د. عمار على حسن المثقفون تركوا صناعة الأخلاق وتربية الأرواح للشيوخ نجيب محفوظ أخطأ وأدان نفسه عندما رفض نشر »أولاد حارتنا« إلا بإذن كتابي الإخوان أكثر تكيفاً مع المجتمع ومشروع السلفيين غريب ومستهجن في طريقي إلي لقاء الروائي والباحث السياسي د. عمار علي حسن، كانت توابع الفيلم المسيء للرسول ما زالت ساخنة، قنابل الدخان المسيل للدموع تتساقط علي المتظاهرين بجوار السفارة الأمريكية، والشيوخ المسيسين ينتهزون الحدث لكسب معارك أخري، مساحة إضافية علي الأرض، موجهين جزءا من اللوم، ولو بشكل خفي، إلي المنادين بحرية الرأي والتعبير. في مكتب د. عمار وجدت المشهد نفسه علي التلفزيون، ليفرض الأمر نفسه علي حوارنا، خاصة مع الدعوات التي تصاعدت تطالب بإضافة مواد متشددة إلي الدستور المصري لحماية العقيدة والذات الإلهية والمقدسات الإسلامية، ولم يفهم أحد الارتباط بين فيلم أمريكي، وبين الدستور المصري. سألت عمار عن ذلك، فقال إن هذه الأزمة تعطي درساً للتيار الديني داخل مصر والذي يتصور أن الدفاع عن الإسلام حق أصيل له، وأن الآخرين ليسوا معنيين به، ها هو يري وسط المحتشدين شبابا من خارجه، من ليبراليين ويساريين، وأناساً عاديين ليسوا محملين بأي أيديولوجيات أو صراعات سياسية، جاءوا غاضبين بشكل فطري لما تيقنوا أنه إساءة للرسول. الدفاع عن المقدسات قضيتنا جميعا، هذا ما عليهم أن يفهموه، نحن مجتمع متدين، والعقيدة بخير، وبالتالي لا يحاولون وضع أي تضييقات في الدستور بدعوي أن العقيدة في خطر، الإسلام قوي في حد ذاته، وهو قادر علي الدفاع عن ذاته، ولا يحتاج إلي وصاية من بشر. غير أن ذلك التيار لكي يتعلم كما يقول د. عمار، فإن هناك دوراً للمثقفين عليهم أن يعودوا إلي ممارسته، فهم كما يري قد تركوا مجال صناعة الأخلاقيات وتربية الأرواح إلي فئة واحدة من الناس، وأنه قد حان الوقت لعودتهم إلي هذا الميدان. تعبئة العوام كتبت في أحد مقالاتك أنه من الخطر أن يتم تعبئة العوام خلال المعارك الفكرية وأن اشراكهم في هذه المعارك يسوق أهل الرأي في اتجاه ترضية الناس وكسبهم وليس في طريق الحق والحقيقة، تطبيقاً علي الواقع هل في الإمكان إبعاد العوام بالفعل عن القضايا الفكرية، في إطار أن التيار الديني دائماً ما يستنجد بالشارع لكسب معركته، وهل سيصمد المثقفون في مواجهة هذا؟ التيار الإسلامي يعبئ العوام منذ زمن ولأسباب سياسية، عبأهم في المعارضة، رأينا أشرطة الشيخ كشك قبل أن تظهر ظاهرة الدعاة الجدد، ثم الفضائيات التي يظهر عليها دعاة، ثم دخول هذا التيار معترك السياسة من خلال تشكيل أحزاب والمنافسة علي السلطة، وهذه استوجبت استخدام أنماط من الدعاية السياسية لأنماط قديمة عفا عليها الدهر، تقوم كلها علي الكذب المنظم وتزييف الحقائق، وعلي تشويه الطرف الآخر المنافس أو شيطنته، وأفضل وسيلة للوصول إلي قلوب الناس هي استخدام الدين ودغدغة المشاعر الدينية، فيطلق علي أصحاب التيار الإسلامي أنهم العصبة المؤمنة الخيرة، وغيرهم العصبة الشريرة الملحدة، ويلبس علي العوام هذا التصور، لكن الشعب المصري بالتتابع بدأ يظهر له أن ذلك التيار ليس بتلك الصورة المبهرة، وأن كل ايجابياته التي حملها في فترة النضال ضد الاستبداد أو فترة اقصائه واضطهاده وابعاده، تلك الصورة الايجابية بدأت تتساقط عنه، واكتشف الناس أن هذا التيار في السلطة لا يختلف