الكتاب:»مائة خطوة من الثورة« المؤلف:أحمد زغلول الشيطى الناشر:ميريت انفجرت المطابع في وجوهنا لتخرج منها عشرات الكتب عن الثورة. قليل منها تلمس فيه صدق الرؤيا والاندماج في الحلم. الكتابة عن الثورة تشبه حالها الآن. مائة خطوة تفصل شقة الكاتب الروائي أحمد زغلول الشيطي عن ميدان التحرير عنون بها ليومياته عن أيام الثورة المصرية، بما أتاح له رصد أمور كثيرة يصح بها اعتباره "شاهد عيان" علي الثورة وأحداث أيام غيرت وجه الوطن؛ هذا الرصد الذي جعله يهتم بالهتافات الأولي، الحقيقية، التي نقلها المصريون عن إخوانهم التونسيين "الشعب يريد إسقاط النظام" بعيدا عن الخطأ الشائع "عيش حرية كرامة إنسانية". وليس الأمر مجرد خلاف في الشعار. إنه خلاف في التوجه بين التغيير في الشعار الأول، والإصلاح في الثاني. لقد كانت "الثورة" غضب لا يبغي أن يصلح بل أن يستأصل كما يقول سجين "مأساة الحلاج ". هذا القرب من الأحداث جعل معايشته لأحداث يومي 26،27 يناير مختلفا عن غيره ممن توقفوا أمام يومي 25، 28يناير فقط دون أن يلتفتوا إلي ما حدث خلال 26،27 من الكر والفر الدائر، حتي ليعتبرهما من أيام الثورة. تهزك شجاعة الرجل وموضوعيته؛ فلا يدعي بطولة، ويلح علي أنه حديث عهد بالمظاهرات، يقيم في الميدان ساعات قليلة. والكتاب يبدو نموذجا لفكرة اليوميات التي تتقيد باعتبارات الشكل؛ لتحديد الزمان والمكان، وأحيانا ساعة الرصد حتي للأحداث التي غاب عنها جسدا، ولكن اندماج روحه فيها وانبهاره بها لم يمنعه من التوقف ناقدا لبعضها. يبدو الكتاب ثمرة سريعة للثورة، والحق أنه مكتوب بالقوة قبل الفعل؛ ذلك أنه كالثورة نتاج حلم طال انتظاره. فيبدو الحلم القديم فرصة لاستدعاء أحداث سابقة علي يوميات الثورة، بوصفها مهادا لها؛ فالنص يبدأ بأحداث سابقة علي 25 يناير، والاعتراض علي أحداث كنيسة القديسين بالوقفة الصامتة. إنه يريد الإشارة إلي تراتبية الأحداث وصولا لانفجارها علي يد هؤلاء الشباب الذين- بتعبير الشيطي-"تدور أعمارهم حول العشرين، شعاراتهم بسيطة وجذرية وبلا حسابات، تحذف الترهل والرطرطة أمامها..."في مقابل الرطانة الرسمية، والعمل المؤسسي الذي- في رأيه- يقصف الروح ويدجنها علي نحو عبثي. الكتابة عن الثورة المصرية لا يُفترض فيها الوصف لأحداث رآها الناس مراراً وعلي الهواء مباشرة أحيانا، بما يبدو معه استرجاعات النص والربط بين الحالي والقديم أبرز ما في الكتاب. وهناك محور أساسي لأحداث يستدعيها متصلة بقسم الشرطة المجاور لبيتهم القديم في دمياط ومشاهد التعذيب والقهر. وتتناثر الاسترجاعات والتداعيات، ولا تأتي دفعة واحدة، ربما لأن الموقف- وليس السرد-هو الذي يبرزها ويبررها في الوقت ذاته، بما يجعلها تطفو علي سطح النص؛ إذ سرعان ما يعود للحظة الحالية التي تطغي علي كل ذكري. وربما ساعده كون السرد أكثر أنماط التعبير الملائمة من جهة قدرته علي الإقناع، واعتباره "خطوة برهانية". إن السرد- كما يري البعض- معرفة، بما يجعله داخلا في متن كل فروع المعرفة؛ فهي معرفة سردية. والرصد جزء من مفهوم السرد ذاته، ولعل الحماسة للثورة كحدث غير مسبوق كان دافعا أساسيا لديه لكتابة يوميات لم يتعود عليها، وليست جزءا من حياته الشخصية أو الإبداعية. إنه يكتب في فورة التشكل كرة اللهب، وعن حدث عايشه حقيقة لأيام وحلما لفترات طويلة. حلم يستمر سنوات ويتحقق في أيام. يرصد حتي الأحداث التي لم تتكرر، مثل "سقطة" استخدام الطائراتf16، ويندر أن تجد بصر الكتاب يخرج عن إطار الميدان، ولكنه امتد حتميا في مواقف ذات بصيرة منه؛ فيتوقف قليلا- أمام خطب مبارك، وبخاصة الخطاب الثاني بما يعلمه من تأثير اللغة علي الناس. إنها "شرك" قد يزين الباطل ويبطل الحق، فضلا عما هو معهود من عاطفية المصريين وانفعالية ردود أفعالهم وتسامحهم الناجم عن ذاكرتهم الضعيفة وقد حشد