4 شهداء جراء استهداف إسرائيلي لمنزل عائلة "الهمص" في حي الجنينة شرق رفح    مسؤول أمريكي: التوغل الحالي في رفح لا يمثل عملية عسكرية كبرى    وفد قطري يصل القاهرة اليوم لاستئناف المفاوضات بشأن صفقة غزة    وسائل إعلام أمريكية: القبض على جندي أمريكي في روسيا بتهمة السرقة    ميلكا لوبيسكا دا سيلفا: بعد خسارة الدوري والكأس أصبح لدينا حماس أكبر للتتويج ببطولة إفريقيا    خبير لوائح: أخشي أن يكون لدى محامي فيتوريا أوراق رسمية بعدم أحقيته في الشرط الجزائي    شبانة ينتقد اتحاد الكرة بسبب استمرار الأزمات    تعرَّف على سعر إطلالة ياسمين عبد العزيز في برنامج صاحبة السعادة    كريم شحاتة: كثرة النجوم وراء عدم التوفيق في البنك الأهلي    كاسونجو يتقدم بشكوى ضد الزمالك.. ما حقيقة الأمر؟    العاهل الأردني: الهجوم الإسرائيلي على رفح يهدد بالتسبب في مجزرة جديدة    صدقي صخر يكشف مواصفات فتاة أحلامه: نفسي يبقى عندي عيلة    أمين البحوث الإسلامية: أهل الإيمان محصنون ضد أى دعوة    وكيل صحة قنا يجري جولة موسعة للتأكد من توافر الدم وأمصال التسمم    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الأخير.. أسعار الذهب والسبائك اليوم الثلاثاء 7 مايو بالصاغة    لا تصالح.. أسرة ضحية عصام صاصا: «عاوزين حقنا بالقانون» (فيديو)    4 ساعات فارقة.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم وتكشف أماكن سقوط الأمطار في مصر    مصرع سائق «تروسكيل» في تصادم مع «تريلا» ب الصف    صليت استخارة.. ياسمين عبد العزيز تكشف عن نيتها في الرجوع للعوضي |شاهد    الأردن: نتنياهو يخاطر بتقويض اتفاق وقف إطلاق النار بقصفة لرفح    عملت عملية عشان أخلف من العوضي| ياسمين عبد العزيز تفجر مفاجأة.. شاهد    التصالح في البناء.. اليوم بدء استلام أوراق المواطنين    صندوق إعانات الطوارئ للعمال تعلن أهم ملفاتها في «الجمهورية الجديدة»    مصرع شخص وإصابة 10 آخرين في حادثين منفصلين بإدفو شمال أسوان    الزمالك: تعرضنا للظلم التحكيمي أمام سموحة.. والأخطاء تتكرر في المباريات الأخيرة    اللواء سيد الجابري: مصر مستمرة في تقديم كل أوجه الدعم الممكنة للفلسطينيين    بعد الارتفاع الأخير.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الثلاثاء 7 مايو بالمصانع والأسواق    أول رد من ياسمين عبدالعزيز على توقع خبيرة أبراج زواجها مرة أخرى.. ماذا قالت؟    الدوري الإنجليزي، مانشستر يونايتد يحقق أكبر عدد هزائم في موسم واحد لأول مرة في تاريخه    النيابة تصرح بدفن 3 جثامين طلاب توفوا غرقا في ترعة بالغربية    مصر للطيران تعلن تخفيض 50% على تذاكر الرحلات الدولية (تفاصيل)    برلماني يطالب بإطلاق مبادرة لتعزيز وعي المصريين بالذكاء الاصطناعي    عاجل - تبادل إطلاق نار بين حماس وإسرائيل قرب بوابة معبر رفح    القومية للأنفاق تبرز رحلة بالقطار الكهربائي إلى محطة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية (فيديو)    العمل العربيَّة: ملتزمون بحق العامل في بيئة عمل آمنة وصحية كحق من حقوق الإنسان    "يا ليلة العيد آنستينا وجددتي الأمل فينا".. موعد عيد الأضحى المبارك 2024 وأجمل عبارات التهنئة بالعيد    يوسف الحسيني: إبراهيم العرجاني له دور وطني لا ينسى    سؤالًا برلمانيًا بشأن عدم إنشاء فرع للنيابة الإدارية بمركز دار السلام    إبراهيم عيسى: لو 30 يونيو اتكرر 30 مرة الشعب هيختار نفس القرار    الأوقاف تعلن افتتاح 21 مسجدا الجمعة القادمة    فيديوهات متركبة.. ياسمين عبد العزيز تكشف: مشوفتش العوضي في سحور وارحمونا.. فيديو    فرح حبايبك وأصحابك: أروع رسائل التهنئة بمناسبة قدوم عيد الأضحى المبارك 2024    ب800 جنيه بعد الزيادة.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي الجديدة وكيفية تجديدها من البيت    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل كل قضاء قضيته لنا خيرًا    عملية جراحية في الوجه ل أسامة جلال    تعرَّف على مواصفات سيارات نيسان تيرا 2024    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 7-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    ياسمين عبد العزيز: «كنت بصرف على أمي.. وأول عربية اشتريتها ب57 ألف جنيه»    بالأسماء، إصابة 16 شخصا في حادث الطريق الصحراوي الغربي بقنا    في 7 خطوات.. حدد عدد المتصلين بالراوتر We وفودافون    هل يحصل الصغار على ثواب العبادة قبل البلوغ؟ دار الإفتاء ترد    رغم إنشاء مدينة السيسي والاحتفالات باتحاد القبائل… تجديد حبس أهالي سيناء المطالبين بحق العودة    بعد الفسيخ والرنجة.. 7 مشروبات لتنظيف جسمك من السموم    للحفاظ عليها، نصائح هامة قبل تخزين الملابس الشتوية    كيفية صنع الأرز باللبن.. طريقة سهلة    أستاذ قانون جنائي: ما حدث مع الدكتور حسام موافي مشين    في 6 خطوات.. اعرف كيفية قضاء الصلوات الفائتة    عقوبة التدخل في حياة الآخرين وعدم احترام خصوصيتهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سر إمرأة..
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 17 - 07 - 2013


الممثلة المعروفة قررت الإعتزال فجأة..