عن غيره، وأن الحديث عن الشريعة وتطبيق الإسلام كلها لافتات سياسية، لكن الجوهر غير ذلك تماماً، فالجوهر هو تيار رأسمالي يتبع سياسات تشجيع القلة المحتكرة علي حساب العدل الاجتماعي شأنه شأن أمانة سياسات الحزب الوطني. علي الجانب الآخر المثقفون عليهم ألا ينكمشوا في مواجهة مثل هذا المشهد، بل يقولون أن هناك فارقاً بين الإبداع وبين الاسفاف، وأننا لسنا تابعين كما يحاول أن يصورنا التيار الديني بأن كل ما لدينا هو ثقافة وافدة لا جذر لها ولا أصل لها وليست بنت هذه الأرض، علي النقيض من ذلك لا يوجد قاص أو شاعر أو كاتب تجاوز واجترح العقائد كما يحدث في الغرب، وهذا ليس خوفا من الملاحقة القانونية، وإنما في جزء أكبر منه احترام المجتمع والموروث واحترام عقائد الناس. أيضا ما يحدث الآن يخلق فرصة للمثقفين ليثبتوا للعوام وللتيار الإسلامي من خلال استهجان الاساءة للرسول، من خلال الدعوة إلي ابتكار أفكار للرد ليست بمثل هذا المستوي، أن هذا التيار ابن هذه الأرض وابن هذه الحضارة، ومعتز بدينه شأنه شأن التيار الديني، والفرق بين الاثنين قد يكون فرقا في الاجتهاد، فرقا في التصور، فرقا ما بين تقليدي تراثي حابس نفسه في قمقم الزمن، وبين من يري أن الدين قادر علي التجدد وعلي إبداع أفكار تتفاعل مع الواقع تفاعلا خلاقا، هذه فرصة أن نري في الفضائيات، في أعمدة الصحف، في مقالات كبار الكتاب، في التعليقات، نري في الشارع أيضاً هؤلاء الذين أراد التيار الإسلامي أن يشيطنهم وأن يصورهم للرأي العام باعتبارهم ضد الدين، باعتبارهم ضد العقيدة، باعتبارهم مجرد أبواق للأفكار الغربية. لا كهنوت في الإسلام لكن هل الجماعة الثقافية بوضعها الحالي قادرة علي ذلك، علي العودة للتواصل مع الشارع، خاصة مع فقدها لأعمدة أساسية منها طوال السنوات الماضية، ومع الانهيار الثقافي الذي حصل في زمن مبارك؟ إحدي المشاكل التي نعيشها أن المثقفين الحقيقيين تركوا مجال صناعة الأخلاق وتربية الأرواح للشيوخ، مع أن الإسلام ليس فيه كهنوت، وليس فيه وسيط بين الإنسان وربه، علي العكس من ذلك، نريد مثقفين يحضرون في هذا المجال، حين كان طه حسين يكتب في الإسلاميات، وإذا قرأنا مقدمة كتاب "الشيخان" حين يطالب بإعادة التدقيق فيما كتب تاريخيا حول الصحابة، ولما كان العقاد موجودا وخالد محمد خالد، ومحمد حسين هيكل، وما بعد، وعلي التوازي كان موجودا في هذه المعركة ضد السلفية التي بدأها محمد رشيد رضا رداً علي جماعة الإخوان المسلمين التي بدأت عام 1928، والجمعية الشرعية عام 27، والجمعية الشرعية للعاملين بالكتاب والسنة 24، وأنصار السنة 27، وجدوا أن هناك من يريد أن يفرض اتجاهه الضيق في مجال الإسلام علي الناس باعتبار أن هذا هو الإسلام الصحيح، فهؤلاء الذين كانوا يكتبون في الأدب والفن ويكتبون تعليقا علي الأحداث السياسية الجارية نتيجة أن لديهم ثقافة أصيلة أيضاً استطاعوا منازلة هؤلاء وردهم، وحموا المجتمع من تغولهم، للأسف الشديد في هذا الزمن تركنا مجال الكتابة في الإسلاميات والاجتهاد لهؤلاء، وسلمنا لهم عقول الناس، وكثير من كبار الروائيين وكبار الشعراء وكبار الكتاب لدينا مطلعون علي شق من الحضارة الإسلامية لا يعرفه هؤلاء، قرأوا آدابها وفنونها ومقاماتها ودواوينها، لكن قلة منهم هي التي تعرف في الفقه، يمكنها أن تنازل هؤلاء، وبالتالي حين يتلاقي الطرفان، طرف