هناك من توقعوا تراجع الطرق الصوفية أو اندثارها في المستقبل ويستندون في ذلك إلي ثلاثة عوامل أولها موجة التحديث التي تتسرب رويداً رويداً إلي عقل المجتمع المصري والتي ستضع ظاهرة تقليدية مثل الطرقية في موقف حرج، وثانيها ظهور وترعرع أشكال أخري للتدين تتمثل في جماعات شتي تتسطر فوق خريطة مصر راحت تزاحم الصوفية، تنتقدها أحياناً وتجلدها أحياناً وتضربها في مقتل اعتقادها الخاص بكرامات الأولياء والتضرع للأضرحة، وثالثها غياب الهدف السياسي الواضح للصوفية بينما تمتلكه القوي الإسلامية الأخري، ما جعل المتصوفة جماعة لا يهمها تغيير المجتمع أو الانتصار لاتجاه سياسي معين وإن كان أفرادها يعرفون كالآخرين هموم الوطن ويتأثرون بها مثلما أثبتت هذه الدراسة. وهذا الابتعاد عن السياسة قد يؤدي مع الأيام إلي انصراف الناس عن الطرق الصوفية بقدر انصرافها عن قضية تمس حياة كل إنسان وهي السياسة، التي تبدأ بالخدمات البسيطة في المجتمع المحلي، وتتصاعد لتصل إلي مستوي الحكومة المركزية ومنها إلي النظام العالمي، ما يجعل من الصعب علي أي فرد أن يتجاهلها، فهي مقتحمة لا تعرف حدوداً ولا سدوداً. لكن يبدو أن الحقيقة تسير عكس هذه التوقعات فطوال القرن العشرين سارت الصوفية المصرية في اتجاه مخالف للرسم البياني الذي بشر به بعض الباحثين واستطاعت أن تضم بين مريديها بعض الفئات المحدثة، وأن تساهم في عملية التحديث الاجتماعي. ولم تؤد أشكال التدين الأخري إلي تراجع نفوذ المتصوفة بل حدث العكس، فالنظام الحاكم كان في مصلحته دائماً أن تكون الصوفية قوية ظاهرة في مواجهة القوي الإسلامية المناوئة له ولذا عمل طوال الوقت علي إلهاب وقودها ليستمر مشتعلاً، ثم دخل الأمريكيون علي الخط فزادوا هذا التوجه عمقا، وأعطوه بعدا دوليا واستراتيجيا كبيرا. هذا التصور تضمنه كتاب (التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر: ثقافة الديمقراطية ومسار التحديث لدي تيار ديني تقليدي) للدكتور عمار علي حسن، الذي صدر عن دار العين مؤخرا في نحو 688 صفحة من القطع فوق المتوسط، وهو دراسة نظرية وميدانية موزعة علي أربعة أبواب، إلي جانب ببليوجرافيا عن الدراسات العربية والأجنبية حول الصوفية والتصوف، وملاحق ترصد علاقة الطرق الصوفية بالنظم السياسية المصرية المتعاقبة منذ محمد علي إلي الآن. وينطوي الباب الأول علي الإطار النظري حيث يعرض مفاهيم التنشئة السياسية والتصوف وعلاقة الظاهرة الدينية بالظاهرة السياسية، ثم يتطرق إلي القيم السياسية التي تتناولها الدراسة وهي الحرية والعدالة والمساواة والتسامح والانتماء والانخراط، وصولا إلي تحولات التدين إلي أيديولوجيا وفلكلور وأساطير وتجارة وثقافة سائدة وتأثير ذلك علي السلوك السياسي للأفراد. ثم يتطرق هذا الباب إلي الدين والثقافة السياسية المصرية، من خلال تتبع تأثيره علي التطور التاريخي لعلاقة الحاكم بالمحكوم منذ العصر الفرعوني وحتي العصر الحديث. ويفرد الباحث فصلا مطولا عن مكونات التنشئة السياسية للمتصوفين المصريين، موزعا إياها علي الجوانب الفكرية والتنظيمية التاريخية، فيدرس القيم السياسية الناتجة عن لغة المتصوفة وأفكارهم التي تدور حول الزهد والمعرفة الحدسية والولاية والمحبة، ثم يبين