فبراير أتي بالذكري الأولي لعيد الفراغ والملل ( المعاش) أول تعبير لبق يسمعه رجل يستعد للسفر الطويل . ابنته قالت إنه قد آن له أن يستريح ! .. من قال إن العمل شقاء ؟ ، علي ماكينته صانعة الضوضاء ووسط أصدقاء العمر كان ينسي كل ذكري تكدر صفو حياته .. رحيل الزوجة الطيبة . سنوات الجوع والصبا . جحود الولد ووقاحة امرأته . سماجة صاحب البيت .. والمقهي لا يتسع لأحزان رجل جاوز الستين من عمره .. والفراغ قاتل بلا شك ، ولا أحد يفهم أوجاع العجوز إلا عجوز مثله .. جابر .. صديق منذ عام إلا قليلاً ، مهمل مثله علي مقعد خشبي في المقهي الصغير .. يوم تعارفا أيقن أن محادثة الغرباء خير للمرء من التحدث مع نفسه علي كل حال ، واليوم جاءه ككل يوم مسرعا ، باسما ، ويقول قبل أن يصل إلي المقهي بعدة خطوات: الشطرنج يا واد يا حوده . يجلس بجواره وقبل أن يبدأه بالسلام يجد منه توعدا بهزيمة لن ينساها أبدا .. فيعلن ناصر لصاحبه أن ذلك أبعد من خياله وهو يبتسم في سعادة ظاهرة .. ويأتي النادل بالشطرنج فيضعه علي الطاولة أمامهما ، ثم يضع النرجيلة أمام جابر ويضبط الفحم علي حجر المعسل بماشته النحاسية .. ويضع جابر الجيش الأسود أمامه ، فيبدأ اللعب بتحرك أول عسكري كاشفا صدر الملك لخصمه .. فيداري ناصر ابتسامة هازئة حتي لا يكتشف غريمه خطأه فيتدارك الموقف .. ويموت الملك الأسود بعد عدة حركات من الجانبين .. كش ملك . يتقدم الوزير الأسود ليؤمن موقف أحد الحصانين ، فيثور ناصر : جرالك إيه يا عم .. خلاص الملك مات . وماله ، كمل بس . وينظر بتركيز في رقعة الشطرنج فيضحك ويسأله مداعبا : هي الولية عملتها معاك تاني امبارح ولا أيه ؟ .. فوق ، كش ملك ، يعني خلاص الدور خلص . فيقول جابر بثقة وتصميم : لا مخلصش .. أنا بلعب بخطة نابليون ، يعني الدور ميخلصش إلا لما الوزير يموت . يكتشف أن صاحبه لا يمزح ، يحاول أن ينبهه إلي أن ما يقوله لا يمت لخطة نابليون بصلة .. فيزداد عندا وإصرارا علي أن يكمل حتي يموت الوزير .. لم يكن بالمقهي غيرهما سوي رجل معمم يجلس علي الطاولة المقابلة لهما ، والمَعلم صاحب السمع الثقيل يجلس خلف البنك ، والنادل الشاب يشاهد التلفاز .. ولما دار بعينيه بينهم عرف أنه لا أمل في المنتميين إلي المقهي ، واستبشر خيرا في الزائر الجديد ، فقال مستغيثا : ما تحضرنا يا خال والنبي، في حاجة ف الدنيا بتقول إن الوزير يكمل اللعبة بعد ما الملك يموت؟ خليني ف حالي يا أبو عمو الله لا يسيئك .. وزفر غضبه في وجه صاحبه الذي يتأمل الرقعة بهدوء وتركيز كأن الدور مازال مستمرا .. فاضطر يائسا لأن يستشهد بالشاب : ولا يا حوده .. بذمتك في حاجة اسمها شطرنج من غير ملك ؟ يا عم ماشي .. ماهي كلها بتاكل عيش . كاد يجن .. ليس له معين ، حتي انه سأل المَعلم عدة مرات دون أن يلقي منه ردا ، وفي كل مره يرفع صوته أعلي ليلفت انتباهه ، وف النهاية تلقي منه ابتسامة بلهاء لا تجدي .. وبعد كل محاولاته نظر له صاحبه وقال ببساطة : دورك . حاول أن يقنعه بشتي الطرق لكنه مصر علي أن يكمل الدور .. أخبره أن نابليون لو كان سمع بهذا مؤكد كان سيقتل القائل ويقتل نفسه ! .. وكثر كلامه دون فائدة ، فاضطر لأن يجاريه علي مضض .. خرج الملك من اللعبة ليسكن العلبة الكرتونية مع من سبقوه من الجيشين .. وبعد الحركة الأولي أيقن ناصر أن الأمر يزداد صعوبة إذ إن كل ضوابط اللعبة قد اختلت بعد خروج أحد الملكين ، وارتعشت يده ، واضطرب عقله .. يدافع عن مليكه والوزير معا ليضمن بقاءه في اللعبة أطول وقت ممكن .. ولكن سرعان ما سقط حصانه الأول ، فأخذ يضرب بمكر وشراسة حتي أتي علي جنود خصمه فلم يبق فيهم أحدا إلا وقد صرعه .. ولكن الوزير مازال يحيا بين طابيتين وحصان وفيل ، وصنع جابر فخا بسيطا سرعان ما أوقع فيه صاحبه فمات الحصان الثاني .. وأخذ الجيش الأبيض يرتب أوضاعه ، ورغم أن الوزير الأسود يتحرك بسرعة وعلي كل الخطوط تقريبا إلا أن الجيش الأبيض تأقلم علي الوضع الجديد واستطاع أن يضيق الخناق علي خصمه .. كش وزير . من ثغرة ضيقة استطاعت إحدي الطابيتين أن تعبر إلي الفيل الذي كان يحاصر وزيرها لتقضي عليه ، وزاد حماس الخصمين .. فأخذ جابر يجول بعينيه في المكان باحثا عن شيء ما ، ثم لوي شفتيه متبرما ، وأخرج من سترته مصحفا صغيرا ، قطع منه عدة وريقات ، ثم كورها ووضعها في صف واحد لتحل محل عساكره الضائعة .. حدق به ناصر مندهشا وقد عقدت المفاجأة لسانه .. قال بصوت واهن غير مبال بقوانين اللعبة : هتلعب بكلام ربنا ؟ مالكش دعوة.. أنت عايزني أخسر ؟! قالها باسما ، ثم نظر إلي الرقعة التي بينهما وحث صاحبه علي اللعب .. كاد يحتج معللا ذلك بأن اللعبة لم يعد ثمة قانون يحكمها ، لكنه تذكر أنه أخطأ حين وافق علي إكمال الدور بعد موت الملك .. بسقوط القانون الأول للعبة صار ضربا من ضروب العبث أن يحتج علي سقوط أي قانون آخر .. كرر سؤاله بلهجة أشد حدة : هتلعب بكلام ربنا ؟ خاف أن يجد منه الرد ذاته ، لكن صاحبه حرك رأسه لا مباليا ، ورسم علي شفتيه ابتسامة صفراء ، وقال وهو ينظر له من فوق نظارته المستديرة : شكلك خايف تخسر . يتحداه ! .. اشتعل حماسه من جديد ، شق الصفوف الحجرية والقرآنية بوزيره الأبيض حتي قتل ثاني الفيلين فزاد عجز الجيش الأسود .. وحرك إحدي الآيات خطوة للأمام فأزاحها الآخر من أمامه بسهولة .. كانت لعبة خائبة مرتعشة من جابر .. الدور خرج عن وضعه المألوف .. وإصرار الخصمين يتزايد كأن باللعبة مصيرهما ومنتهاهما ! .. وهنا يتصاعد خليط الصخب حول ناصر .. يأتي من التلفاز صوت معلق رياضي متحمس بشكل مبالغ فيه ، ليمتزج مع صوت المهرجان الصادر من التوك توك الواقف بجوار المقهي ، وتتخللهما كركرة شيشة غريمه .. يحثه سالف الذكر علي اللعب .. يحرك إحدي القطع حركة عشوائية .. يزيحها الوزير الأسود من طريقه ويعلن بكبرياء : كده كش .. ينظر له مستفهما ، فيجده يصيح فرحا : وله يا حوده .. نزل 2 سحلب هنا علي حساب عمك ناصر .