الخطاب الثاني تزييفا بلاغيا، يراهن علي نكوص الناس عن الثورة ومساندة الثوار، أو زرع الفرقة بينهم وبين الجيش في الخطاب الثالث. لقد كانت حروب البلاغة تتوازي مع حروب السياسة. وكان التنافر بين اللغة الرسمية واللغة الثورية الشعبية كبيرا، وكان انحياز المبدعين إلي اللغة القريبة من الثورة، البعيدة عن المواضعات القديمة متوازيا مع نفوره الداخلي من الطبقة الوسطي وتآكلها. يتحدث بإجلال عن دور الفيس بوك. أسطورة القرن الحادي والعشرين، تلك التي جمعت الأشتات ووحدت الغايات، ولا يفتتن بدوره الكبير، فيراه بحجمه الحقيقي دون مبالغة عول الكثيرون عليها، فيبدو عنده الملمح الإنساني أكثر حضورا، ويتحدث عن العمال الذين لو انضموا للمظاهرات يوم 25 "ستكون المظاهرة مقنعة"، وسايس الجراج الذي اعتبر تواجده بمثابة اعتراف بدولة التحرير الجديدة. أنواع كثيرة من السرود زين بها الشيطي نصه- في أحيان قليلة- كالأغاني التي كانت وقود الثورة. وأحيانا يلجأ لنوع من السخرية تتوازي مع سخرية الثورة الحادة، حتي سماها الكثيرون الثورة الباسمة، وهو ملمح ذاتي للشخصية المصرية من جهة وسلاح هجومي يسلب الطرف الآخر أسلحته؛ فتراه يستخدم السخرية في التعامل مع سخافات الإعلام، فيقول- مثلا :"...وكلام حول الوجوه غير المصرية، كأن يقابلني صديق ويقول" أنا شاكك فيك أنت ملامحك إيرانية أو أفغانية". ويأسي لانطلاء الحيل علي بعض من يظنهم ذوي وعي؛ ويلوم المذيعة التي بكت علي الهواء وانطلي عليها خطابه العاطفي الثاني، ذلك الذي قابله الثوار بحدة بلاغية فظهرت لافتات، مثل "شعب يصنع نصف ثورة يحفر قبره بيده"، "أنصاف الثورات أكفان الشعوب". وعي الثوار يهزم وهم النخبة مرات عديدة. يحاول اتخاذ مسافة مناسبة بين أحداث الميدان وأطرافه الثوريين المشاركين، ولا يخفي توجسه والناس من قبول الإخوان للتفاوض وتعريض الميدان للتعقيد. ويبدو منحازا للوعي الشعبي الذي لم يكن أغلبية صامتة، أو تابعا للنخبة، وإنما هي احتياطي استراتيجي للثورة والثوار؛ حيث" كانت تنتظر بدورها النزول إلي الميدان إذا ما تعب أو اعتقل أو استشهد من نزلوا". إنهم مستعدون لدعم الثورة التي أحرقت جميع مراكبها خلفها؛ إما أن يرحل الجميع أو يرحل مبارك. ولكن يبدو موقفه من الجيش مرتبكا للغاية وأحيانا يستخدم شخصا ليمرر من خلاله رأيا معينا؛ فتراه يشير إلي شخص مجهول في الميدان يعترض علي أن " الجيش والشعب إيد واحدة" ويخطب في الناس بأن نزول الجيش أساسا كان بأمر من مبارك ذاته؛ القائد الأعلي للقوات المسلحة رغبة منه في حفظ النظام، ويحدس بانفتاح الأمر علي كافة الاحتمالات. وحيلة التمرير تلك كثيرة عنده، وإن أمَّن علي بعضها من مثل اختلاف الجيل الحالي عن جيلهم لأسباب كثيرة منه كونه قد حل مشكلته مع الجنس فتفرغ للحياة الحقيقية بخلاف أجيال أخري كان الخيال أساسا للاندماج في الوهم. كان طبيعيا أن يتداخل الخاص والعام؛ فيلوم نفسه التي أصابها الاكتئاب والسكون، وظلت تكتب نصوصا لا تبرح دائرة الأصدقاء، تاركا البلاد للتحالف الفج بين رأس المال والسلطة، لكنه سرعان ما يعود لفهم ما يحدث علي خلفية أدبية؛ فيقارن سرد الثورة بكتابات عن الديكتاتور من مثل "خريف البطريرك" لماركيز، أو"السيد الرئيس" رائعة أستورياس، لكن النظام لم يحاول طبخ وزير الخارجية، ولكنه فعل الأغرب فابتلع الشرطة بأكملها، وأطلق مجرمي السجون بدلا منهم. إنه الواقع المتشبث بالكرسي يفعل أكثر من الخيال الذي بدا- قبل الثورة- سحريا وغرائبيا. وعن إبداعه يذكر قصة"الحصان" التي يكتب عنها بأبعادها الرمزية ويريد الكشف عنها، أو يربطها بالشباب الذي لا يعبأ بالقيود فيعلنون مبيتهم في الميدان دون سابق تجهيز للمؤن والعتاد؛ يريدون استخراج شهادة وفاة للسلطة من "مكتب سجل مدني ميدان التحرير" .تسميته الأثيرة للميدان منذ بداية الأحداث.