دور التنظيم الإداري للطرق الصوفية في صناعة الثيوقراطية، وأخلاق السياسة ومسارات الشرعية الكامنة في التسلسل الروحي للمتصوفة. وفي البعد التاريخي يتناول الباحث علاقة المتصوفة بالسلطة السياسية في مصر منذ صلاح الدين الأيوبي وحتي الآن، وعلاقتهم بالجماهير العريضة، والجماعات والتنظيمات الإسلامية الأخري، وهنا يضعهم في مقارنة مع المسار السياسي للأزهر الشريف. وينطوي الباب الثاني علي الجانب الميداني حيث توسل الباحث بدراسة الحالة واتخذ من الطريقتين الصوفيتين، الحامدية الشاذلية والخليلية، ثم من الطريقة البرهانية حالة للمقارنة. وقد اختار الباحث عينة ممثلة من هاتين الطريقتين للإجابة علي التساؤلات التي شملها الاستبيان والتي تسعي إلي اختبار المعارف والقيم والاتجاهات السياسية للمتصوفة. وفي الباب الثالث من كتاب التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر سعي الباحث إلي قراءة ما وراء الأرقام التي نتجت عن الاستبيان، وفهم ما حصله من معايشة المتصوفة عن قرب عبر منهج الملاحظة بالمشاركة ليقدم تحليلا كيفيا لواقع المتصوفة إلي جانب ما طرحه من تحليل كمي، يشمل الموقف السياسي والاجتماعي للطرق الصوفية من القضايا المطروحة. وبعدها يفسح الباحث مجالا لدراسة ثقافة الديمقراطية لدي المؤسسات الدينية الدعوية، وشروط إدماج أصحاب الرؤي الإسلامية في حياة سياسية ديمقراطية، والتي يحصرها في ضرورة الإصلاح الديني، وقيام المشروعية علي الجماعة، وتوحد مرحلتي الصبر والتمكن، وتديين السياسية لا تسييس الدين، والتماثل لا التمايز، والانتقال من الاستشارة إلي الديمقراطية لاسيما في جانبها الإجرائي، والانتخاب لا البيعة، وتقديم المصلحة القطعية علي النص الظني، وعدم حصر الجهاد في بعده الديني، وضرورة الالتفات إلي القوة السلسة، والتخلي عن أوهام الحتميات التاريخية. وفي تناوله لوضع الطرق الصوفية بين التحديث والثقافة التقليدية ينطلق الباحث من تعريف محدد للتحديث وتفاعلاته وكونه مسارا عالميا تنازعه الخصوصيات المحلية، ثم يتناول البني الاجتماعية التقليدية مثل القبيلة والطريقة الصوفية وأشباههما، وخط التحديث في خطاب المتصوفة وممارساتهم، ومقارنة هذا بمسار التحديث لدي الأزهر الشريف. وفي الباب الرابع يتعرض الباحث للطرق الصوفية في العالم العربي والإسلامي، ليضعها في مقارنة مع الصوفية المصرية عبر تناول دور ثقافة التصوف وحركته في تحقيق شروط الإنجاز السياسي والاقتصادي، لاسيما في مجالي التنمية والجهاد ضد الاستعمار. ويري الباحث أن الطرق الصوفية أضحت ظاهرة اجتماعية لا يمكن إهمالها، ففضلاً عن أهميتها، فهي لا تزال حقلاً بكراً أمام الدراسات الاجتماعية عامة والسياسية خاصة وينتهي من دراسته إلي نتائج محددة أولها أن التنظيم الصوفي بشقيه الإداري والروحي ينتج قيماً سياسية بعضها إيجابي مثل التسامح والتماسك والتعاون والاستمرارية وبعضها سلبي لا يشجع علي نشوء ثقافة الديمقراطية مثل الخضوع والطاعة العمياء والجمود والإكراه، فيما تعزز كاريزما الشيخ قيمة التسلط. فالشيخ قائد مطاع يتكئ علي شرعية مستمدة من الانتساب إلي آل البيت أو الأولياء الكبار مثلما يعتقد المتصوفة، وهو يرث المشيخة من ذويه، ويمثل رأساً لتنظيم هو خليط