د. عمار علي حسن المثقفون تركوا صناعة الأخلاق وتربية الأرواح للشيوخ نجيب محفوظ أخطأ وأدان نفسه عندما رفض نشر »أولاد حارتنا« إلا بإذن كتابي الإخوان أكثر تكيفاً مع المجتمع ومشروع السلفيين غريب ومستهجن في طريقي إلي لقاء الروائي والباحث السياسي د. عمار علي حسن، كانت توابع الفيلم المسيء للرسول ما زالت ساخنة، قنابل الدخان المسيل للدموع تتساقط علي المتظاهرين بجوار السفارة الأمريكية، والشيوخ المسيسين ينتهزون الحدث لكسب معارك أخري، مساحة إضافية علي الأرض، موجهين جزءا من اللوم، ولو بشكل خفي، إلي المنادين بحرية الرأي والتعبير. في مكتب د. عمار وجدت المشهد نفسه علي التلفزيون، ليفرض الأمر نفسه علي حوارنا، خاصة مع الدعوات التي تصاعدت تطالب بإضافة مواد متشددة إلي الدستور المصري لحماية العقيدة والذات الإلهية والمقدسات الإسلامية، ولم يفهم أحد الارتباط بين فيلم أمريكي، وبين الدستور المصري. سألت عمار عن ذلك، فقال إن هذه الأزمة تعطي درساً للتيار الديني داخل مصر والذي يتصور أن الدفاع عن الإسلام حق أصيل له، وأن الآخرين ليسوا معنيين به، ها هو يري وسط المحتشدين شبابا من خارجه، من ليبراليين ويساريين، وأناساً عاديين ليسوا محملين بأي أيديولوجيات أو صراعات سياسية، جاءوا غاضبين بشكل فطري لما تيقنوا أنه إساءة للرسول. الدفاع عن المقدسات قضيتنا جميعا، هذا ما عليهم أن يفهموه، نحن مجتمع متدين، والعقيدة بخير، وبالتالي لا يحاولون وضع أي تضييقات في الدستور بدعوي أن العقيدة في خطر، الإسلام قوي في حد ذاته، وهو قادر علي الدفاع عن ذاته، ولا يحتاج إلي وصاية من بشر. غير أن ذلك التيار لكي يتعلم كما يقول د. عمار، فإن هناك دوراً للمثقفين عليهم أن يعودوا إلي ممارسته، فهم كما يري قد تركوا مجال صناعة الأخلاقيات وتربية الأرواح إلي فئة واحدة من الناس، وأنه قد حان الوقت لعودتهم إلي هذا الميدان. تعبئة العوام كتبت في أحد مقالاتك أنه من الخطر أن يتم تعبئة العوام خلال المعارك الفكرية وأن اشراكهم في هذه المعارك يسوق أهل الرأي في اتجاه ترضية الناس وكسبهم وليس في طريق الحق والحقيقة، تطبيقاً علي الواقع هل في الإمكان إبعاد العوام بالفعل عن القضايا الفكرية، في إطار أن التيار الديني دائماً ما يستنجد بالشارع لكسب معركته، وهل سيصمد المثقفون في مواجهة هذا؟ التيار الإسلامي يعبئ العوام منذ زمن ولأسباب سياسية، عبأهم في المعارضة، رأينا أشرطة الشيخ كشك قبل أن تظهر ظاهرة الدعاة الجدد، ثم الفضائيات التي يظهر عليها دعاة، ثم دخول هذا التيار معترك السياسة من خلال تشكيل أحزاب والمنافسة علي السلطة، وهذه استوجبت استخدام أنماط من الدعاية السياسية لأنماط قديمة عفا عليها الدهر، تقوم كلها علي الكذب المنظم وتزييف الحقائق، وعلي تشويه الطرف الآخر المنافس أو شيطنته، وأفضل وسيلة للوصول إلي قلوب الناس هي استخدام الدين ودغدغة المشاعر الدينية، فيطلق علي أصحاب التيار الإسلامي أنهم العصبة المؤمنة الخيرة، وغيرهم العصبة الشريرة الملحدة، ويلبس علي العوام هذا التصور، لكن الشعب المصري بالتتابع بدأ يظهر له أن ذلك التيار ليس بتلك الصورة المبهرة، وأن كل ايجابياته التي حملها في فترة النضال ضد الاستبداد