محافظ الشرقية يستقبل مفتي الجمهورية بمكتبه بالديوان العام    الأحد.. مجلس الشيوخ يناقش الأثر التشريعي لقانون التأمين الصحي والضريبة على العقارات المبنية    وفد من جامعة نوتنغهام يشيد بالإمكانيات العلمية لجامعة المنصورة الجديدة    «أوقاف الدقهلية» تفتتح مسجدين وتنظم مقارئ ولقاءات دعوية للنشء    الرقابة المالية تجدد تحذيرها للمواطنين بعدم التعامل مع جهات غير مرخصة بما يعرضهم لمخاطر مالية جسيمة    الرئيس السيسي يتلقى اتصالاً هاتفيًا من رئيس الوزراء اليوناني ويؤكدان دفع العلاقات الإستراتيجية بين البلدين    فتح باب التقدم والحجز إلكترونيًا عبر منصة مصر الصناعية الرقمية خلال الفترة من 1 إلى 15 يونيو 2025    فيدان: محادثات إسطنبول أثبتت جدوى التفاوض بين روسيا وأوكرانيا    وصمة عار في جبين الحضارة.. أستاذ قانون دولي يطالب بمقاطعة شاملة لإسرائيل فورًا    فرنسا: الاعتراف بدولة فلسطينية واجب أخلاقي ومطلب سياسي    «عشان زيزو يسافر» خالد بيبو مفاجأة بشأن موعد نهائي كأس مصر.. وعبد الواحد السيد يرد    محافظة الجيزة تنهي استعداداتها لاستقبال امتحانات نهاية العام الدراسي للشهادة الإعدادية    فى ليلة ساحرة.. مروة ناجى تبدع وتستحضر روح أم كلثوم على خشبة مسرح أخر حفلاتها قبل 50 عام    المنطقة الشمالية العسكرية تستكمل تنفيذ حملة " بلدك معاك " لدعم الأسر الأولى بالرعاية    حسن حسني.. «القشاش» الذي صنع البهجة وبصم في كل الفنون    مفتى السعودية: أداء الحج دون تصريح مخالفة شرعية جسيمة    قافلة طبية مجانية بقرية البرشا بملوي تقدم خدمات لأكثر من 1147 حالة    أسامة نبيه: أثق في قدرتنا على تحقيق أداء يليق باسم مصر في كأس العالم    الرئيس السيسي يؤكد لليونان التزام مصر الكامل بالحفاظ على المكانة الدينية والفريدة لدير سانت كاترين    فيلم سينمائي يشاهده 4 أشخاص فقط في السينما الخميس    8 مصابين في تصادم سيارتين أعلى محور 26 يوليو    خطيب المسجد الحرام: الحج بلا تصريح أذية للمسلمين والعشر الأوائل خير أيام العام    مصطفى شوبير يتعاقد مع شركة تسويق إسبانية    4 وفيات و21 مصابا بحادث انقلاب أتوبيس بمركز السادات    حكم من شرب أو أكل ناسيا فى نهار عرفة؟.. دار الإفتاء تجيب    الإفتاء تحذر: الأضحية المريضة والمَعِيْبَة لا تجزئ عن المضحي    في لفتة إنسانية.. بعثة القرعة تعيد متعلقات حاجة فقدتها في الحرم    108 ساحة صلاة عيد الأضحى.. أوقاف الإسماعيلية تعلن عن الأماكن المخصصة للصلاة    ترامب يتحدّى أوامر القضاء.. وواشنطن تُخفي الأزمة الدستورية تحت عباءة القانون    بعد «come back to me» الشعبية.. يوسف جبريال يشكر تامر حسني عبر السوشيال ميديا (فيديو)    دعاء العشر الأوائل من ذي الحجة لتيسير الأمور وقضاء الحوائج.. ردده الآن    ضبط تشكيل عصابي تخصص في تزوير راغبي الحصول على مستندات