في اسناده إلي القرآن والسنة وكتب التراث التي تحظي لدي المواطن البسيط ببريق ما أو يعتقد أنها الدين، وطرف آخر لا يحيل إلي هذا أو إلي ذاك وإنما يحيل إلي المنطق والعقل أو إلي اقتباسات من ثقافات أخري، هذا لا يقنع الناس.. إذا كانت المناظرة علي أرضية شرقية امتلكنا أدواتها نستطيع أن نهزمهم، فإذا قال لي ابن تيمية سأقول له ابن رشد، وإذا قال لي أحمد ابن حنبل سأقول له ابن حزم، وهكذا، وأنا في ذهني أيضاً الثقافة الحديثة يمكن أن أوفق بين الإثنين، لكن جزءا من خطابي يجب أن تكون الأصالة واضحة فيه حتي أستطيع أن أرده وأن أوقفه عند حده فهؤلاء يستغلون جهل الناس بالدين ويستعملون آيات في غير موضعها، وحين يأتي المثقفون الحداثيون لمناظرتهم ومواجهتهم لا يستطيعون الرد عليهم. للدين وزنه وقدره لكن يبدو هذا الكلام وكأنه محاولة لتديين الثقافة بشكل ما، وإن كان بطريقة أرفع مما يطالب به الإسلاميون؟ لا، ليس تديينا للثقافة، وإنما إعطاء الدين وزنه وقدره في رؤية المجال العام، لأن هذا واقع، في المنافسة السياسية الأمريكية الدين موجود، دور الدين في المجتمع الألماني وتماسك الأسرة، الدين كان دافع الصينيين للانجاز، الثقافة الكونفوشية التي تحض علي العمل، ولعب هذا الدور أيضا مع الهنود. المسألة هي كيف أحوله من معوق، كما نفعل نحن، إلي دافع للانجاز، لابد من معرفة أنه لا يوجد إنسان بلا دين، حتي الملحد، موقفه رد علي دين وليس علي فراغ، الملحد قد يكون مؤمنا بذاته كإنسان، مثلما يتحدث نيتشه عن السوبرمان أو الإنسان الكامل، ولدينا كثير من الثقافات الفلسفية والصوفية في تاريخ الإسلام التي كادت أن تؤله الإنسان، أو القرآن عندما يقول "من جعل إلهه هواه"، الدين الذي أقصده بمعني الطاقة الروحية والأخلاقية، وليس الدين فقط كنص. هناك أيضا تضييق علي المثقف في ممارسة هذا الدور، يعني أنت لديك مثلا لجنة البحوث في الأزهر مهمتها الموافقة علي أي كتاب له متعلق بالشأن الديني.. لا يوجد وصاية إلا ضمير الإنسان، والأفكار لا تواجه إلا بالأفكار، ولا يمكن علي الإطلاق أن تسند إلي مؤسسة حق الرقابة.. إنما هذا موجود، وهذه اللجنة لها مثلا حق مصادرة كتاب متعلق بالشأن الديني إن لم ترض عنه.. نحن ندين ذلك بالطبع، لكن نقول إنه في ظل ثورة الاتصالات لا يعدم الإنسان أن يوصل أفكاره بأي طريقة، وكثير من الكتب في هذا مجال الاجتهاد الديني وفيها آراء غاية في الجرأة وغاية في التقدم خرجت دون أن توافق عليها هذه اللجنة التعيسة، ومن يذهب إلي هذه اللجنة لتجيز له هو الذي يتحمل مغبة ما فعل، الكاتب الحقيقي والمفكر لا يذهب إلي أي جهة حتي لو كانت الأزهر ليطلب منها وصاية علي كتابه، علي العكس من ذلك أنا كثيراً ما كتبت دون أن أعود لهم، مقدمات لكتب أو أزكيها للنشر في دار نشر وأوصي بطباعتها دون عودة إلي الأزهر، وكثير من أصحاب دور النشر في مصر الآن لا يعودون إلي الأزهر في كتب فيها اجتهاد وجرأة شديدة. المشكلة أن هناك مثقفين وكتابا كبارا أسسوا لهذا الدور ومنهم نجيب محفوظ عندما رفض صدور أولاد حارتنا إلا بإذن كتابي ومقدمة من د. أحمد كمال أبو المجد؟ بالطبع، وكان هذا خطأ شديدا من نجيب محفوظ، وأدان نفسه بهذا الطلب، لكن أنا أحيل ذلك إلي أن نجيب محفوظ يؤمن بوجود كهنوت في الإسلام، أو لأن مؤسسة لها حق أن تجيز أو تمنع إنما.. كان يحمي نفسه.