تام من جماعات مختلفة من حيث التعامل والاختيار والتجانس أو النوع والسن. والشيخ هو الرمز الأساسي الذي يتمحور حوله التنظيم الصوفي باعتباره تنظيماً يقوم علي الزعامة الملهمة وليس تنظيما إقطاعياً أو نفعياً يقوم علي ازدواج المنافع المشتركة بين أفراده ومساهمتهم جميعاً في اتخاذ القرارات الخاصة به بشكل منطقي ورشيد، كما أنه ليس تنظيماً اختصاصياً يركز علي التخصص المهني أو العلمي. وهذا الشكل التنظيمي الذي اتخذته الطرق الصوفية وإن كان قد أدي إلي خلق قيم سياسية سلبية فإنه يعتبر العامل الأساسي الذي أدي إلي استمرار وجودها علي قيد الحياة كل هذه القرون. أما النتيجة الثانية فهي علي رغم من أن الفكر الصوفي الذي يقوم علي أركان أربعة هي المعرفة اللدنية والزهد والولاية والمحبة ينتج قيماً سياسية متعارضة بعضها إيجابي مثل الانتماء والانخراط والاستقرار والتسامح والتعاون والتماسك، وقيما سلبية مثل الإكراه والصراع والخضوع والتسلط والانعزال إلا أن الممارسة الحياتية تسير في اتجاه يرفع من شأن القيم السلبية علي حساب القيم الإيجابية، فتاريخ علاقة المتصوفة بالسلطة السياسية يشير إلي أنهم داهنوها وخضعوا لها أكثر مما عارضوها أو اتخذوا موقفاً حاسماً ضد فسادها وطغيانها. وإذا كان بعض مشايخ الصوفية قد أغضبهم ظلم السلاطين للرعية، وسعوا لمقاومة الجور وانتصروا للجماهير فإن هذا لم يحدث سوي مرات نادرة، وكان يتم بشكل فردي ومتقطع، ولم يكن أبداً يمثل سياسة متواصلة، تنم عن إصرار علي انتزاع الحقوق، والتعامل مع الدين بوصفه ثورة علي الظلم والتجبر والفساد. ويري الباحث، في النتيجة الثالثة لدراسته، أن أساليب التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر رغم اختلاف ظروف النشأة والمؤهلات الشخصية للشيخ والقدرة الاقتصادية والدقة التنظيمية والانتشار الجغرافي والقوي العددية لمريدي الطريقة، ومن ثم تتشابه هذه الطرق من حيث الثقافة السياسية لأفرادها. فالمعين الذي ينهل منه الجميع واحد وهو الأوراد والأذكار والطقوس وهو إن اختلف في شكله العام إلا أن جوهره متطابق، كما أن الدور الذي يلعبه الشيخ في تربية مريديه لا يختلف من طريقة إلي أخري. ومع تماهي وانخراط المتصوفين في المجتمع فإن وجد اختلاف في الثقافة السياسية بين الطرق فإن ذلك يعود إلي نوعية المحيط الاجتماعي الذي تعيش فيه الطريقة وليس لطبيعة الفكر والطقوس والتنظيمات الصوفية. ويؤكد الباحث أن الإصلاح السياسي في العالم العربي يتطلب الالتفات إلي الإصلاح الديني، فطالما استقوت الجماعات والتنظيمات التي تربط الدين بالسلطة السياسية، وتبحث في الدين الإسلامي نفسه عن سلطة تشبه الكهنوت فإن فرص إيجاد ثقافة سياسية ديمقراطية ستصبح غاية في الضعف. ويدعو الباحث إلي إعادة النظر في الطرق الصوفية خارج الاعتقاد والتقديس بمعني أن الطرقية لم تعد شيئاً مقدساً وإنما ظاهرة اجتماعية شعبية حتي ولو أطلق عليها دين الحرافيش أو الدين الشعبي مثلما يحلو للبعض أن يصفها. وهذا التقييم الجديد للطرقية لابد أن يقوم علي الدراسة المتعمقة والبحث الجاد انطلاقاً من شيئين رئيسيين: الأول هو ارتباط الطرق الصوفية بالمزاج الديني المصري وكون التربة الاجتماعية المصرية مهيأة إلي حد كبير