الخبر نشرته كل المجلات تقريبا، فالنجمة الكبيرة مازالت صورها تخطف الأبصار.. واسمها لابد أن يذكر في كل حديث عن السينما أو الفن.. فهي ترقص وتغني وتمثل بنفس المهارة والبراعة والأنوثة الطاغية..
انهالت التليفونات داخل شقتها.. مكالمات من مصر ومن بعض الدول العربية.. والنجمة تتعمد ألا ترفع السماعة في كل مرة.. ذهب إليها الصحفيون.. اعتذرت عن عدم استقبال بعضهم، ورفضت الحديث في قرار اعتزالها للبعض الذي لم تقدر أن تعتذر عن عدم مقابلته.. وعندما طاردتها الأسئلة.. وحاصرها الصحفيون.. وأزعجها رنين التليفون المستمر.. أعلنت أنها ستسافر إلي أوروبا..
وبالفعل تركت شقتها.. لكنها أقامت بإحدى الشقق المفروشة الفاخرة بحي راق من أحياء الجيزة.. ايجارها ألف جنيه شهريا.. كانت تدفعها عن طيب خاطر لتخلو إلى نفسها وتركن إلى هدوء افتقدته في شقتها بقلب العاصمة.. ولم تتركها الشائعات.. قالوا إن مرض "الإيدز" أصابها.. وقالوا إنها أدمنت الهيرويين.. والماكستون فورت ولم تعد تفيق منهما إلا نادرا.. والبعض قال أن "تتحجب" مثل باقي زميلاتها اللاتي اعتزلن الفن تفرغا للعبادة وبيت الزوجية وحقوق الزوج.
ولم يكن رأي واحد من هذه الآراء قد أصاب الحقيقة.. ولم تهتم النجمة المعروفة بكل ما قيل، تقضي معظم وقتها في احتساء القهوة والتهام السجائر بشراهة.. والتفكير بعمق.. عيناها لا تفارقان جهاز التليفون في شقتها الجديدة.. بعد أن أرسلت "تلكس" إلى صديقة عمرها في لندن.. تخبرها بالرقم الجديد وترجوها أن تتصل بها قبل أن تقدم على الإنتحار..
ودق جرس تليفون النجمة المعروفة..
مكالمة لندن وصلت.. أرهفت السمع حتى جاء صوت صديقتها الوحيدة.. كانت أيضا "الإسفنجة" التي تمتص همومها ومشاكلها وأحزانها.. النجمة المعروفة لم تكن تثق إلا فيها.. النجمة ينصت الناس إلى حديثها إذا تكلمت.. وكأن على رؤوسهم الطير.. وهي لا تنصت لحديث أحد إلا صديقتها هذه.. كبار الشخصيات الاجتماعية تسعى إلى مقابلتها وتسألها عن أخبارها بينما هي تسعى إلى لقاء صديقتها وتنهال عليها بالأسئلة عن أخبارها..
لم تكن الصديقة نجمة.. ولا مشهورة.. ولا شخصية عامة.. كانت مجرد امرأة ناضجة العقل، مرهفة الحس، زوجة مليونير انتشلها من فقرها وأسرتها منذ عدة أعوام.. وأصبحت تجوب معه عواصم العالم لمتابعة أنشطته الاقتصادية واستثماراته فيها.. لكن العلاقة الوطيدة بين النجمة وصديقتها ترجع إلى أيام الصبا.. جمع بينهما الفقر والحي الشعبي الشهير بالقاهرة.. وجمعت بينهما أيضا المدرسة.. النجمة فشلت في التعليم بعد أن مات أبوها.. وتركهم بلا معاش أو دخل أو ميراث.. والصديقة تفوقت في دراستها حتى تخرجت في الجامعة.. واحدة عوضت جهلها بالنجومية.. والثانية عوضت فقرها بالبكالوريوس.. مرة أخرى جمعهما الثراء.. النجمة تتقاضى أجرا خياليا عن أدوارها في السينما.. والصديقة وهبها زوجها نصف ثروته داخل البلد..
أمسكت النجمة سماعة التليفون وبكت..
اختنق صوتها.. وتحشرجت نبراتها.. واستسلمت لدموعها.. صرخت الصديقة بأعلى صوتها على الخط الآخر.. مالك يا... كررتها ثلاث مرات.. حتى أفاقت النجمة وتمالكت أعصابها.. وهمست لصديقتها بأنها ستنتظرها على أول طائرة.. لتحكي لها شيئا لا تستطيع أن تنطق به أمام أي مخلوق آخر.. أحست الصديقة بضعف النجمة وهي تتوسل إليها قائلة:
- أنا مش هحتاجك في حياتي قد دلوقت..
وقبل أن ينقضي اليوم التالي على المكالمة كانت صديقة النجمة السينمائية في القاهرة.. توجهت لتوها من مطار القاهرة إلى شقة النجمة الجديدة. طوال الطريق.. كانت تخمن وتتكهن بما أصاب صديقتها النجمة التي تعرف عنها منذ زمن بعيد أنها أقوى من أي أزمة أو موقف.. بل أدهشها أكثر أنها قرأت خبر اعتزالها السينما والفن في وقت تتربع فيه على عرشهما.. وتنتظرها سنوات أخرى طوال وهي صاحبة العرش دون أن يزعزعها أو يزاحمها فيه نجم آخر أو نجمة أخرى.. واحتارت الصديقة.. ليس في حياة النجمة حتى آخر لقاء بينهما منذ عام. وآخر مكالمة منذ أربعة شهور، ما يمكن أن ينجم عنه هذه التطورات الغربية والتي فجرت دموعها وقلبت حياتها رأسا على عقب..
وينتهي الطريق فجأة وتصل إلى بيت النجمة الكبيرة.. وكان آخر ما تتوقعه أن تبدأ النجمة المعروفة مأساتها بالحديث عن "محمد".. وراحت الصديقة تجتر بسرعة كل ما يتعلق بمحمد في شريط ذكرياتها الحافل مع سعدية ومحمد منذ سنوات الصبا..
"سعدية".. كان الاسم الحقيقي للفنانة المعروفة.. ولم تكن تسمع هذا الاسم أبدا إلا من محمد.. وحتى صديقتها الوحيدة كانت تناديها بالاسم الفني الذي اختاروه لها.. وقدموها به.. ووضعوه قبل أسماء النجوم الرجال في أفيشات الأفلام..