رسمية بالقليوبية    تحرير 146 مخالفة للمحلات التي لم تلتزم بقرار الغلق    كأس العالم للأندية.. ريال مدريد يعلن رسميا ضم أرنولد قادما من ليفربول    الرئيس اللبنانى يزور العراق الأحد المقبل    طهران: تقرير الاستخبارات النمساوية المشكك في سلمية برنامجنا النووي كاذب    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من مسجد الشهيد بالقليوبية    وزير الزراعة يستعرض جهود قطاع تنمية الثروة الحيوانية والداجنة خلال مايو الجاري    ليلة في حب وردة وبليغ حمدي.. «الأوبرا» تحتفي بروائع زمن الفن الجميل    نائب وزير الصحة يتفقد عددا من المنشآت الصحية فى البحر الأحمر    رئيس هيئة الاعتماد والرقابة الصحية يستقبل وفد اتحاد المستشفيات العربية    مونديال الأندية وكأس العالم 2026.. ماذا قال ترامب عن "الولاية الرياضية"    سعر الخضار والفاكهة اليوم الجمعة 30 مايو 2025 فى المنوفية.. الطماطم 12جنيه    جيش الاحتلال يعلن انضمام لواء كفير إلى الفرقة 36 للقتال في خان يونس    بحضور محافظ القاهرة.. احتفالية كبرى لإحياء مسار رحلة العائلة المقدسة بكنائس زويلة الأثرية    رئيسة المجلس القومي للمرأة تلتقي الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر    ريا أبي راشد: أجريت مقابلة تلفزيونية مع مات ديمون بعد ولادة ابنتي بيومين فقط    حملة للتبرع بالدم بمديرية أمن البحر الأحمر    بنيامين نتنياهو يدخل غرفة العمليات.. ومسؤول آخر يتولى إدارة إسرائيل    وزير الإسكان: بدء إرسال رسائل نصية SMS للمتقدمين ضمن "سكن لكل المصريين 5 " بنتيجة ترتيب الأولويات    مصرع وإصابة 4 أشخاص في حادث تصادم بطريق مصر السويس الصحراوي    «عانت بشدة لمدة سنة».. سبب وفاة الفنانة سارة الغامدي    3 ساعات حذِرة .. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم : «شغلوا الكشافات»    موعد مباراة الاتحاد والقادسية في نهائي كأس خادم الحرمين والقنوات الناقلة    "فوز إنتر ميامي وتعادل الإسماعيلي".. نتائج مباريات أمس الخميس 29 مايو    «مالوش طلبات مالية».. إبراهيم عبد الجواد يكشف اقتراب الزمالك من ضم صفقة سوبر    نجاحات متعددة.. قفزات مصرية في المؤشرات العالمية للاقتصاد والتنمية    تقارير: أرسنال يقترب من تجديد عقد ساليبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نشارة الحياة
نشر في الأهرام اليومي يوم 20 - 12 - 2013

درنا حول رأس الرجاء الصالح في جنوب القارة لنصل لشمالها في ليبيا علي بعد فركة كعب من حدودنا الغربية, وذلك خلال فترة الإدانة والمقاطعة والعقاب الطويل الذي حظر استيراد كل شيء حتي لبن الأطفال, والذي فرضته عليها الولايات المتحدة
