تعالت الزغاريد في منزل مجاهد الكلاف، حين نجح ابنه منصور في الجامعة بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف. كان أسعد الناس بتفوقه بعد أن قضت المصاريف علي مدخرات الأسرة وأحاطهم الجدب من كل اتجاه، لكنه شعر بأن شقاه لم يتبدد، وجلس بين أقرانه والفرح متجليا في قسمات وجهه، متفاخرا بما حققه ابنه من إنجاز سيحيله إلي وظيفة مرموقة تليق بشهادته التي اجتهد من أجل الحصول عليها. غص البيت البسيط بالمهنئين تتبدي نشوة الفرح في عيونهم، ودارت كؤوس الشربات تحملها الأم سعيدة، وقد تراقص قلبها الذي ذاق من الحوج نصيبا، ليمحو الفرح ليلاً دامسا مسكوناً بالألم يستتر خلف عينيها الغائرتين. كانت راضية رغم شظف العيش، فمن يضاهيها فرحا ولسان حالها يردد »منصور بقي أستاذ». كان الأب مستعدا بتحويشة العمر، فذبح كبشا نذرا وكرما ليأكل الأهل والجيران، وجاء العمدة مهنئا وأطلق عشرات الأعيرة في الهواء، وسط هدير الطبول ونغمات المزمار التي أشاعت جوا من البهجة علي قلوب تجرعت الوجع، حتي انسدلت أستار السماء، وانصرف الناس ليتركوا الأسرة تعيش مع حلمها الذي تحقق بعد طول كفاح. مرت الأيام، ومنصور يترقب الوظيفة التي حلم بها، وسهر الليالي ليكون جديرا بتقلدها، حتي فتح باب التقدم، فاشتري بدلة متواضعة لكنها كانت أفضل من ملابسه التي لا تصلح لمثل هذه المقابلات. جهز أوراقه وارتدي بدلته وسط سحب البخور المتطايرة، ودعوات أمه بالتوفيق، ثم توجه إلي حيث المبني العريق القابع علي ضفاف النيل، فكان أول المتقدمين شكلا وموضوعا. ثم جلس بين زملائه ينتظر دوره في الدخول علي اللجنة، وأخذ يقدح ذهنه ويسترجع معلوماته، وكلما دخل زميل له، تاقت نفسه لمعرفة ما يدور وراء الباب الموصد، حتي سمع صوت الحاجب ينادي باسمه، فدخل فألفي نفسه في مواجهة أناس من عالم آخر غير عالمه الذي اعتاد عليه، أجفانهم منتفخة وعيونهم محتقنة متسمرة في الأوراق الموضوعة أمامهم، ومزاجهم معتكر، وبين الحين والآخر يرمقه أحدهم بنظرة خاطفة وجبين مقطب. كانت أسئلتهم مختصرة، لا علاقة لها بتفاصيل الوظيفة، أو المعلومات المتعلقة بها، وشعر بكآبة تثقل قلبه نتيجة نظراتهم المستريبة، لكنه كان مرغما علي الإجابة التي كانت موؤده بسؤال آخر تحمله نظرة استنكار من عيون تملؤها حدة. ثوان معدودة كانت عمر اللقاء، الذي لا يتذكر من تفاصيله شيئا لسطحيته وخلوه من المعني. انتهت المقابلة وعاد من حيث أتي. مرت الأيام رتيبة مملة مترعة بالتوتر، وهو ينتظر النتيجة، تطارده أفكار سوداء وتأخذه أماني مستحيلة وحلم الوظيفة يتردد صداه في أنحاء روحه وبداخله إحساس مشوش وخيالات الرفض تهاجمه بين الحين والآخر، لكنه كان يصبر نفسه بتفوقه الذي سيكون سيدا للموقف ويحسم اختياره. وقف أمام كشف المقبولين ولم يكن منهم. حينها مادت الأرض تحت قدميه وتراءي له الإخفاق كنبأ خاطف، كومضة برق، فتلمظ لسانه المرارة وألجم بصمت طويل ممزوج بالذهول بعد أن أحس بوجوده يتبدد وكينونته تطمس. سأل عن السبب فكان الرد واضحا بأنه غير لائق اجتماعيا، ومثل هذه الوظائف لا ينالها إلا أبناء الكبار. فراحت الصدمة تترسخ أمامه كجبل شاهق، حين أحاله الإخفاق إلي ذلك الحاجز العنصري الذي لا يمكن تجاهله أو تفاديه مهما اجتهد. قطع الطريق ينهب الأرض بخطوات مسرعة، نحو غاية لا يعرفها وفي لحظة أدرك أنه لا يعرف نفسه، ولا قريته التي رآها موطنا للأشباح أو قبراً للأموات ليس أكثر. وعاوده شلال الذكريات، اكتسحه كأنما الماضي مارد عملاق خرج من القمقم ليحويه بآلامه وأيامه الصعبة، وبدأ شريط العمر يتراءي أمامه بمشاهد والده بتجاعيد وجهه المغبر بلون التراب، وعظامه البارزة وأنامله المعروقة وبشرته المغضنة وخده الهضيم وشعره الأشيب، وهو يمسك الفأس بيديه التي تشققت من العمل، والعرق يتفصد من جبينه ليبلل وجنتيه التي حفر فيهما قسوة الزمن ملامحه. ورويدا رويدا صارت أحداث حياته خلفه، وبدأ يحس بأن أواصره مع العالم تتآكل، وظل يفكر في هذا الشقاء المستوحش علي جثة الأمل، ولم يكن بخاطره سوي أسئلة تدق رأسه بمطارق من حديد... ماذا سيقول لأسرة غرقت في مأساة العمر؟ غرقت في الفقر، تتقلب علي جمر الحاجة، ونار التهميش، حتي لاح لها الفرج، وسرعان ما تبدد واختفي، حين مات الأمل في حادث ثقة، وقتل الطموح غدرا في معركة عنصرية. كيف يعود لقريته يجر ذيول الخيبة؟ وكيف يواجه عيون والديه المنكسرة حين تبلغهم النتيجة؟ وقد هوت أحلامهم من حالق فارتطمت بصخرة الواقع وتناثرت كشظايا البلور؟ لم يجد إجابة مقنعة لهذه الأسئلة السوداء، فانطفأت شعلة حياته وصار أيأس الخلق، بعد أن حفر فيه الضياع أخاديده ودروبه. فظل يمشي ويقطع الطرقات حتي وقف فوق الكوبري وهو يلهث ويتصبب عرقا، ويداه ترتعشان رهبة، وقلبه ينبض خيفة، وروحه ترتجف من عصف الزمان وتصاريف الإنس الظالمة. حينها شعر بأنفاس الموت قريبة منه، تكاد تلفحه، وبدأت عيناه تغيمان عن واقع مؤلم، وبدأ يسرح في عالم آخر، وينظر إلي صفحة الماء المتدفق من تحته وكأنه ينظر إلي فراغ. ترتجف شفتاه ويتمتم بكلمات غير مفهومة، وقد صمت أذناه عن ضجيج الدنيا التي لم تسعفه ولم تفتح له يوما ذراعيها. وفجأة... رمي نفسه يحتضن الماء وهو يردد بصوت يقطع نياط القلوب: »منصور ابن مجاهد الكلاف عمره ما هيكون بيه».