قبل أن تلمع سعدية.. كانت تقطن فى شقة متواضعة مع أسرتها بالحي الشعبي الشهير بوسط القاهرة.. أمام تلك الشقة كانت نافذة حجرة محمد الابن الوحيد لوالدين مسنين.. رزقهما به الله بعد طول عقم.. وحينما حصل محمد على الإعدادية بدأت أولى الصدمات في حياته.. عاد من المدرسة بعد أن شاهد النتيجة، وهنأه زملاؤه بالتفوق على كل تلاميذ المنطقة.. كان يقفز من الفرحة وهو يعدو وسط زملائه.. لن يشعر بحلاوة كلمة "مبروك" حتى يسمعها من سعدية.. لابد أنها تنتظره في النافذة كالعادة.. لم يكن حب مراهقة كما تخيلت العائلتان.. محمد يخاف على سعدية من الهواء الطاير.. منذ أن كانت تلعب معه في الحارة.. كان يحميها من باقي الأطفال.. ويقتسم معها طعامه.. ويشتري لها من مصروفه "اللبان والشيكولاتة".. كان يبكي إذا سمع أباها وهو يضربها لأن ملابسها اتسخت.. أو انفقت كل مصروفها.. وينتظرها في النافذة حتى تطل هي الأخرى من نافذتها وتبتسم له فينصرف.. الصغار أحيانا يمارسون الحب بنقاء لا يعرفه الكبار.. ولأن محمد كان صغيرا فقد كان يردد أمام من يراه في براءة:
- "أنا بحب سعدية قوي يا امه..
وكثيرا ما كانت سعدية تخبر والدها أنها ذاهبة لتلعب مع محمد.. ودون أن تشعر بحرج الكبار.. أو تستخدم لؤمهم.. لابد إذن أن سعدية ستطير الآن من الفرحة على نجاح محمد وتفوقه.. كان متأكدا من أن نصف سعدية الأعلى يتدلى من النافذة.. وعيناها لا تفارقان ناصية الحارة تنتظر قدومه..
لكنه وجد زحاما شديدا وصراخا مدويا..
تفرق زملاؤه من حوله.. اختفت الابتسامة من فوق وجهه.. تبددت سعادته.. لم يعد قادرا على حفظ توازنه.. الصرخة احتبست في حلقه.. الدموع تحجب عنه الرؤية.. الناس يقولون له عبارات تؤكد ما حدث.. أغمي عليه.. حملوه إلى شقة أحد الجيران.. لا يكاد يفيق حتى يفقد القدرة على التركيز مرة أخرى.. لا يصدق أن بيته قد انهار.. أمه وأبوه تحولا إلى جثتين هامدتين مع باقي الجثث تحت الأنقاض.. كان معهما قبل الذهاب لرؤية النتيجة.. أمه قالت له وهو على باب الشقة:
- ربنا مايخيب لك ظن يا بني..
بينما أبوه قال في كلمات واضحة وحاسمة:
- سأمنحك جنيها كاملا لو جبتلنا خبر يفرحني أنا وأمك..
كان محمد يصرخ كلما أفاق بأن والديه مازالا ينتظرانه ليطمئنا على نتيجته.. حتى لو كانا تحت الأنقاض.. لم يكن يعلم أنه في شقة "سعدية".. وأنها كانت أكثر الموجودين رعاية له وعطفا عليه.. حثت والديها وأشقاءها على أن يبقى محمد معهم.. وكانت صدمتها الكبرى حينما أصرت عمته فور وصولها على أخذ محمد إلى بلدة أبيه ليتربى بين أولاد عمته.. وليبتعد عن مسرح الحادث البشع الذي لن يبرح عينه إذا عاش في نفس الحارة.. وبعد أيام اصطحبته العمة معها.. كان مكسورا، خائفا، مهموما، ليس له رأي أو قرار.. الحياة صفعته فجأة وهو في قمة نشوته وأمانه.. صافح سعدية لأول مرة دون أن ينظر إلى وجهها أو يرفع رأسه من الأرض.. ولم تنم سعدية - ذات الخمسة عشر ربيعا ليلتها - ظلت تبكي حتى الصباح وتحرص على ألا يسمع أنينها أحد.
ومضى عام كأنه الدهر في شبرا والشرقية..
في شبرا، ارتبكت حياة سعدية تماما.. أغلقت النافذة المطلة على أنقاض منزل محمد.. صديقتها الوحيدة لا تنقطع عن زيارتها ومواساتها.. زميلاتها في المدرسة شعرن أن سعدية لم تعد تمزح كعادتها.. وأن الكآبة ملأت وجهها والملل أصاب حديثها.. وسعدية لأن جمالها ضاع فجأة خلف هموم الدنيا التي تبدو على ملامحها.. أم سعدية شعرت أن ابنتها كبرت.. وأنها تعاني شيئا لن تبوح به.. بدأت تلحظ أن سعدية تشرد في المذاكرة.. لا تأكل بشهية كما اعتادت.. تعتكف في منزلها فور عودتها من المدرسة وحتى اليوم التالي.. ولكن أم سعدية انصرفت عن ابنتها بسرعة.. انشغلت بالمرض الخبيث الذي أصاب زوجها.. وحار الأطباء في علاجه.. وعجزت عن نفقات المستشفى والتحليلات والعمليات، حتى مات الزوج وهو يصرخ من الألم على فراشه..
ساءت حالة سعدية وتدهورت صحتها هي الأخرى.. وعرفت الأم من صديقة ابنتها أن سعدية تحب "محمد" وضربت الأم بيدها على صدرها وهي تصرخ في دهشة:
- بتحب.. حب ايه يا بنتي أنت وهي.. ايه الكلام الفاضي ده يا أولاد..
وبدأت الأم تحيط ابنتها بالأسوار العالية.. ترقبها بعد صلاة العشاء وتنصحها من الفجر إلى المغرب
وفي الشرقية.. وفي إحدى القرى المتواضعة.. كاد محمد يختنق من حياته الجديدة داخل أحد الكفور.. إذا كان الموت قد حرمه من أبيه وأمه.. فما الذي حرمه من سعدية؟..
طفش من البلدة كلها.. وصل إلى القاهرة مرهقا، جائعا، مفلسا، في موقف "أحمد حلمي" دمعت عيناه، نفس هذا المكان يذكره جيدا.. مرات عديدة كان يحضر فيها مع والده وهما مسافران إلى البلد.. والده كان يشترى له كل ما يحب قبل أن يقلع الأتوبيس السريع إلى القرية.. ومع ذلك يمنحه بعض القروش لتبقى في جيبه ليشتري ما يشاء من الباعة الجائلين داخل الأتوبيس..