بسبب قضية لوكيربي وإدانة المتهم الليبي عبدالباسط المقرحي الذي تم سجنه سنوات وتوفي في العام الماضي بالسرطان, وكانت الضغوط الخارجية والداخلية قد دفعت بالقذافي في نهاية الأمر لقبول التسوية وتسليم المقرحي ودفع التعويضات لأهالي الضحايا! و..منذ ثلاثة أيام فقط لا غير بعدما عاش العالم زمنا طويلا ينظر إلي القذافي باعتباره متهما بالإرهاب يرسل زبانيته لتفجير ضحاياه فوق قارات الكون, نشرت جريدة الاندبندنت تحقيقا يفيد ببراءة المقرحي مدعية أن ضابط المخابرات الأمريكية الذي تولي التحقيق مارس عملية تضليل وإخفاء الأدلة, وقد جاء ذلك في صفحة كاملة لم ترفق في نهايتها بسطر اعتذار لدولة تفاقمت معاناتها بسبب التضليل زمنا معاكسا إلي حد الناتو والتدمير!!.. و..لم تزل فرنسا تتردد في إدانة تعذيب الجيش الفرنسي للجزائريين طوال132 سنة من الاحتلال, أي أن مليونا ونصف المليون قتيل لا يساوون شيئا في عرفها الأخلاقي, وتتصرف كأن هذه الحرب لم تحدث, وكل ما علي الجزائر سوي أن تطوي الصفحة وتكبر دماغها واللي فات مات واللي ييجي في الريش بقشيش, وتنظر إلي الأمام تجاه الصفقات والمعاهدات والمصالح التي تجمع ولا تفرق!!... وكانت هناك صحوة متأخرة للضمير عندما زارت رئيسة مجلس النواب الأمريكي مدينة هيروشيما للاعتذار عن مقتل140 ألف شخص بسبب القنبلة التي ألقتها عام1945 علي اليابان, واعتذار اليابانيين بدورهم للصينيين عما فعلوه بنسائهم في الحرب العالمية الثانية.. وفي العام الماضي وقف رئيس الوزراء الاسترالي وردد ثلاث مرات آسفون آسفون آسفون معتذرا للسكان الأصليين لاستراليا عن القهر وإرث الألم, كما اعتذر الكونجرس الأمريكي للهنود الحمر عن الإبادة التي تعرضوا لها علي أيدي بناة أمريكا الكاوبوي.. وفي طابور الاعتذار ذهب بيرلسكوني إلي طرابلس ليقدم اعتذاره البالغ عن الجرائم التي ارتكبتها الجيوش الإيطالية خلال احتلالها ليبيا ملتزما بتقديم تعويض للشعب الليبي عن الفترة الحالكة, وكان التعويض خمسة مليارات.. أما اليهود فقد صنعوا من واجب الاعتذار مدخلا ودستورا واستثمارا وهم يتلقون منذ أكثر من نصف قرن الاعتذارات الجماعية التي تم صرفها علي هيئة شيكات وتحويلات وأسلحة وقرارات تجلسهم فوق القانون الدولي, وتجعل من الفيتو ميدالية ذهبية يلهون بها في سلسلة مفاتيح مسيرتهم.. و..السؤال فيما إذا اعتذر الإخوان لنا.. فمن يعتذر لموتانا؟!.. من يعتذر عن سنتهم السوداء وتوابعها؟!.. من يعتذر عن تهرئة الدولة وتهميشها وتشتيتها وتقزيمها وتعتيمها وتكفيرها وترويعها وأخونتها وبطالتها وتدني أخلاقياتها وجموح حرائرها وانتهاك حرمتها وتقسيمها؟! من يعتذر عن مصرع سائق التاكسي بالمنصورة محمد جمال الدين بدير والد الطفلة منة خمسة أعوام وجمال عامان.. الشاب الملتزم الذي أدي فريضة الحج مرتين وكان في طريقه لأكل عيشه فخرجت له من بين المظاهرة الإرهابية التي تغلق الطريق إخوانية منقبة لتذبحه فوق الأسفلت بقلب بارد ويد مدنسة.. و..ما عاد السؤال من جاء بالذئب؟! بل كيف مكناه ونمكنه الآن إلي هذا الحد؟!