لتقبلها، والثاني هو الانتفاع المادي لأرباب التصوف من أسر المشايخ والقائمين علي الأضرحة، وهو الأمر الذي وصل إلي حد ادعاء البعض بوجود مقابر للأولياء في أماكن معينة من أجل استغلال الميل الديني لدي الناس في حثهم علي دفع النذور والصدقات. ثم ينتهي إلي نتيجة مهمة يقول فيها إن إمعان النظر فيما ورد بين دفتي هذا الكتاب إلي القول إن الاستراتيجية الأمريكية الرامية إلي تعزيز التصوف في وجه الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي، محكوم عليها بالفشل. وربما يغير الأمريكان وجهة نظرهم، حال قراءة متعمقة لما ينتجه الفكر الصوفي من ثقافة سياسية من ناحية، والإطلاع علي تاريخ الطرق الصوفية في آسيا وأفريقيا من جهة ثانية، وربما يمضون في استراتيجيتهم، لكن الثابت في كل الأحوال أن الصوفية شكلت علي مدار التاريخ أحد تجليات الإسلام في أبعاده الدينية والسياسية والاجتماعية، وستظل تزاول هذا التجلي في المستقبل المنظور. وقد أرفق الباحث علي غلاف كتابه شهادات لعدد من الباحثين والمفكرين العرب والأجانب، حيث وصف جاسون براونللي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة تكساس الأمريكية الكتاب بأنه إضافة متميزة في علم السياسة عامة، لأنه يسد نقصا نجم عن تجاهل نسبي للأدوار السياسية للتنظيمات والحركات الإسلامية الدعوية والروحية. وأنه عمل رائد أضاء جوانب مظلمة عن الروابط العميقة والقوية بين الطرق الصوفية والسلطات المصرية المتعاقبة، واستطاع عبر بناء نظري ومسح ميداني دقيق أن يقدم إسهاما حيويا في الأدبيات السياسية عموما، ولاسيما تلك التي تهتم بأيديولوجيات الحركات الإسلامية. وأكد براونللي أن قراءة هذا الكتاب تبقي ضرورية للدارسين المعنيين بالحركات الدينية، وبالتطور الديمقراطي للمجتمع المصري. أما المفكر المصري السيد يس فقد اعتبر الكتاب إسهاما بارزا في إطار المحاولات الرامية إلي رسم خريطة معرفية للحركات الإسلامية، وذلك في ظل اهتمام الدوائر السياسية والثقافية بمختلف أنماط الهويات الدينية، وقال إن المؤلف يقدم تحليلا دقيقا لجذور الطرق الصوفية وتنظيماتها وممارساتها السياسية، ومدي استيعابها ثقافة الديمقراطية والتحديث، مبينا أن ما يزيد من قيمة الكتاب في نظره هو تضمنه دراسة ميدانية، ولهذا فهو يشكل إضافة معرفية مهمة للمكتبة العربية. وأكد عالم الاجتماع الفرنسي آلان روسيون أنه وجد في الكتاب ما أفاده في دراسته للمجتمع المصري وقال الكتاب قربني أكثر من فهم تيار ديني لم يدرس كما ينبغي من الباحثين في علمي السياسة والاجتماع وهو الطرق الصوفية، وجعلني ازداد اقتناعا بأن الإصلاح السياسي في العالم العربي برمته يجب أن يترافق مع الإصلاح الديني. ويقول عالم الاجتماع المصري علي فهمي مع خبرة في دراسات الدين الشعبي تكاد تناهز نصف قرن أنتهي، بقدر فرض من الموضوعية والدقة المنهجية، أن هذه الدراسة هي الأكثر تميزا بين مثيلاتها في مصر، وأن هذا التميز أوضح في الجوانب النظرية بالغة الثراء. أما فوليا أتاكان، أستاذ العلوم السياسية بجامعة يلدز في تركيا فتقول يتعامل هذا الكتاب مع قضية حيوية بالنسبة لمصر، ويقدم تحليلا مهما للعلاقة بين الطرق الصوفية والسياسة، وهو كتاب نافذ البصيرة وملهم.