الآن.. يقف وحيدا.. ليس في جيبه قرش صاغ واحد.. لم يصبر حينما كان مع عمته لادخار المزيد من مصروفه.. حينما اكتمل ثمن التذكرة إلى القاهرة هرول إلى السفر.. كاد يقع بين الأقدام والحقائب و"البؤج" التي يتقاذفها الركاب في صراعهم للحصول على المقاعد الخالية..
مشي على قدميه نصف ساعة.. كان كالسائح القادم إلى هذا المكان لأول مرة.. عام مضى لكنه كالعمر كله.. اقترب من الحي.. وقعت عيناه على المبنى الذي شهد أجمل أيام عمره.. مدرسته.. مازالت كما هي.. لم يتغير شيء فيها.. تحركت الدموع في عينيه على بعد خطوات أخرى.. مدرسة سعدية تجاور مدرسته.. تماما كمنزليهما.. أحيانا كان يتظاهر بالمرور من أمام مدرسة سعدية ليصطنع لقاء معها.. خطوات أخرى وأطل المشهد الكئيب من بعد.. منزله تحول الآن إلى خرابة يلقى فيها الناس بفضلاتهم، ويلعب فيها الصغار الكرة الشراب..
تسمرت قدماه.. أحد زملائه في المدرسة.. كان أيضا صديقه الوحيد.. تماما كصديقة سعدية الوحيدة.. مهما عرف الاثنان من زملاء أو معارف أو جيران.. مهما تغير بهم الزمن.. فلكل منهما صديق واحد يرتاح إليه ويثق فيه.. ارتمى الاثنان في أحضان بعضهما.. وقبل أن يهمس محمد بكلمة واحدة، سأل صديقه عن سعدية.. أحزنه خبر وفاة والدها.. وضايقه خبر رسوبها في الامتحان لأول مرة في حياتها.. وألمه أن يسمع عن اكتئابها وبسمتها المفقودة..
هرول إلى هناك.. إلى شقة سعدية..
وفي نفس اللحظة التي وقعت فيها عينا سعدية على محمد.. بدت وكأنها لم تفقد من وزنها جراما واحدا.. هجرتها الكآبة.. وملأت ملامحها ابتسامة عريضة.. وانفلتت منها كلمات سريعة خرجت منها دون أن تدري.. مازالت تذكرها كما قيلت حتى الآن..
- معقول.. مش معقول.. انت.. مش معقول..
قالتها عدة مرات وهي تقترب منه رويدا رويدا.. أما هو فقد لمعت عيناه.. وازدادتا بريقا وتوهجا كلما اقتربت سعدية منه خطوة.. شعر محمد أن الحياة لم تحرمه من كل شيء بعد.. اتفقا على أن يتقابلا خارج المنزل لأول مرة.. أخبرها أنه يبحث عن عمل في القاهرة ليراها كل يوم.. وينفق على تعليمه وعلى نفسه من أجره وعرقه.. وأنه يقيم عند صديقه وجاره القديم.. و.. وقالت له أن أمها تريد أن تخطبها لفوزي ابن تاجر المخدرات بالمنطقة.. ليتمكن بثرائه من انتشال أشقائها "الصبيان والبنات" من الفقر الداهم الذي ورثه لهم والدها.. وقالت له سعدية إن ذلك قد يتم في حالة واحدة.. أن تفقد عقلها أو عمرها.. وقال لها محمد إنه سيدخر كل مليم يكسبه ليتمكن من خطبتها بعد ثلاث سنوات.. والزواج منها بعد ثلاث سنوات أخرى.. وهتفت سعدية..
- هستناك العمر كله..
تحملت سعدية كل ألوان العذاب، ورفضت فوزي..
وقرر فوزي الانتقام منها.. وقبل أن ينفذ خطته كانت الشرطة قد اعتقلته ثم حوكم وقضي عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة.. ومع ذلك لم تغفر أم سعدية لابنتها إصرارها على رفض فوزي.. فقد توالت النكبات.. آخرها حكم من صاحبة المنزل بطردهم من الشقة لانقطاعهم عن سداد الايجار.. في اللحظة الأخيرة انشقت الأرض عن "محمد" ليسدد المبلغ المطلوب.. وينقذ العائلة من التشرد.. وبدأت الأم تتأهب للتعاطف مع محمد.. تغيرت لهجتها عنه وهي تحدث ابنتها..
- "طيب وابن حلال".. غلبان مالوش حد ياضناي..
لكن ثقة الأم في محمد لم تدم طويلا.. عادت فجأة من السوق لتجده داخل الشقة في عناق حار مع ابنتها.. شاهدت ابنتها وهي غائبة عن الوعي في قبلة ليس لها أول ولا آخر.. جذبت محمد من كتفه، صفعته على وجهه، طردته من منزلها.. بينما خلعت حذاءها تضرب به رأس سعدية.. ولم يمنعها حذاء أمها من مقابلة حبيبها.. كلاهما كان يخلع عن الآخر الإحساس باليتم.. ومحمد معها لم يشعر برحيل أمه.. ولا سعدية معه تشعر بأن أباها قد مات.. لم ينقطع حبهما يوما.. ولم تنقطع أيضا قبلات كل لقاء.. كلاهما عرف طعم القبلة لأول مرة مع "الآخر" وكلاهما لم يدق قلبه بالحب إلا للآخر.. توحدت آراؤهما.. تفردت أفكارهما.. الكلمة ينطقانها في وقت واحد.. والجملة يكملها المستمع منهما إلى حبيبه المتحدث.. لكن أكثر ما يغيظ الحب هو الفقر.. مطالب أسرة سعدية لا تنتهي.. هي نفسها بدأت تشعر أنها أفقر بنات الدنيا.. تبدل أحذيتها مع شقيقاتها.. كل واحدة منهن تلبس الفستان مرة.. و"الجونلة والبلوزة" مرة.. أحيانا كن يستخدمن حذاء واحدا.. فلا تخرج إحداهن قبل أن تعود حائزة الحذاء من الخارج..