صحافة الفرز الأول
موسي صبري كامل شنودة سكر بسطوروس منقريوس منصور مليكة المعلم.. سابع جد اسمه المعلم من أنجب حفيدا أصبح معلم الصحافة لتغني له صباح: آه يا معلم يا معلم.. موسي صبري القبطي أبا عن جد ولكنه كاد أن يحذف كل هذا بجرة قلم ويعقد قرانه علي فتاة مسلمة أراد أن يتزوجها علي سنة الله ورسوله بعد إشهاره إسلامه, وعندها هاجت الدنيا الصغيرة في مدينة الفشن القابعة في أقصي محافظة بني سويف وهددته أمه بالقطيعة, وتدخل أبو الفتاة, وباتفاق العائلتين اقتنع موسي بعواقب شظايا فعلته فتراجع عن المشروع العاطفي.. الأم اسمها في شهادة الميلاد برنسيسة والشهرة أم برنسة, والتي رفضت أن تكون أم موسي وفضلت أن تكون أم صبري, وحمل موسي الاسمين معا لإرضاء والدته.. الثالث بين ثمانية أشقاء وشقيقات يعشق القرآن ويقول إنه استهواه ترتيل الآيات من راديو خشبي اشتراه أبوه عام1928, وكانت أمه تنهره بقولها آدي آخرة لعبك مع ولاد المسلمين... وفي رده علي ذلك اشتري مصحفا وهو لم يتجاوز العاشرة فطلبت من أبيه معاقبته ولم يستجب لها, وعندما وجدته في الرابعة عشرة يضع مصحفا تحت مخدته كعادته حتي النهاية وضعت إلي جوار المصحف إنجيلا, وقبل موسي قائلا: كله كلام ربنا.. وفي معتقل الزيتون طلب من جلال الدين الحمامصي مصحفا مفسرا واعترف: حفظت في المعتقل نصف القرآن.. كنت أقرأ الآيات البينات في فترة الصباح, وأحفظ وأجود في المساء.. وتعرف إلي الشيخ الباقوري ونقلا معا إلي سجن ماقوسة بالمنيا, وازداد تعلقه بالقرآن بعد صداقته الحميمة بالباقوري الذي جلب له العديد من المؤلفات الدينية الإسلامية وسير الصحابة وغزوات الرسول, وكان الشاهد علي عقد زواجه برفيقة عمره أنجيل في عام1958 في كنيسة مصر الجديدة, ويرجع موسي الفضل في تعمقه في فهم رسالة الإسلام لمعاشرته الباقوري وصهره الشيخ عبداللطيف دراز وكيل الأزهر السابق وأحد أبطال ثورة..1919
المعلم.. موسي صبري.. الاشتعال بدرجة دشليون فهرنهايت.. العمل18 ساعة يوميا. المسرف في غضبه والمسرف في رضاه. صاحب رحلة الحياة الصحفية الصاخبة المتوترة التي امتدت إلي أكثر من نصف قرن. النموذج لحالة الاستنفار الدائم إذا تحدث أو كتب أو همس.. من عرف عنه أنه في حوار واحد امتد لساعة تناول فيها خمسة فناجين قهوة وأشعل12 سيجارة, وعقب نهاية الحوار قال لمحاوره: أظن أنني كنت بعيدا عن الانفعال!! إذا ما اقتنع بقضية دافع عنها أكثر من أصحابها.. المختلف الذي لا يختلف اثنان إلا وكان موسي ثالثهما. من كان في صداقته عنيفا وفي عداوته مستبدا, وفي الاثنين كثير النسيان, وكم انتقل من عداوة إلي صداقة حميمة والعكس كان أيضا صحيحا.. أمواجه جامحة تطل هادرة تصفع الشاطئ بزبد الغضب, فإذا ما نالت من خصمها انحنت حنونا تلثم أقدامه تغسلها بدموعها وتعود خجلي تجاه الأغوار البعيدة, ولا يبقي من المعركة الصاخبة سوي الشاطئ المهجور.. ورغم الدموع لم يكن سهلا أن يكسب منه أحد معركة, فقد كان صاحب قلم بتار كالسيف, وصاحب حجة يصعب علي الكثيرين دحضها, وصاحب قدرة خاصة علي قول كل ما يريد قوله, وفي خصومته لم يكن يعبأ كثيرا بالجراح.. المهم أن يكسب معركته تحت وهج الشمس وفي ضوء النهار وتحت مجهر الأنظار.. وبعدها مرحبا بالندم أو الاعتذار أو الانسحاب.