أو فترة اقصائه واضطهاده وابعاده، تلك الصورة الايجابية بدأت تتساقط عنه، واكتشف الناس أن هذا التيار في السلطة لا يختلف عن غيره، وأن الحديث عن الشريعة وتطبيق الإسلام كلها لافتات سياسية، لكن الجوهر غير ذلك تماماً، فالجوهر هو تيار رأسمالي يتبع سياسات تشجيع القلة المحتكرة علي حساب العدل الاجتماعي شأنه شأن أمانة سياسات الحزب الوطني. علي الجانب الآخر المثقفون عليهم ألا ينكمشوا في مواجهة مثل هذا المشهد، بل يقولون أن هناك فارقاً بين الإبداع وبين الاسفاف، وأننا لسنا تابعين كما يحاول أن يصورنا التيار الديني بأن كل ما لدينا هو ثقافة وافدة لا جذر لها ولا أصل لها وليست بنت هذه الأرض، علي النقيض من ذلك لا يوجد قاص أو شاعر أو كاتب تجاوز واجترح العقائد كما يحدث في الغرب، وهذا ليس خوفا من الملاحقة القانونية، وإنما في جزء أكبر منه احترام المجتمع والموروث واحترام عقائد الناس. أيضا ما يحدث الآن يخلق فرصة للمثقفين ليثبتوا للعوام وللتيار الإسلامي من خلال استهجان الاساءة للرسول، من خلال الدعوة إلي ابتكار أفكار للرد ليست بمثل هذا المستوي، أن هذا التيار ابن هذه الأرض وابن هذه الحضارة، ومعتز بدينه شأنه شأن التيار الديني، والفرق بين الاثنين قد يكون فرقا في الاجتهاد، فرقا في التصور، فرقا ما بين تقليدي تراثي حابس نفسه في قمقم الزمن، وبين من يري أن الدين قادر علي التجدد وعلي إبداع أفكار تتفاعل مع الواقع تفاعلا خلاقا، هذه فرصة أن نري في الفضائيات، في أعمدة الصحف، في مقالات كبار الكتاب، في التعليقات، نري في الشارع أيضاً هؤلاء الذين أراد التيار الإسلامي أن يشيطنهم وأن يصورهم للرأي العام باعتبارهم ضد الدين، باعتبارهم ضد العقيدة، باعتبارهم مجرد أبواق للأفكار الغربية. لا كهنوت في الإسلام لكن هل الجماعة الثقافية بوضعها الحالي قادرة علي ذلك، علي العودة للتواصل مع الشارع، خاصة مع فقدها لأعمدة أساسية منها طوال السنوات الماضية، ومع الانهيار الثقافي الذي حصل في زمن مبارك؟ إحدي المشاكل التي نعيشها أن المثقفين الحقيقيين تركوا مجال صناعة الأخلاق وتربية الأرواح للشيوخ، مع أن الإسلام ليس فيه كهنوت، وليس فيه وسيط بين الإنسان وربه، علي العكس من ذلك، نريد مثقفين يحضرون في هذا المجال، حين كان طه حسين يكتب في الإسلاميات، وإذا قرأنا مقدمة كتاب "الشيخان" حين يطالب بإعادة التدقيق فيما كتب تاريخيا حول الصحابة، ولما كان العقاد موجودا وخالد محمد خالد، ومحمد حسين هيكل، وما بعد، وعلي التوازي كان موجودا في هذه المعركة ضد السلفية التي بدأها محمد رشيد رضا رداً علي جماعة الإخوان المسلمين التي بدأت عام 1928، والجمعية الشرعية عام 27، والجمعية الشرعية للعاملين بالكتاب والسنة 24، وأنصار السنة 27، وجدوا أن هناك من يريد أن يفرض اتجاهه الضيق في مجال الإسلام علي الناس باعتبار أن هذا هو الإسلام الصحيح، فهؤلاء الذين كانوا يكتبون في الأدب والفن ويكتبون تعليقا علي الأحداث السياسية الجارية نتيجة أن لديهم ثقافة أصيلة أيضاً استطاعوا منازلة هؤلاء وردهم، وحموا المجتمع من تغولهم، للأسف الشديد في هذا الزمن تركنا مجال الكتابة في الإسلاميات والاجتهاد لهؤلاء، وسلمنا لهم عقول الناس، وكثير