ولأن سعدية رسبت العام الثالث فقد انصاعت لرأي أسرتها وخرجت تبحث عن العمل.. ووجد محمد أنه يقف مكتوف الأيدي أمام مشاكل سعدية خاصة بعد أن تطوع في القوات المسلحة.. واستأجر حجرة مستقلة فوق أحد أسطح المنازل بشبرا الخيمة.. ولم يعد ما يدخره في الشهر أكثر من خمسة جنيهات.. لكن سعدية أقنعته بأن عملها ضروري.. ولابد أن تكافح معه وتدخر معه.. من أجل أن يتوجا حبهما بالزواج.. أقلع محمد عن السجائر.. وقرر أن يأكل اللحم مرة واحدة في الشهر.. ليتمكن من رفع ما يدخره إلى عشرة جنيهات شهريا.. وبدأ يحقق نجاحا في برنامج حياته الفقير.. وذهب أول أيام الشهر ليسلم سعدية أول عشرة جنيهات صحيحة يدخرها.. لتدفعها له في "الجمعية" التي حدثته عنها.. ولكن سعدية تخلفت لأول مرة في حياتها عن محمد.. لم تحضر كما أخبرته في الثالثة ظهرا أمام سينما "ميامي".. كانت تؤكد عليه ألا يتأخر ككل مرة.. لأنها تتعرض للمعاكسات المستمرة وهي تنتظره.. وتلتهب أعصاب محمد.. لا يمنع سعدية عنه إلا الموت.
لكن سعدية لم تمت.. بل كانت في قمة سعادتها..
قبل أن تنصرف من "المصنع" الذي تعمل به، متجهة إلى لقاء حبيبها محمد فوجئت بحشد كبير من المعدات الفنية وآلات السينما وكاميرات التصوير وكبار الممثلين والممثلات التي تسمع عنهم فقط.. حضر الجميع لتصوير بعض المشاهد داخل المصنع.. بينما كانت تنظر إلى النجوم بدهشة.. سمعت صوتا إلى جوارها يسأل:
- مين البنت دي؟
بعض الواقفين حول صاحب الصوت نظروا نحوها.. وأجابوه بسرعة:
- دي بتشتغل هنا يا باشا..
ولم يطل انبهار المنتج الكبير الملقب بالباشا.. حدثها بسرعة.. اتفق معها أن تكون إحدى نجمات الصف الأول بشرط أن تطيعه في كل نصائحه وتعليماته.. دون أن تفكر سعدية وافقت.. وجلست إلى المنتج الكبير تستمع إليه لا تصدق أن الدنيا تفتح لها ذراعيها فجأة.. نسيت موعد محمد لأول مرة.. وحينما قابلته اعتذرت وحكت له ما دار مع المنتج الكبير.. قالت له ونظراتها لا تستقر على شيء.. تسودها فرحة عارمة:
- سنتخلص من الفقر إلى الأبد..
كان محمد يكتم غيظه من كلماتها ويحبس ثورته عنها.. تضغط أسنانه بشدة على شفتيه.. سعدية نسيت أن هذه الحركة تعني أنه في قمة ثورته.. تذكرت ذلك حينما سألها فجأة والشرر يتطاير من عينيه:
- والمقابل اللي هتدفعيه إيه؟
تلجم لسان سعدية.. أكثر ما تتوقعه أن يشك محمد في أخلاقها وسلوكها.. لكنه أكد لها ما قاله وهو يسألها مستطردا:
- وهتدفعيه لمين؟ ويا ترى دفعتيه ولا لسه؟
اختلطت داخلها المشاعر.. أنها سعيدة بغيرته عليها وحبه لها ورغبته في امتلاكها وحده.. لكنها أيضا تعسة بظنونه وشكوكه في المهنة التي وصفها لها بأنها مهنة من لا مهنة له من الرجال.. ومن لا رجل لها من النساء.. حاولت أن تفهمه.. أو تقنعه.. أن تدافع عن رأيها.. لكنه كفر بكل ما قالته ودافعت عنه.. وكان أول خصام أصر عليه محمد..
المنتج الكبير اشترى لها السيارة، والفساتين، والمجوهرات.. استأجر لها شقة تشعر فيها بأدميتها.. منحها مائتي جنيه دفعة واحدة.. بعد أسبوعين منحها ثلاث مائة جنيه.. أحاطها بهالة مثيرة من الدعايات والإعلانات.. بعد أن اختار لها اسمها الفني الجديد.. ترقبها الجمهور والنقاد.. نفس هذا المنتج قدم أكثر من نجمة من قبل.. لم تفشل واحدة.. من المؤكد أن النجمة الجديدة ستسحب البساط من تحتهن جميعا.. عرفوا عن هذا المنتج أنه ينفق خمسة آلاف جنيه أو حتى عشرة آلاف على ممثل مجهول أو ممثلة مغمورة ثم يجني من وراء اكتشافه الجديد عشرات الآلاف من الجنيهات.. وكان محمد يتابع أخبار سعدية من حجرته فوق السطوح.. ومع كل خبر يؤكد لنفسه أن سعدية قد دفعت الثمن والمقابل بالفعل.. مزق صورها إلا واحدة.. وأحرق رسائلها إلا رسالة.. حتى شريط الكاسيت الذي أرسلته إليه ذات مرة بعد أن سجلت رسالة بصوتها وأهدته له في عيد ميلاده، تعمد محمد أن يبقى على الشريط، لكن أن يمسح من فوقه صوت سعدية.. قاوم محمد شوقه إليها ولهفته عليها وعواطفه نحوها..
حتى فوجئ بها يوما تزوره ليلا.. خلسة كيلا يراها أحد.. لم تسمع منه كلمة واحدة تدعوها لدخول حجرته المتواضعة.. قابلها بجفاء وفتور ولا مبالاة.. أحست النجمة الصاعدة حينئذ بالخجل يملؤها.. سألته هامسة:
-ألا تريدني أن أدخل بيتك؟
رد عليها وهو يتأملها من أعلى إلى أسفل في نظرة واحدة كادت تقتلها:
- لقد أصبحت غريبة عني.. انقطع الرباط الذي كان بيننا.. سعدية التي أحببتها ماتت عندي.. أما أنت الآن فنجمة صاعدة، يحتفظ المراهقون بصورك.. ويسيل لعاب الكبار على أدوار الإغراء التي تمثلينها.. سعدية التي أحببتها لا تفعل هذه الأشياء.