موسي.. أستاذ الصحافة من كان يحترم الموهبة ولا يغار منها بل يسعي إلي إبرازها, ويقدر من يخالفه الرأي, وأبدا لم يلحق أذي بمن يخالفه أو يضغط عليه أو يستقطبه أو يمالئه أو يرشيه ليحيد عن رأيه, وعقيدتي أنه كان يكن احتراما وإعجابا عميقا خفيا لمخالفيه في الرأي الذين يثبتون علي وجهة نظرهم, بل تلمح في لهجة حديثه إعجابا بالبعض من ذوي الصلابة وكأنه كان يتمني أن يكون موضعهم للتمتع بالموقف الشامخ الرافض.. المعلم أيام كان في الصحافة معلمين, ومن بعدهم أصبحت هناك أزمة في المرجعية والمعلمين, فمن يريد أن يتعلم صحافة الآن قولولي يتعلم علي إيد مين؟!.. الفرز الأول راح والثاني في حجرة الإنعاش ولم يعد موجودا إلا الفرز الثالث والرابع يا مولاي.. وإذا ما كانت صحافتنا لم تزل محتفظة بنكهة من طعمها الخاص, ومن مذاقها الخاص فإنما يرجع الفضل في ذلك لقلة باقية لم تزل تتشبث بالقلم من حقبة المعلمين الذين كان موسي واحدا من ألمع نجومها ممن أعطوا المهنة ولاءهم كله, وعرقهم كله ووقتهم كله, بل أعمارهم كلها, فلم تتوزع قلوبهم هنا وهناك, ولم تتبدد جهودهم بين القنوات والمحطات والسفريات المغرضات والمعطيات الخليجيات, وإنما كان كل الجهد, وكل الولاء والانتماء للبيت الكبير الذي نشأوا فيه صغارا ثم انطلقوا يكبرون, ويترعرعون, ويصعدون السلم الصعب درجة درجة حتي جاء اليوم الذي جلسوا فيه بجدارة فوق القمة!!.. فمسيرتهم نحوها كانت واضحة, وخطاهم إليها كانت أشد وضوحا فبيوتهم لم تكن من زجاج ولا ألقي أحد عليها بالطوب.. وكنت أظن, وخدعني ظني بالأقوال المأثورة من أن فرسان الكلمة قال إيه لا يموتون وإنما فقط يغيبون بينما كلماتهم تبقي حية تنبض.. حقا خدعوني بقولهم هذا, فعندما بحثت في جميع المكتبات علي مؤلفات موسي صبري التي بلغت الثلاثين لأتزود بنبضها بينما أتذكر تاريخه لم أجد والله كتابا واحدا منها للأسف في جميع المكتبات, حتي مكتبة أخبار اليوم ذاتها, وبعد تنقيب متفان عثرت علي نسخة يتيمة علي سور مكتبة الأزبكية المرتحلة في كل مكان من مذكراته التي أفني حياته يصنع أحداثها علي صفحات أيامه, وأمضي أعوامه الأربعة الأخيرة قبل رحيله يتذكرها لتخرج بعنوان50 عاما في قطار الصحافة.. الكتاب الذي أمسكه قبل رحيله ووضعه جانبا بابتسامة باهتة كتوهج المصباح قبل خموده.. لقد كان صحفيا حتي في موته, فبعد أن اطمأن علي أن كلامه قد خرج من المطبعة, وأنه كتب ما يريد ذهب ليستريح.
موسي أصغر خريج في كلية الحقوق الذي اضطر للانتظار عامين كاملين حتي يقيد اسمه في جدول المحامين, وكان أصغر رئيس تحرير في الصحافة المصرية عندما تولي رئاسة تحرير مجلة الجيل, وعندما تولي رئاسة تحرير الأخبار لم يكن قد أتم الثلاثين ليغدو أصغر من تولي المنصب بين عتاولة الصحافة وشيوخها, وكان أول رئيس تحرير وأول رئيس مجلس إدارة لم يعترض علي إعارة الصحف الحزبية المعارضة رؤساء تحريرها من بين تلامذته في أخبار اليوم, وكانت جميع صحف المعارضة تلك تطبع في مطابع الدار التي تحتفظ بسرية كل كلمة يقومون بكتابتها: كانت الحجرة التي تجمع فيها جريدة( الأهالي) بجواري مباشرة, وفي نفس العدد تكون الشتائم قد وجهت لي ولا أسمح لنفسي بطلب بروفة للاطلاع عليها, وفي إحدي المرات تأخر صدور الأهالي, وعلمت أن بعض العمال كانوا يريدون تأخيرها وتسببوا في ذلك بدافع نفسي, فذهبت للمطبعة وسببت لهم أزمة هناك, وقمت بتأخير طبع الأخبار لتطبع الأهالي قبلها..... وتكتب الأهالي عند وفاة موسي صبري أنه كان خصما عنيدا شريفا يكتب ما يؤمن به ويدافع عنه إلي النهاية دون وجل, ورغم وزنه الصحفي والأدبي لم يرتزق ولم يتربح وظل كاتبا وصحفيا نزيها ومعلما لأجيال من الصحفيين.. موسي الكاتب السياسي القدير الذي سطر أهم خطاب ينبض بكرامة الوطن, ليلقيه الرئيس السادات في قلب الكنيست الإسرائيلي داعيا للسلام ومطالبا بالحقوق المشروعة للفلسطينيين..