من كبار الروائيين وكبار الشعراء وكبار الكتاب لدينا مطلعون علي شق من الحضارة الإسلامية لا يعرفه هؤلاء، قرأوا آدابها وفنونها ومقاماتها ودواوينها، لكن قلة منهم هي التي تعرف في الفقه، يمكنها أن تنازل هؤلاء، وبالتالي حين يتلاقي الطرفان، طرف في اسناده إلي القرآن والسنة وكتب التراث التي تحظي لدي المواطن البسيط ببريق ما أو يعتقد أنها الدين، وطرف آخر لا يحيل إلي هذا أو إلي ذاك وإنما يحيل إلي المنطق والعقل أو إلي اقتباسات من ثقافات أخري، هذا لا يقنع الناس.. إذا كانت المناظرة علي أرضية شرقية امتلكنا أدواتها نستطيع أن نهزمهم، فإذا قال لي ابن تيمية سأقول له ابن رشد، وإذا قال لي أحمد ابن حنبل سأقول له ابن حزم، وهكذا، وأنا في ذهني أيضاً الثقافة الحديثة يمكن أن أوفق بين الإثنين، لكن جزءا من خطابي يجب أن تكون الأصالة واضحة فيه حتي أستطيع أن أرده وأن أوقفه عند حده فهؤلاء يستغلون جهل الناس بالدين ويستعملون آيات في غير موضعها، وحين يأتي المثقفون الحداثيون لمناظرتهم ومواجهتهم لا يستطيعون الرد عليهم. للدين وزنه وقدره لكن يبدو هذا الكلام وكأنه محاولة لتديين الثقافة بشكل ما، وإن كان بطريقة أرفع مما يطالب به الإسلاميون؟ لا، ليس تديينا للثقافة، وإنما إعطاء الدين وزنه وقدره في رؤية المجال العام، لأن هذا واقع، في المنافسة السياسية الأمريكية الدين موجود، دور الدين في المجتمع الألماني وتماسك الأسرة، الدين كان دافع الصينيين للانجاز، الثقافة الكونفوشية التي تحض علي العمل، ولعب هذا الدور أيضا مع الهنود. المسألة هي كيف أحوله من معوق، كما نفعل نحن، إلي دافع للانجاز، لابد من معرفة أنه لا يوجد إنسان بلا دين، حتي الملحد، موقفه رد علي دين وليس علي فراغ، الملحد قد يكون مؤمنا بذاته كإنسان، مثلما يتحدث نيتشه عن السوبرمان أو الإنسان الكامل، ولدينا كثير من الثقافات الفلسفية والصوفية في تاريخ الإسلام التي كادت أن تؤله الإنسان، أو القرآن عندما يقول "من جعل إلهه هواه"، الدين الذي أقصده بمعني الطاقة الروحية والأخلاقية، وليس الدين فقط كنص. هناك أيضا تضييق علي المثقف في ممارسة هذا الدور، يعني أنت لديك مثلا لجنة البحوث في الأزهر مهمتها الموافقة علي أي كتاب له متعلق بالشأن الديني.. لا يوجد وصاية إلا ضمير الإنسان، والأفكار لا تواجه إلا بالأفكار، ولا يمكن علي الإطلاق أن تسند إلي مؤسسة حق الرقابة.. إنما هذا موجود، وهذه اللجنة لها مثلا حق مصادرة كتاب متعلق بالشأن الديني إن لم ترض عنه.. نحن ندين ذلك بالطبع، لكن نقول إنه في ظل ثورة الاتصالات لا يعدم الإنسان أن يوصل أفكاره بأي طريقة، وكثير من الكتب في هذا مجال الاجتهاد الديني وفيها آراء غاية في الجرأة وغاية في التقدم خرجت دون أن توافق عليها هذه اللجنة التعيسة، ومن يذهب إلي هذه اللجنة لتجيز له هو الذي يتحمل مغبة ما فعل، الكاتب الحقيقي والمفكر لا يذهب إلي أي جهة حتي لو كانت الأزهر ليطلب منها وصاية علي كتابه، علي العكس من ذلك أنا كثيراً ما كتبت دون أن أعود لهم، مقدمات لكتب أو أزكيها للنشر في دار نشر وأوصي بطباعتها دون عودة إلي الأزهر، وكثير من أصحاب دور النشر في مصر الآن لا يعودون إلي الأزهر في كتب فيها اجتهاد وجرأة شديدة. المشكلة أن هناك مثقفين وكتابا كبارا أسسوا لهذا الدور ومنهم نجيب محفوظ عندما رفض صدور أولاد حارتنا إلا بإذن كتابي ومقدمة من د. أحمد كمال أبو المجد؟ بالطبع، وكان هذا خطأ شديدا من نجيب محفوظ، وأدان نفسه بهذا الطلب، لكن أنا أحيل ذلك إلي أن نجيب محفوظ يؤمن بوجود كهنوت في الإسلام، أو لأن مؤسسة لها حق أن تجيز أو تمنع إنما.. كان يحمي نفسه هو طبيعته المسالمة التحايلية كان يؤثر السلامة، هذا جزء من شخصيته، عندما وجد أن هذه الرواية سببت أزمة بعد نشرها رفض طباعتها في مصر، وحين انفتح الباب، وحين نشرتها الأهالي في عدد شهير كاملة لم تأخذ إذنا منه ولو كانت عادت إليه لرفض وقتها، حين أرادوا أن يعيدوا طباعتها مرة أخري هو طلب هذا الطلب وأري بالطبع أن هذا خطأ كبير من الأستاذ نجيب وما كان عليه أن يقع فيه، لأنه وهو أكبر أديب عربي ، والوحيد الذي حصل علي نوبل، يؤسس للرقابة علي الأعمال الإبداعية، لكن ربما لأن كثيرين ربطوا بين حصوله علي نوبل وبين تلك الرواية، وكأن الغرب يكافئه علي تجاوزه واجترائه علي الإسلام من وجهة نظرهم، ربما أراد هو بذكائه الرد علي ذلك من خلال أولئك الذين قالوا إن تلك الرواية لا تمس الدين وأنها متصالحة معه، علي العكس من ذلك هي تدافع عنه، وأنها في حاجة إلي إعادة قراءة من جديد لأن مقولتها الرئيسية أن العلم حين ظن أن بوسعه أن يسير الدنيا بمفرده أخفق، وبالتالي عاد مرة أخري يستوحش الدين ويدافع عنه. ربما أراد محفوظ ذلك لكن كان يجب أن يكتب مقدمة مع المقدمة يوضح فيها وجهة نظره تلك، لأن كثيرين فهموا وأعداء حرية الإبداع استغلوا هذا الظرف وكانوا يقولون دوماً إن استاذكم لم يتأفف ولم يستنكف أن يرجع إلينا، فما البال بكم أنتم الصغار، وهذا ما لم يعه نجيب محفوظ للأسف الشديد. كتبت في نقد التداخل بين الدين والتعليم، وثورة يناير كان أحد مطالبها إصلاح نظام التعليم.. الآن وبعد سيطرة الإخوان ما الذي يمكن أن يكون عليه هذا النظام؟ لو كان الهدف أدلجة التعليم بصبغة التيار الإسلامي أو تعويد عقول التلاميذ والطلاب علي تمجيد هذا التيار فهذا لن يفيد البلد بأي حال من الأحوال بالعكس سيعيدنا إلي الخلف، إنما لو كان ما سيوضع في التعليم من مواد دينية هي تلك المواد التي تحض علي التفكير باعتباره فريضة إسلامية كما يقول عباس العقاد، تحض علي التجديد، تحض علي إنزال الناس منازلهم، تحض علي الأخلاق الحميدة بشكل عام، تحض علي التزام الإنسان بقيم مثل احترام قيمة الوقت، وقيمة العمل، والتي هي مستبعدة تماما في حياتنا، فلا بأس، لكن إذا وجدنا أن المسألة تؤدلج أو تريد أن تفرض تصوراً معيناً باعتباره الدين فهذا يشكل خطراً داهماً علي الأجيال المقبلة ويجب أن نتصدي له. وتصورك الشخصي لما سيتم؟ التعليم أحد أهدافهم الأساسية، أداء الإخوان حين دخلوا برلمان عام 1984 وحتي هذه اللحظة كان منصرفا في أغلبه إلي القضايا المرتبطة بصناعة العقل والذائقة الفنية، لم يهتموا بالقضايا الاجتماعية ولا بالعلاقات الدولية والإقليمية إلا من قبيل المزايدة، ولا بالأوضاع الاقتصادية، كانت تعجبهم وتروق لهم سياسات الخصخصة والتكيف الهيكلي وتشريد العمال، كل جهدهم كان منصرفا إلي ما يتعلق بالتعليم والإعلام والثقافة، أغلب ما قدموه من أدوات للرقابة أسئلة وطلبات إحاطة واستجوابات كانت تذهب إلي هذا الباب، فمن ثم توقع بعد وصولهم إلي السلطة ألا يتركوا ذلك لا سيما أنه ظهر لنا أنهم ليس لديهم مشروع اقتصادي، ولا مشروع اجتماعي، ولا رؤية جديدة لدور مصر الإقليمي والدولي، إذن طاقتهم كلها ستذهب إلي التعليم والإعلام والثقافة. ونفهم علي سبيل المثال رد فعل السلفيين أو تعليقهم علي أداء الدكتور محمد مرسي، لم يعلق أحدهم علي قول إسرائيل إن التنسيق الأمني أفضل من أيام مبارك، لم يعلق أحدهم علي الاقتراب من صندوق النقد الدولي إلا من باب أنها قضية ربوية، وليس من باب أنه استمرار لسياسات التبعية والإلحاق بالغرب، لم يعلق أحد علي الأداء الرأسمالي للنظام، وغياب القضايا الاجتماعية، لكن حين التقي الرئيس الفنانين قامت الدنيا ولم تقعد، وبدأ يظهر الافتراق أو التخوف والقلق من أداء د . محمد مرسي، وطرح السؤال الكبير: هل مشروعه هو مشروع الشريعة؟ هل هذا هو القوي الأمين الذي دعونا الناس إلي اختياره؟ هل ضللنا الناس؟ بدأ هذا السؤال من قضايا مرتبطة بالفن، وهذا يدل علي أن الذهنية منصرفة بالأساس إلي السيطرة علي ما نسميه بالقوة الناعمة للمجتمع. لماذا؟ هناك جزء مرتبط بتصوراتهم التي يؤمنون بها، وجزء مرتبط بمصالحهم التي يرومونها، معتقداتهم أن هذا جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هم مكلفون بفعله، وأيضا جزء من شعورهم بالمسئولية لهداية الناس والدعوة إلي الله، وجزء منها مرتبط بالاستجابة للمؤسسات التي تعطيهم وتمنحهم، وتحول لهم الأموال، وأتحدث هنا عن المؤسسات الوهابية في جزيرة العرب، وجزء منه مرتبط بتهيئة المجتمع لتقبل هذه الأفكار واختمارها، بغض النظر إن كانت صحيحة أم خاطئة، تقدما أم تأخرا، هو تمهيد هذا المجتمع لتقبل وجود هذا التيار في السلطة ربما إلي الأبد، وهذه هي الخطورة، لماذا؟ مشروع حسن البنا كان يقوم علي بناء الفرد المسلم ثم الأسرة المسلمة وصولا إلي المجتمع المسلم فإذا أصبح المجتمع مختمرا بهذه الأفكار فهو الذي سيصل بنا إلي السلطة ثم نستمر فيها، الذي حدث أنهم قفزوا، من حسن البنا وسيد قطب في مرحلته المتطرفة، إلي السلطة ليغيروا تحت شعار لم يقولوه لكنهم يؤمنون به "ما لا يزع بالقرآن يزع بالسلطان"، أي ما لا يمكن للقرآن أن يغيره يمكن للسلطة ذلك، ومن ثم يمكن فرض تشريعات وقوانين وتعليمات وإجراءات فوقية أو عليا لإعادة تديين المجتمع علي مقاس ورؤية هذه التيارات، وليس تركه علي تدينه الطبيعي. لكن علينا أن نكون واعين أن هناك اختلافات في الدرجة بين الإخوان والسلفيين في هذه الناحية، الإخوان أكثر تكيفاً مع المجتمع، السلفيون عندهم مشروع بديل بالكامل غريب ومستهجن، الإخوان نتيجة أنهم مارسوا العمل السياسي مبكراً نتيجة أن مشروعهم السياسي فضفاض، نتيجة غياب نظرية ثقافية وفكرية وسياسية واجتماعية، ولا يوجد أطر اقتصادية لديهم، لا يوجد أرضية، لا يوجد إطار إنما مسألة فضفاضة نتيجة إيمانهم بالتدرج، وتوددهم إلي الناس، بدأوا بالتتابع يتكيفون مع الثقافات السائدة، ومن ثم فمشروعهم في هذه الناحية أقل خطرا واجتراحا من مشروع آخر يريد أن يزيح ذلك بالكلية، لكن خطورة مشروع الإخوان أنه يفعل ذلك بوعي وبما يحقق مصالحه هو بغض النظر عن مصلحة المجتمع. أنت كتبت عن المثقف الخائن، وكاتب السلطة.. هل تري أن انحسار الدور الثقافي سببه ما قام به هؤلاء من أدوار؟ بالطبع، بعض التصورات والدراسات التي تحدثت عن صورة المثقف لدي الرأي العام قبل ثورة 25 يناير مزرية، المثقف هو فرد يسخر علمه لخدمة مصالحه، يبيع وطنه من أجل صالحه الذاتي، هذه هي الصورة، وكان من يقدمون للناس عبر الإعلام قبل ظهور الصحافة الخاصة وشبكة الانترنت المتسعة هم هؤلاء، لا يمر أحدهم إلا من بوابة الأمن، والقلة التي تعارض، والقلة التي تعض علي القيم والمباديء بالنواجذ، والقلة التي تميل إلي الناس واختياراتها كانت مستبعدة. وسياسة وزارة الثقافة التي كنت أسميها قبل الثورة وزارة المثقفين، وفكرة ادخال المثقفين الحظيرة والوصية التي تركها السادات لمبارك وهي "مشكلتك مع الأفندية" جعلته يفكر منذ اللحظة الأولي كيف يلحق هؤلاء بمشروعه، ولذلك كانت كل أفكارهم حتي التي طروحها في التنوير الديني، والمعركة التي خاضوها في الثمانينات والتسعينات ضد التيار المتطرف لم تلق صدي ولم تصد ولم ترد توغل التيار السلفي في الشوارع الخلفية، لسبب بسيط هو أن هؤلاء كانوا فاقدي المصداقية لدي الرأي العام، ويتحملون جزءا كبيرا من المسئولية، وللأسف الآن الناس تري هؤلاء كيف يتحولون مرة أخري، مناصرين لمرسي، أحدهم أقام الدنيا ولم يقعدها اعتراضا علي مرسي وذهاب الناس إليه، فلما جاءته الفرصة هرول إلي القصر الجمهوري وخرج يمدحه، ويقول إن الرجل جيد لكن المشكلة في "الجماعة"، هو نفسه ما كان يقال عن مبارك.. الرجل كان جيدا لكن المشكلة فيمن حوله، بعض المثقفين والإعلاميين يصنعون طاغية جديدا من خلال كتاباتهم وتعليقاتهم ورسومهم، للأسف نحن حياتنا في الأغلب الأعم فقيرة بمن يسمي حسب تعبير جرامشي المثقف العضوي.. المثقف الملتزم الملتزم والمنتمي، الذي ينزل إلي الشارع ليطبق أفكاره بين الناس، عندنا المثقف المنعزل، المثقف الانتهازي، التابع، البوق، الراقصة، كل هذه الأشكال هي التي غلبت علي المشهد الثقافي، هناك من حصر الثقافة في جانب واحد منها، ذلك المرتبط بالإبداع الفني والأدبي، مع أن الثقافة كتقاليد وطقوس وكحياة كاملة غير موجودة، المؤسسات الثقافية لم تقم بدورها، أيضا تحولت إلي خدمة الرأس الكاسح علي حساب الجسد الكسيح، مثلا هيئة مثل قصور الثقافة التي كانت في فترة من الفترات أيام الثقافة الجماهيرية سينما وكتبا للقرية، كل هذه الأمور ضمرت وأصبح الأمر كيف نسكت هؤلاء، الأغلبية استجابت، أما القلة التي تمردت فمنها من نجح في صياغة اسطورته الذاتية اعتمادا علي موهبته، ومنها من انعزل وانسحق وغاب وقدرته علي الفعل أو قيادة الرأي العام تكاد تكون قد انهارت تماما. تكلمت عن المثقفين قبل الثورة وبعدها، فماذا عن وزارة الثقافة، كيف تري أداءها بعد الثورة؟ لا تزال علي حالها، بعد ما جاء الأستاذ عز الدين شكري المجلس الأعلي للثقافة طلبني لأذهب إليه، فاعتذرت، قلت له ليس لك عندي سوي كلمتين.. لا تخش من المنتفعين واجعلها وزارة للثقافة وليس للمثقفين. طلبني مكتب الوزير عماد أبو غازي كي أسافر إلي روسيا لتمثيل مصر في مؤتمر ما فسألتهم عمن سيدفع فقالوا ليس عليك شيء، فقلت أعرف لكن من الذي سيدفع تذكرة الطائرة وتكاليف الإقامة، فقالوا نحن سنتحمل التذاكر وروسيا تتحمل الإقامة، سألتهم عن عدد المسافرين قالوا سبعة، إذا سبعة في خمسة آلاف يكون المجموع 35 ألف جنيه، قولوا لوزير الثقافة أن يشتري من سور الأزبكية كتبا بهذا المبلغ ويوزعها علي أقرب قرية للقاهرة فهذا أجدي للثقافة المصرية من ذهاب سبعة من الأفندية إلي روسيا. لأنه مثلا علي مرمي حجر من القاهرة ذهبت إلي القرية الصف ووجدت عالما آخر تماما، التيار السلفي سيطر سيطرة كاملة لدرجة أن هناك أطفالا لا يشاهدون من القنوات الفضائية سوي »الحافظ« و»الرحمة« و»الحكمة« و»الناس« ، هيئات وزارة الثقافة لا تقوم بدورها علي الإطلاق، التقيت د.شاكر عبد الحميد مصادفة بعد أن تولي الوزارة وقلت له إن نصيب المواطن المصري من ميزانية الثقافة تكاد تكون قد وصلت إلي صفر، وأغلب الميزانية يذهب إلي جيوب المنتفعين، واجه هؤلاء بكل قوة ولا تخش شيئا وإن هاجموك نحن سندافع عنك. لكن للأسف كلهم ساروا علي نهج ودرب فاروق حسني، وجدنا وزير الثقافة الجديد الذي من وجهة نظري فقد الكثير عندما استقال قليلا واستراح قليلا حتي يحصل علي جائزة الدولة التقديرية ثم عاد إلي منصبه مرة أخري.. الأمور علي حالها، وأري أن هناك خطوة قادمة مثيرة للتخوفات، فوزير الثقافة صرح بأنه سيذهب للرئاسة ليبحث سبل وطرق جديدة تشكيل المجلس الأعلي للثقافة، وهذه بداية التحولات لأن الرئيس مرسي نتيجة الضغوط الشديدة التي مورست عليه بعد أن التقي بالمثقفين فهو مطالب الآن بأن يستمع الآن إلي الصوت الآخر الذي أصدر بيانا باسم "المثقفين الإسلاميين"، من حقه بالطبع أن ينصت إليهم ويستمع شأنهم شأن غيرهم لأنه يفترض أنه رئيس لكل المصريين، لكن المشكلة من الذي سيذهب صوته هباء في الهواء، ومن الذي سيحفر صوته في الصخر ويترجم إلي قرارات واجراءات.. هل لديك تخيل أن المجلس الأعلي للثقافة ستصبح الفئة الغالبة فيه من هؤلاء المثقفين الإسلاميين؟ وارد جدا، وتخيل في تلك الحالة كيف سيتم مثلا تقييم الحصول علي جوائز الدولة، علي فكر وانتاج الأديب أو المفكر أم علي مواقفه من هذا التيار. وقد يتم اعطاء هذه الجوائز لمن لا يستحق بدعوي تعويض هذا التيار عن تجاهل طويل، أنا كنت ضد تجاهل هذا التيار إذا كان فيه مفكرون ومبدعون حقيقيون من حقهم، والمنافسة في النهاية ليست بين توجهات واعتقادات وتصورات ومواقف من السلطة وإنما أعمال وإبداع، لكن باسم التعويض وباسم رد الاقصاء والاستهجان والنبذ قد يحصل التغول واقصاء الطرف الآخر، ويقول لك هؤلاء تدللوا طويلا فلنتدلل نحن علي حجر السلطة، يعني "كل واحد ياخد له لفة". والأبعد من قضية الجوائز قضية كيف ستنهدس مؤسسات وزارة الثقافة الجديدة حركة النشر؟ كيف ستتعامل مع الثقافة الجماهيرية التي تتحدث عن رعاية الفنون الشعبية؟ وبعض هذه الفنون يراها التيار السلفي مجافية للدين ويحاربها. التصوف والمتصوفة قمت بدراسة موسعة حول الطرق الصوفية والتنشئة السياسية لها، في ضوء هذا هل تعتقد أنه يمكن المراهنة علي هذه الطرق في إيجاد توازن أمام بقية التيارات الإسلامية؟ وألا تقف مفردات مثل الزهد والتخلي أمام هذا التصور؟ في هذه المسألة علينا التفرقة بين أمرين، بين التصوف والصوفية، التصوف هو الحالة الروحية الجوانية المتمثلة في علاقة الإنسان بالذات الإلهية، وهذا التصوف الذي ظل موجودا في مصر من ذي النون المصري، وقبل التصوف كانت الرهبنة، وهناك دير الأنبا أنطونياس، أول راهب في العالم كان مصريا موجودا في الصحراء الشرقية في جبل الجلالة. كان التصوف أشبه بالرهبنة في المسيحية، المتصوف منغلق علي ذاته في صومعة، وهناك المتصوف الفيلسوف، أو المتصوف الأديب والشاعر ذو البيان، أو المتصوف المحتج كالحلاج، الذي تحدثت بعض الدرسات التاريخية عن طموح سياسي كان لديه واتصاله بحركة القرامطة في الدولة العباسية. لكن التصوف هذا انتقل مع صلاح الدين الأيوبي إلي كيان اجتماعي يطلق عليه كثيرون "الطرقية"، لتمييزه عن التصوف الجواني، وأنا أقول إنه لا يوجد مؤمن حقيقي وإلا في قلبه حظ من توصف، الأيوبي استعمل التصوف والمتوصفة كحائط صد لمقاومة المذهب الشيعي الذي خلفته الدولة الفاطمية، فبني التكايا وكانت أشهرها "سعيد السعداء"، ينقطع المتصوفة للذكر في مقابل أن الدولة توفر لهم كل شيء، ثم بدأت تتحول إلي كيانات اجتماعية، للأسف عبر تاريخها إلا في فترات قليلة وأشخاص قليلين كانت في ركاب السلطة طوال الوقت حتي اللحظة الأخيرة، لحظة قيام الثورة، ومن ثم إن أردت لهؤلاء أن ينتقلوا من هذا الكسل التاريخي والتبعية شبه المطلقة للسلطة السياسية إلي أن يكونوا عونا للثائرين أو جزءا من مشروع الدولة المصرية لمواجهة الثقافة الوهابية فعليك أن تبذل مجهودا كبيرا لتحويلهم من مشروع ديني فلكلوري فحسب إلي أيضا مشروع اجتماعي سياسي، وهذا واجه المتصوفة حين أرادوا أن يحشدوا ضد السلفيين في ميدان التحرير عقب جمعة قندهار، فأولا ليس لديهم التنظيم الصارم الذي لدي الإخوان، ولا القدرات المادية، ولم يعبئوا أنفسهم من قبل إلا للذهاب إلا الموالد، فحين تطلب من المريد أن يذهب ليحتج سياسيا فهذه مسألة بالنسبة له ذات مغزي، الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يغضبهم إذا شعروا أن السلطة الجديدة في هذه المرحلة ستضيق عليهم في الموالد أو تمنع الحضرات، أو تهاجم الأضرحة. أنا أري أن الرهان الأكبر هو في حضور الصوفية كذائقة وكمسار عظيم وهائل في الحضارة الإسلامية وهذه ليست مسئولية شيوخ الطرق وإنما مسئولية المثقفين أيضا، الذين قرأوا كتب الصوفية ويعرفون أقدار أصحابها، جلال الدين الرومي هو الأكثر قراءة في أميركا وكثيرون يدخلون الإسلام من باب التصوف، والتصوف في نبعه الفلسفي والوجداني والبياني عظيم وعنده قدرة علي المواجهة، هذه مسئوليتنا نحن، علي الأدباء والكتاب أن يستحضروا ما لديهم في هذا المجال ليقولوا للرأي العام أن التصوف ليس دروشة ولا فلكلور فقط، إنما أيضا زهد وولاية ومعرفة حدسية ومحبة، هذه أركانه الأساسية. في دول الخليج الآن، الإمارات والكويت والسعودية بدأوا التفكير وتشجيع عودة المتصوفة بعدما عانوا من الروح السلفية الضيقة، نحن أولي بذلك لأننا لدينا صوفية عريضة وكبيرة ولديها امكانياتها، لا بد من حضورها في المشهد وهذا يكون أبلغ رد علي اؤلئك الذين يختزلون الإسلام في الفكر الوهابي.