كادت النجمة الصاعدة تنفلت.. اقتحمت حجرته.. جلست إلى أقرب مقعد.. وأنفاسها تتلاحق.. صدرها يعلو وينخفض.. العصبية تبدو في نبرات صوتها.. أفهمته أنها لم تدفع أي مقابل كما يظن.. لكنه أعطاها ظهره وأخبرها في لهجة حاسمة:
- حتى لو تركت الفن الآن.. فلن استطيع أن أتزوجك.. لأني سأشعر طوال عمري وزواجي منك بأني لم أكن الرجل الأول الذي عبر بك من عالم الآنسات إلى دنيا السيدات..
تركته دون أن تودعه أو حتى تستأذنه..
وهبت كل حياتها لفنها.. كانت تقف أمام الكاميرات معظم النهار.. وعلى خشبة المسرح معظم الليل.. ثلاث ساعات فقط للنوم.. ثلاث ساعات أخرى لقراءة وحفظ السيناريوهات.. أمها لم تكن تفارقها.. أغدقت على أخوتها بالمال بعد أن أصبحت عائل الأسرة الوحيد.. كان يسعدها أنه ليس لديها وقت تفكر فيه في عواطفها.. أو الارتباط برجل ما.. لا شيء ينقصها.. المال والجمال اجتمعا معا.. نجمها يسطع في عالم الفن يوما بعد آخر.. لم تكن قد سافرت إلى أبعد من محافظة المنوفية.. الآن شاهدت أوروبا وعشقت أمريكا.. وأقرب أسفارها إلى لبنان وتركيا وباقي الدول العربية.. أما محمد فلا جديد في حياته أكثر من نجمه الذي يسطع بسرعة في موائد القمار بمقاهي شبرا الخيمة.. واحتسائه للخمر مع أصدقائه الجدد الذين يسهرون معه حتى الصباح منذ استقالته من تطوعه آخر أيام المدة القانونية الإلزامية.. كان يؤكد لنفسه كل صباح وليلة أن سعدية ماتت.. لكنها لم تدفن بعد..
النجمة الصاعدة أصبحت ألمع نجمات الشاشة.. صديقتها الوحيدة كادت تصعقها الدهشة حينما كلفتها النجمة بضرورة الذهاب إلى محمد لتعرض عليه فكرتها الجهنمية.. أصرت النجمة وألحت على صديقتها حتى كانت كلماتها توسلات ترجوها وتستعطفها.. ولانت الصديقة.. وذهبت بالعرض إلى محمد.. أخبرته أن النجمة الكبيرة ترفض كبار الشخصيات التي تقدمت لطلب يدها.. لأنها لم تحب قبله أو بعده ولن تفرط في حبها أبدا.. وقد قررت أن تتزوج من محمد ويعيشا في قصرها الجديد.. ستقيم له مشروعا ضخما وتقدمه إلى الناس على أنه رجل أعمال كبير.. ثم تتزوجه..
وتلعثمت الصديقة حينما رفض محمد..
كانت النجمة الكبيرة قد أفهمتها أن محمد لن يتردد.. لأنها تعلم أن معاشه بعد استقالته لن يكفيه خمسة أيام.. ومتأكدة من أنه مازال يحبها.. ولم يكن رفض محمد قاطعا أمام صديقة النجمة.. قال لها ساخرا:
- سأوافق إذا وافقت هي على أن تقدمني للناس على أني عسكري سابق.. وعاطل الآن.. أتعيش من "معاشي" الضئيل.. وأنها اختارتني رغم كل ذلك.. لأنها مازالت تحبني من أيام حارة ".....".
ولم تعد الصديقة إلى محمد بالرد..
النجمة الكبيرة بدأت تفكر في رأي أمها عن محمد.. حينما قالت لها مرة:
- أكيد بيحقد عليك..
كيف يريد أن يفضحها كنجمة.. ويقضي على شعبيتها ويدمر مستقبلها.. قررت أن تقطع كل اتصالاتها بمحمد.. وأن تفكر جديا في الزواج من رجل الأعمال الحقيقي الذي تقدم لها.. ولعب ثراؤه برأس أمها.. انه ملياردير عربي يعشق الزواج من الفنانات اللامعات.. إنه لا يتزوج النساء لكنه يتزوج النجومية.. لا يعشق الفن الأصيل لكنه مولع بالأسماء الكبيرة..
وتم الزواج بين النجمة والملياردير..
وتابعت الجرائد والمجلات أخبار شهر العسل وشهور الزواج الأولى.. وسفر العروسين إلى عواصم العالم واحدة بعد الأخرى.. بينما كان محمد قد وصل إلى الطريق المسدود.. لا يفيق من الخمر إلا ليعاود الشرب من جديد.. أصبح يشتري أرخص أنواع الخمر والكحوليات التي تكاد تشتعل إذا ما اقترب منها عود ثقاب..
وذات مرة نشرت الصحف مأساة شاب فقد الذاكرة..
وتعاطف الناس مع صاحب المأساة الذي لا يعرف له اسم ولا سن ولا وظيفة ولا عنوان.. فتأهب للانتحار غرقا لولا أن أنقذه بعض المارة.. لكن سرعان ما اختفت أخبار هذا الشاب فاقد الذاكرة.. ونسي الناس صورته ومأساته.. بينما النجمة الكبيرة منذ اليوم الأول لنشر الخبر والمأساة تعرفت عليه.. وأنقذته بطريقتها ودون أن تظهر على مسرح الأحداث.. استأجرت له شاليها بالمقطم باسم "محمد.." كبار أساتذة الطب يعالجونه.. تتابع أخباره معظم النهار والليل تليفونيا.. وتزوره مرة كل صباح.. ربما في الفجر.. وتنصرف قبل أن يلمحها أحد.. وتمنح الخفير "بقشيشا كبيرا" لرعاية محمد أثناء غيابها وغياب الأطباء..
وطلقت من زوجها الأول..
لم تعد قادرة على إسعاد زوجها بعد أن عاد محمد إلى حياتها..
وإن كان فاقدا لذاكرته.. إلا أنه مازال هو كل ذاكرتها ونبضها وحبها.. تنازلت لزوجها عن كل شيء.. أبرأته من كل مؤخرها ونفقتها لتحصل على حريتها التي لن تسمع فيها جملة زوجها إليها كل ليلة:
- أنا حاسس إنك مش معايا اليومين دول..