موسي الفنان بدرجة صحفي, من اخترع شخصية الصحفي محفوظ عجب, وقدم للسينما والتليفزيون العديد من الأعمال ومنها مسلسل دموع صاحبة الجلالة, وفي بداياته قام بالتمثيل مع عبدالرحمن الشرقاوي في رواية الريحاني كشكش بيه علي مسرح الأزبكية, وحصل علي الجائزة الأولي في الرسم في الثانوية وكانت لوحته علي باشا الكبير.. كان عندما يتأمل يردد شعر صلاح عبدالصبور, وعندما يفرح يبكي, وعندما يعشق يعيش عصر روميو وجولييت, وعندما يسمع فلعبدالوهاب وأم كلثوم, وعندما يموت تمني أن يموت نائما وأن يكتب علي قبره ولد صحفيا ومات إنسانا.. في طفولته عاني من الفقر حتي اكتشف أن والده يرتدي نفس البدلة أربع سنوات, وعندما يشتري للابن بدلة جديدة فإن مصيرها أن تقلب ويعاد تفصيلها, ولقد قلبت له أكثر من بدلة مرات, وفي الليسانس كان حذاؤه قد تآكل فلم يكن من البد أن يرتدي حذاء خاله المتوفي, وعندما اشتكي ضيقه أسكنت الوالدة روعه بأن الجلد سيرتخي مع الاستعمال, لكنه لم يرتخ وظل يمشي به سنين فوق الشوك بالأورام والآلام من شقتهم في حارة اليدين بالجيزة, ثم شارع المدارس حتي الجامعة.. و..يكبر موسي.. ويعمل موسي ويشتهر موسي.. ويتزوج موسي ويظل حتي رحيله يسكن شقته الصغيرة بالزمالك المكونة من ثلاث حجرات ضيقة ليس بها مكتب فاستعان بصديقه المهندس الدكتور ميلاد حنا ليقفل له الشرفة لتغدو حجرة صغيرة للأولاد, ولو شاء موسي, ولو فتح الشباك من خلال موقعه لكانت له إحدي شقق الحراسة والكياسة والنخاسة.. كما رأينا غيره وأقل منه في المراتع والقصور..
و..مضي طويل النفس في الصحافة قصير النفس في الحياة, فقد كان أكثر المدخنين في الوسط الصحفي.. مضي ليتمني الخصوم من بعده خصومة وخصما واعيا ذكيا مثله. مضي من التقي بالنقيضين.. المتطرفين في كراهيته, والمتطرفين في حبه.. قال له الطبيب الأمريكي إن أمامه ستة أشهر فقط فطلب من ابنه إشعال سيجارته, فانبري الطبيب ينصحه بالامتناع لأن التدخين يؤثر علي الرئتين بصورة تؤدي إلي التعجيل بالوفاة, فيرد موسي من بين نفثات الدخان المحبوس: وما الفارق بين ستة أشهر أو خمسة!!.. وعادوا بموسي إلي مصر أبلغ ألما وأكثر تعاطيا للمسكنات, ويسألونه العودة للكتابة كنوع من قتل الوقت المقتول فيأتي رده: لو استطعت الكتابة الآن لكتبت تجربتي مع المورفين, فقد عرفت رغما عني معني الإدمان, وأوجاع المدمنين وأحسست بآلامهم لو تأخرت عنهم الحقنة الجهنمية.. لابد من حملة قومية لإنقاذ آلاف الضحايا, والمسألة أبدا ليست سهلة أن تقول للمدمن: امتنع عن المخدر.. إحساس بشع أن تصبح عبدا مسلوب الإرادة بلا حول ولا قوة..
