا تتناسخ، ولا تتشابه.. إلا لو اعتمدنا معياراً مباشراً يستغني بشاعر عن كل الشعراء (وليكن الشاعر فاروق شوشة مثلاً).. أو يستغني بصحيفة عن كل الصحف (ولتكن صحيفة الأهرام التي يكتب فيها شوشة مثلاً).. ويستغني بجامعة عن كل الجامعات (ولتكن جامعة القاهرة التي تخرّج فيها مثلاً)!!.. وهكذا.. وهكذا. وهذا منطق ابتساري مخل للأسف، واضح القصور، ومحدود الأفق، بل إنه من منظور أوسع قليلاً، كما قال لي أحد المثقفين العرب الكبار: »إن الأمة العربية الآن، ليست في حاجة إلي عشرين قناة دراما ومنوعات وأفلام، وإنما هي في حاجة إلي مائة قناة ثقافية في ظل التردي الثقافي الموجود، والأمية - حتي من المتعلمين- أو ما نطلق عليه الأمية الثقافية.. إلخ.. إلخ، وياليت القنوات الثقافية تتعدد وتتكاثر لتكون- علي الأقل- بعدد الدول العربية.. أي أن ينبع من كل تلفزيون لبلد عربي قناة ثقافية تابعة له..«. انتهي كلام المثقف العربي الكبير!! وأكمل أنا: لا أن نستكثر وجود »الثقافية« و»التنوير«، ويتصور شوشة - لأنه لم يتابع أو يشاهد- أنهما تقدمان نفس المادة، وتتناولان نفس الموضوعات، وتنظران من ذات المنظور الفكري والسياسي والاجتماعي والثقافي.. إلخ، وهذا كله غير صحيح بالمرة!.. إلا لو تصورنا أن قصائد حجازي وشوشة وأبوسنة وحسن طلب عن ثورة 52 يناير- مثلاً- سيغني بعضها عن البعض الآخر، كما تغني جريدة الأهرام عن جريدة الأخبار، أو جامعة القاهرة عن جامعة عين شمس.. أو فاروق شوشة نفسه عن حجازي وأبوسنة وحسن طلب، وربما عن كل الشعراء المصريين والعرب!!
وياليتك استمعت حقاً إلي آراء المثقفين في (التنوير) وياليتك شاهدت برامجها (التي تستعين بها حتي هذه اللحظة القناة الثقافية في سد بعض مساحات إرسالها، باعتبار أن إرث التنوير آل للثقافية).. بل إنه بلغني- للأسف الشديد- أنه يتم (مسح) العديد من المواد النادرة التي قمنا بتسجيلها، ومنها ثلاثمائة حلقة مع أعلام الأدب والفكر والعلم والفن والشعر في مصر، والذين انتقل عدد لا بأس منهم إلي رحمة الله مثل (فؤاد زكريا، وعبدالوهاب المسيري، وفؤاد قاعود، ويوسف أبورية، وهشام السلاموني، وعزالدين حمودة، ورجاء النقاش، وأحمد فؤاد سليم، ومحمود أمين العالم، وشكري عياد، ومصطفي ناصف، وغيرهم.. وبعضهم ليس له من تسجيلات في التلفزيون المصري إلا هذه الحلقات رغم أننا كنا في »التنوير« نذيع الحلقات القديمة للسيد شوشة نفسه من برنامجه (أمسية ثقافية) ونضعه علي جدولنا المستمر اعترافاً بقيمته، واحتراماً لإنجازه، وتقديراً لأرشيفنا الثقافي التاريخي! ومن ثم يا سيد شوشة، لم تكن (التنوير) استنساخاً (للثقافية) أو العكس، ولذلك لم يوجد هذا المسئول الذي يؤنبه ضميره لوجود القناتين.. وكنت أتصور أن تكون المسئول الذي يؤنب لإغلاق منبر ثقافي مستنير ومهم ومحترم كالتنوير، من قبل الجهلة واللصوص وأعداء الثقافة.. لا أن تكون بمنطقك الأعرج ذاك خادماً لهؤلاء من حيث أردت العكس.. ويتحول كلامك (المعضل) ذاك.. إلي كلام بالفعل يطلق علي عواهنه.. ولا محل له - للأسف الشديد- من أي إعراب!