وحينما بدأ محمد يتماثل للشفاء، واستعاد ذاكرته.. كان قد أصابه فشل كلوي داهم.. في نفس اليوم الذي بدأ يدرك فيه كل ما حوله.. كان الأطباء قد قرروا ضرورة سفره للخارج لإجراء جراحة نقل كلى على الفور.. وهتفت النجمة الكبيرة:
- ولو تكلفت ذلك آلاف الدولارات.
نامت ليلتها بقصرها تبكي.. كانت تتذكر محمد منذ اليوم الأول لطفولتهما.. وحتى قبل لحظات من انصرافها من الشاليه الذي تقيم فيه.. عز عليها سرعة المفاجآت في عينيه حينما استرد ذاكرته وعلم بمرضه الخطير في لحظة واحدة.. المرض انهكه تماما.. كان يريد أن يوبخها كالعادة.. هكذأ قرأت في عينيه.. لكنه لم يكن قادرا على الحركة أو "المناهدة" في الصباح أوحت إلى صحفي تعرفه بمأساة شاب ادعت أنها لا تعرفه.. واقترحت نشر ندائه بالجريدة.. وستكون أول المتطوعين لإنقاذه..
وسارع الصحفي بنشر مأساة شاب يدعى محمد في باب "بريد القراء".. واتصلت الفنانة بصديقها الصحفي تخبره أنها قررت التبرع بكل نفقات علاج الشاب بالخارج.. وهكذا بدأت تظهر النجمة الكبيرة في زياراتها لمحمد.. واصطحابه معها في سيارتها.. والترفيه عنه بحضور بعض المشاهد أثناء تصويرها.. كانت تبدو أمام الناس في تصرفات إنسانية بالغة الرقة.. دون أن يعرف أحد حقيقة "محمد" الذي طلبت منه النجمة الكبيرة ألا يرهق نفسه في التفكير أو العتاب حتى يشفى تماما.. وقتها ستتركه يختار نوع العلاقة التي ستكون بينهما.. وتحت وطأة المرض لم يعترض محمد.. وبدأت إجراءات السفر إلى لندن لإجراء العملية الجراحية..
ونجحت العملية.. وعاد محمد إلى مصر..
لكنه قرر أن يعود إلى شبرا الخيمة بعد أن شكر النجمة الكبيرة بحرارة.. صرخت فيه أن المرحلة التالية من حياته تحتاج إلى نقاهة ورعاية فائقة.. لكن محمد أقسم لها أنه يشعر بأنه أقوى وأصح رجل في العالم.. وأن صحته "بمب البمب".. كتمت دموعها وهي تصافحه.. ألحت عليه أن يطلبها في التليفون يوما بعد يوم لتطمئن عليه.. لكن شهورا مرت دون أن تصلها مكالمة واحدة.. أرسلت إليه سائقها في شبرا الخيمة.. فكتب لها محمد رسالة حملها للسائق.. قال في بعض سطورها:
- لا يمكن أن أحبك وأنا أعرف عنك كل شيء.. وفداحة الثمن الذي دفعته لنجوميتك.. كل ما أحبه فيك الآن إني كنت أحبك.. وكل ما أحمله لك من جميل ومعروف هو أنك أنقذت حياتي من الموت دون أن أطلب ذلك منك.. ولم أكن لأطلبه أبدا.. لأن الحياة والموت عندي يستويان الآن.. بالتحديد من اللحظة التي اخترت فيها شراء الشهرة مع فقر الحب وأن تكوني نجمة لها آلاف المعجبين على أن تكوني امرأة لها حبيب واحد.. أن يسير خلفك كل الرجال.. لا أن تسيري أنت خلف رجل واحد.. هو حبيبك.. فرق كبير عند الرجل بين أن يحب آنسة يصنع هو كل ما فيها.. على أن يحب سيدة صنعها الآخرون.. إنني الآن الرجل الوحيد الذي لا يشعر برغبة فيك.. وإن كنت كلي حسرة عليك.. مازالت صورتك لم تتغير في عيني.. سعدية بنت "نعمات".. أغبى تلميذة في المدرسة.. وأفقر فتاة في الحي.. أعلى أمانيك كانت دخول محل الكوافير ولو مرة واحدة.. وأن تمتلكي حذاء خاصا بك وحدك.. وفستانا لا يشاركك فيه أحد.. وخاتم ذهب يزين أصابعك.. هل تذكرين يوم ركبت إلى جواري في التاكسي.. قلت لي ساعتها انك تشعرين بأنك "هانم" كانت هيبتها تضيع وسط زحام الأتوبيسات.. هل تذكرين حينما كانت في حقيبة يدك التي انتهى عمرها الافتراضي - خمسة جنيهات صحيحة.. فأحسست كما لو كان في الحقيبة دفتر شيكات البنك المركزي.. أشياء كثيرة مازلت أذكرها.. تضحكني وتبكيني في آن واحد.. لأني أصبحت أعيشها وحدي.. زمان كنت نجمتي المفضلة رغم فقرك وغبائك ورائحة زيت الشعر التي كنت أتضايق منها حينما تفوح من رأسك بدلا من رائحة العطور والبرفانات.. أما الآن فقد أصبحت نجمة الجميع.. وأنا لا أقبل أن أكون واحدا وسط الجميع.. الرجل يفضل دائما أن يكون هو الملك الأوحد على عرش حبيبته.
سعدية:
اندفاعك نحوي الآن ليس حبا.. لكنه عطف وشفقة على سوء حظي.. وخيبة أملي.. خجلك مني ومن حبي ومن أني لم أخطئ في حقك يوما واحدا هو الذي يوقظ ضميرك نحوي بين حين وآخر.. لكن صدقيني.. أنا لا أكرهك.. ولا أتجني عليك.. بل أحيانا أعذرك.. ذات مرة ذهبت لأشاهد أحد أفلامك خلسة.. جلست في الصف الأخير بالسينما.. نجح فيلمك هذا نجاحا باهرا.. في كل لقطات الحب بالفيلم أحسست أني المقصود بنظراتك وشرودك وكلماتك.. بل خشيت أن تشيري بيدك نحو مقعدي لتفضحي وجودي أمام كل الموجودين.. أعجبني تعلق الناس بنجوميتك في هذا الفيلم.. الذي حصلت فيه على جائزة المهرجان.. وفي رأيي أنك لا تستحقين جائزة عن هذا الدور..