يخرج موسي من تجربة صحافة الخمسين عاما بأننا في مواقع مسئوليتنا عابرون لا مخلدين, زائرون لا وارثين, محكمون لا حاكمين, نرعي الأمانة لنسلمها لا لنستأثر بها, فالعمل الصحفي وظيفة اجتماعية للتأثير والتطوير والإشعاع, لا إقطاع فردي للاستغلال والمتاجرة والميراث..
يؤكد المعلم أن الكلمة سلاح قد يكون مبضع جراح يشفي الألم, وقد يكون نصلا مسموما يبتر ويمزق ويقوض, واليد التي تمسك هذا السلاح مفسدة إذا لم تكن رشيدة طاهرة واعية..
يستقطر موسي وعيه بأنه: إذا ما كان جيلنا قد ضل السبيل, فالأمل ألا يحذو جيل جديد حذونا فليأت ليطهر آثامنا ويمحو ظلنا ويزيل آثارنا ويصحح أخطاءنا.. ولنا وله الله..
في أيامه الأخيرة وبين نوبات الألم يهمس موسي لصديقه أحمد عباس صالح: ألم تر أن جيلنا يرحل سريعا.. الآن يا صديقي أفكر في أننا خدعنا جميعا خدعة كبيرة, وأن المتصارعين من أجل السلطة قد استخدمونا لمصالحهم أسوأ استخدام!!
نشارة الحياة
نشارة الحياة.. عبارة صاغها نجيب محفوظ عندما ذهبت أشكو إليه ضغط العمل الصحفي وابتلاعه الوقت والعمر الذي ضاع بين أربعة جدران منكفئة علي مكتبي بشارع الصحافة تتعاقب فصول السنة من خلف النافذة لسماء صافية, وشمس حارقة, وسحب تجرجر سحبا, وعواصف تلطم الزجاج, وعصفورة تلحق بموكب العصافير المغادر, ودخان مظاهرة, ونهار وليل, وآلاف غروب وألعاب نارية ورذاذ مطر.. و..ينصحني محفوظ المبتسم دوما بعدم الاستسلام لظروف الحياة مهما تكن صعبة, وضمت نصيحته قوله العبقري: اسمعي أنا صنعت نفسي وأدبي كله من نشارة الحياة.. وكان ما يعنيه أنني أستطيع تحقيق أحلامي من البقية في الحياة.. من المتبقي في حوزتي.. من قصاقيص الزمن.. من فتات خبز الوقت.. من هامش الساعات.. فمن المستحيل في ظل المجتمع الذي نعيشه تفرغ الكاتب للعمل الأدبي والإبداع وحده.. وإذا ما كان العمل الصحفي قد ابتلع ما يقرب من نصف قرن فقد أهدي لي محفوظ الحرص علي استغلال كل دقيقة في حياتي بعيدا عنه.. علمتني نشارة الحياة كيف أحيا فوق الممر الضيق بالطول والعرض والعمق.. والأدب!
أم كلثوم والشيوخ!
