هل كان عليّ أن أنتظر أكثر من ربع قرن لأعبّر عن حنينى لذلك المثلث، الآلة الإيقاعية الوحيدة التى كان مسموحًا لى بأن أعزف عليها ثلاث نقرات بعصا معدنية خفيفة، عندما أتلقى إشارة خاطفة من يد مدرس الموسيقى قائد فرقة العزف فى حفلات المدرسة؟! يا غصن نقا! هل كان عليّ أن أنتظر أكثر من ربع قرن لأعبرّ عن أشواقى العارمة تجاه البيانو فى ركنه البعيد فى زاوية ما من حجرة الموسيقى، أتمسح به مثل قطة شريدة وأحلم بتحريك أصابعى على أصابعه البيضاء والسوداء ليندفع فى الحجرة هذا النغم الساحر الذى ينقلنى إلى عالم مسحور! كنت أرقب زميلاتى العازفات على أصابعه، وأخريات يعزفن على «الأكورديون» و«الإكسلفون» وحتى على «الكلارنيت»، ولا أملك إلا دقاتى الثلاث على المثلث بعد أن اختار الجميع آلاتهم الموسيقية وتمكنوا من العزف، ولم تتح لى فرصة التدريب، وإن كانت قد أتيحت لى فرصة المشاركة فى الكورال المدرسى. ومع ذلك كان مدرس الموسيقى عاشقًا لها، إن لم يتوافر لديه الوقت لتدريبنا على الآلات، وآثر من يقتنون العزف عليها فى المشاركة فى حفلات المدرسة، لكنه كان يتيح لنا الفرصة للغناء، وأعجب أنه اختار لنا موشحًا أندلسيًا جميلاً، كان متعلقًا به يبدأ به حصة الموسيقى، كانت عيناه تغيمان بدمع رائق وهو يغنى: «ياغصن نقا مكللا بالذهب/ أفديك من الردى بأمى وأبى/ إن كنت أسأت فى هواكم أدبى/ العصمة لا تكون إلا لنبى». وكان ذلك فاتنًا أن تستمتع لشاعر يعتذر لحبيبته، كان ذلك رائعًا فى وجدان فتيات صغيرات، تلميذات بشرائط حمراء، ومرايل تيل «نادية»، إذ يسجن فيَّ إحساس غامض بسحر الحب والموسيقى. وجهات نظر فى الحب ومعانيه وكان المدرس أحيانًا يتكئ على أبيات أخرى من نفس الموشح وكأنه يذكر نفسه لها «أيا من سألك عن الهوى كن عادل/ احذر تبلى وخلى عقلك عاقل/ واسمع مثلا من منتبه لا غافل/ الحب أذى والعشق سم قاتل»! وكنت أرتجف فهذا هو المدرس يصف الحب بالأذى وبالسم القاتل!، ومع ذلك كانت قلوبنا تخفق بالحب وتحلم به، وكنا ننتظر عينيه الغائمتين وهما تترقاقان للغصن النقا! والآن بعد أن أتيحت لنا الفرصة لسماع الموشح نفسه وقد كبرنا بصوت فيروز، وصباح فخرى، وفرقة الموسيقى العربية بأصوت جماعية فأصبحت لنا وجهات نظر أخرى فى الحب، وفى الموشح نفسه، وفيما أغفله المدرس من سطور الموشح والتى كانت لها القدرة على أن ترسم عالما أكثر جمالاً. لا تعذب العاشق! فمن سطور الموشح التى أغفلها المدرس ما قاله الشاعر صاحب الموشح وهو أبوبكر زهر شاعر من أشبيلية بالأندلس وهو يصور الحب والأحباب ويحذر من تعذيب العاشق: «تالله لقد سمعت فى الأسحار/ عن جارية تدق بالأوتار/ تالله لقد سمعت من منطقها من عذب عاشقا جزى بالنار». ومع الزمن دخلت بعض التعديلات على الأبيات التى حملت نفس المعانى، فعندما تسمع فيروز وهى تغنيه فهى تشدو بهذه الأبيات كالتالى: «والله لقد سمعت فى الأسفار/عن ساحرة تهيم بالأوتار/ والله لقد سمعت من مبسمها/ طيب الغزل ورقة الأشعار». ولا أدرى من الشاعر الذى أجرى التعديل، وهل الأصل فى كلمات الموشح أن من عذب عاشقًا جزى بالنار، أم إن الساحرة الهائمة بالأوتار أسمعته طيب الغزل ورقة الأشعار»؟ شكرا للموسيقى لكن الارتباط كان وثيقًا بين الأوتار ورقة الأشعار فطيَّب الله ثرى الشاعر أبوبكر بن زهر، وأثاب مدرس الموسيقى الذى عرفنا على هذا الموشح فى صبانا، وإن كان قد وقف بى عند حدود العزف عازفة للمثلث!، ذاك الذى أبحث عنه بين أيدى العازفين فى كل فرقة موسيقية أراها وأكتشف أن المثلث آلة موسيقية مدرسية لم يكتب لها أن تسهم فى الحفلات الموسيقية العامة أو المتخصصة ومع ذلك سيبقى حنينى للمثلث، وللدقات الثلاث، وتظل أشواقى المختزنة للبيانو تلك التى تنتظر أن أعبّر عنها! وشكرا لمدرس الموسيقى، وحصة الموسيقى، ولمدرستى فى دمياط المدرسة الساكنة فى القلب وعلى شاطئ البحر، وكلما غنى المغنى «يا غصن نقا مكلل بالذهب»، ترقرقت عيناى بالدمع الغائم وكأنه سحابات تنذر بأمطار أخرى مؤجلة، ومشاعر مختزنة يفجرها الحب والموسيقى. أغنية الأبجدية غناء المطرب والملحن السورى:محمد ضياء أ-ب-ت-ث-ج-ح-خ د-ذ-ر-ز-س-ش-ص ض-ط-ظ-ع-غ-ف-ق ك-ل-م-ن-ه-و-ى ماما.. بابا.. وطنى.. علمى.. حرية.. قومية.. سلام.. حمام .. جندى.. بلدى.. شجاع