لأني لم أشعر أنك ممثلة فيه ولو للحظة واحدة.. أحسست كما لو كنت تعيدين دورك في الحياة مرة أخرى، فطوال الفيلم تضحكين على البطل وتخدعينه، وحينما كان في قمة احتياجه لك هربت منه.. وكأن التمثيل والواقع لا يختلفان عندك.
سعدية:
أعظم من الحب.. الإحساس به.. والعيش على ذكراه.. وأبقى من الزواج الحرمان منه.. ومن ممارساته الروتينية.. الحب والزواج نادرا ما يجتمعان.. ويكفينا أنه كان بيننا يوما ما لحظة حب صادق.. لن تضيعها سنوات المجد والشهرة التي جعلت منك في نظري.. امرأة خاطئة، أرادت أن تكفر عن خطاياها بحب الناس لها.. وبريق النجومية حولها.. واحترام المجتمع لفنها.. وكل ذلك لا يشفع عند حبيبها.. لأني رجل عادي، طباع وتقاليد شبرا تجري في دمي.. نفس هذه الطباع والتقاليد ترفض الزواج منك.. ولو لم أحبك يوما فربما أصبحت مثل كل هؤلاء الرجال الذين يتهافتون على ارضائك.. ويحلمون بابتسامة منك..
سعدية:
- أرجو أن تتركيني هانئا في حياتي.. ولا تجعلي ناري نارين..
"محمد"
عاد السائق بعد ثماني ساعات كاملة..
عاتبت النجمة الكبيرة سائقها على تأخيره.. وعدم اتصاله بها تليفونيا بمجرد وصوله إلى المنزل الذي وصفته له كتابة على ورقة فولسكاب.. ولكن السائق كان منقبض الوجه لطول الوقت الذي عاتبته فيه النجمة المعروفة.. ثم أخبرها بأن الشاب.. كان كثير السعال.. أصفر الوجه.. ذابل الملامح.. يكتب لها رسالته وهو راقد على فراشه يتألم.. يكتب سطرا ويضع "بخاخة" هواء داخل فمه لحظة أو أكثر.. يتناول قرص دواء ثم يكتب كلمة.. يغطي جسده ببطانية بينما جسده يرتجف رغم حرارة الطقس.. ثم يقرأ ما كتبه قبل أن يمسك القلم من جديد.
هرولت النجمة إلى سيارتها.. اصطحبت معها سائقها لأول مرة رغم خصوصية المشوار.. صعدت إلى حجرة محمد خلفها السائق.. أسرعت نحو سريره لا تكاد تصدق عينيها، جسده كله يرتجف والناس تختنق من حر أغسطس.. أخذته إلى صدرها.. نظرت إلى وجهه وهي مذعورة.. جبينه مبلل بالعرق.. لمحت إلى جوار السرير "كنكة" داخلها بقايا سائل قاتم اللون.. بجوار الوسادة أيضا.. قطعة حشيش كبيرة.. طلبت من السائق أن يلقي بها من النافذة.. تظاهر السائق بإلقائها ودسها في جيب "الجاكيت"..
طلبت النجمة المعروفة من سائقها أن يحمل محمد فورا داخل بطانيته إلى سيارتها.. لم تستجب لمحاولاته في البقاء.. أخذوه في السيارة المرسيدس البيضاء.. وشقوا بها الطريق في ظلمة الليل إلى القاهرة.. وفي مدخل العاصمة استوقفت أحد أكمنة الشرطة السيارة طلب الضابط من السائق رخص السيارة.. مد السائق يده إلى الشماسة.. وأخرج رخصة السيارة من بين الأوراق.. ومد يده إلى جيب سترته لإخراج رخصةقيادته.. لكن الضابط لمح قطعة الحشيش تسقط إلى جوار قدمه.. أصر الضابط على تحرير محضر للسائق وتحريز الحشيش.. وكادت أعصاب النجمة تنفلت.. سمحوا لها بقيادة السيارة بنفسها لإنقاذ المريض الذي تصطحبه.. أخذته إلى أحد المستشفيات الخاصة.. وسهرت إلى جواره تمنحه الدواء بانتظام ودقة.. كانت تشعر أنها المرأة الوحيدة في العالم المسئولة عن محمد من كافة الزوايا..
سألتها صديقتها الوحيدة:
- وبعد أن تحسنت صحته طلب أن يعود إلى شبرا الخيمة؟
ارتعدت النجمة الكبيرة.. وانخرطت في البكاء.. ثم همست لصديقتها:
- محمد مات.. مات ورأسه بين يدي.. ليته لم ينطق بآخر كلمتين سمعتهما منه.. لقد قال لي وعيناه تتأملاني كما لو كان يراني لأول مرة:
- "بحبك يا سعدية"..
سألتها الصديقة وهي تضمها إلى صدرها:
- هل علم الطبيب بحكايتك معه؟
- أجابت النجمة الكبيرة وعيناها محمرتان:
- أخبرته أن محمد شقيقي.. بعض الصحف أيضا نشرت أن شقيقي مات.. وإحدى المجلات قالت انه ابن عمي.. وهربت من كل الصحفيين كيلا أجيب عن السؤال الذي يطاردونني به.. لماذا تعتزلين الفن؟
بذلت الصديقة جهدا خارقا لتعيد النجمة الكبيرة إلى هدوئها واتزانها.. لم تفارقها ثلاثة أيام كاملة.. وافقت على قرار الاعتزال بعد أن فشلت في إقناعها بالاستمرار في العمل.. وسوف تشغلها النجومية عن الأحياء والموتى معا.. ولكن النجمة الكبيرة أصابتها دهشة بالغة.. حينما قرأت خبرا في الصحف المصرية بعد عودتها إلى لندن بستة شهور.. الخبر يقول أن النجمة قررت العودة إلى التمثيل ووقعت على بطولة فيلمين جديدين.. أحدهما فيلم استعراضي..
ومازالت صورة محمد داخل برواز صغير من الذهب الخالص على صدر النجمة الكبيرة يتدلى من سلسلة ثمينة حول رقبتها أهداها لها زوجها الجديد الذي أصرت أن تحكي له قبل الزواج منه كل شيء عن قصتها مع محمد.. وأخفت عنه شيئا واحدا فقط.. هو أن صورة محمد مازالت ترقد إلى جوار قلبها محاطة بالذهب من كل جانب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.