قصيرة كالشهاب حياة الشيخ مصطفي عبدالرازق(1885 1947) شيخ الأزهر في1945 الحاصل علي الدكتوراه من السوربون عام1909 حول الإمام الشافعي باعتباره من أكبر مشرعي الإسلام, وعلي البكاوية1937, وعين أستاذا للفلسفة في1935, ثم وزيرا للأوقاف1938, وعضوا بالمجمع اللغوي1940, وفي عام1941 ينال الباشوية وبعدها مسيرته الأزهرية.. قام مع طه حسين بترجمة كتاب الواجب عن الفرنسية لجيل سيمون بهدف إزالة ما علق بأوهام المسلمين من سوء الظن بالفلسفة, واشترك مع الفيلسوف الفرنسي لويس ماسينيوس في تأليف كتاب التصوف الإسلامي, وكان يري أن الأدب العربي لم ينتج سوي المتنبي فيلسوفا, ويقدم الشيخ البراهين والأدلة التي تؤكد أن الاجتهاد بالرأي هو بداية التفكير الفلسفي عند المسلمين, فقد سن الرسول صلي الله عليه وسلم لولاته أن يجتهدوا برأيهم حين لا يجدون نصا, وفي القرآن والسنة جاء الشيخ بأحكام كلف بها المسلمون علي أن يكون سبيلهم في طاعته الاسترشاد بالعقل.. وقد روي عن معاذ أن الرسول صلي الله عليه وسلم لما بعثه إلي اليمن قال: كيف تصنع إن عرض عليك قضاء؟ قال أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسوله.. قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي. قال: فضرب بيده في صدري قائلا: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله..
ويكتب الشاعر المتذوق مصطفي عبدالرازق وصفا لأم كلثوم في عام1925 عندما كانت تغني بالعقال: وإني كلما ذكرت الشيوخ ذكرت أم كلثوم أميرة الغناء في وادي النيل, فإن لها هي أيضا شيوخا يحفون بها في عمائمهم المرفوعة وأكمامهم المهفهفة وقفاطينهم الحريرية الزاهية اللامعة وجببهم الطويلة الواسعة. عن اليمين شيخان وعن اليسار شيخان حول فتاة معتدلة القوام لا يشتكي منها قصر ولا طول, ولا يشتكي غلظ فيها ولا نحول, وتنظر بعينين فيهما شباب وذكاء, وفيهما نزوة الدعابة ودلال الحسناء في وجه ليست تفاصيله كلها جميلة ولكن لجملته روعة الجمال, تحت ذلك العقال البدوي مكفكفا علي جبينها بطراز مذهب ومرخي وراء ظهرها منه هداب الدمقس المفتل, في ثياب حشمة تميل إلي السواد وفي مظهر بساطة, كان علي سجيته يوم أن كانت الفتاة القروية حديثة عهد بسذاجة الريف, ثم أصبح تأنقا حضريا مقدرا تقديرا.. تظهر أم كلثوم بادئ الأمر رزينة ساكنة تشدو بصوتها الحلو شدوا لينا, من غير أن يتحرك طرف من أطرافها إلا هزة لطيفة تنبض بها رجلها اليسري أحيانا, ثم ينبعث الطرب في هيكلها كله فتنهض قائمة وترسل النغمات متعالية تذهب في الآفاق هتافا مرددا, أو تترجع رويدا حتي تتلاشي حنينا خافتا وتهزها أريحية الشباب والطرب فتساير النغمات في حركاتها, مندفعة بوثبات الشعور وراء مذاهب الفن, وتتلوي عن يمينها وشمالها أعناق الشيوخ.. وياليت شعري ما لأم كلثوم والشيوخ؟.. أم كلثوم نعمة من نعم الدنيا.. فما بالها تأبي إلا أن تتجلي علي الناس في ظهر الآخرة؟!..
مدنية
وما بين إشكالية الدولة وحكمها المدني ومدنية حكومتها ونية حكومتها ودولة مدنيتها ومدنية مدنيتها ودولية حكومتها وحكم حكمتها.. و.. و..التي يقع حكم النطق بإحداها ما بين التصرف المقصود أو زلة اللسان, وما بين اقتراح فضيلة المفتي لحل الإشكالية وقبول ممثلي الكنيسة للصيغة المنتقاة, فالرأي عندي كما قاله نجيب محفوظ بعدما كرر مشاكل العالم في خطابه إلي لجنة نوبل عند فوزه بالجائزة في ختام كلمته: ومع ذلك أنا ملتزم بالتفاؤل..
آمين
و..إلي أولادي الطلبة المتظاهرين المخربين المغيبين المدفوع بهم المدفوع لهم: ادعي عليكم وأكره اللي يقول آمين!!
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.