عنوان الكتاب ماهر ومراوغ بحيث لا يتوسل بألفاظ الثورة والميدان والتحرير ليثبت أن الهدف الأسمي هو التواجد في لب الحدث رصد حجازي مغاير حينما يقدم حقيقة ما حدث بادئا من نقطة انتهت لدي الغالبية حين ترك رصد ما حدث في ميدان التحرير ليفرش تهيئة نفسية لتقتل ثورات في أماكن أخري فاتن شوفي علي فتحت الثورة شهية الكثير من الكتَّاب لتوثيق الحدث الجلل، فلك أن تتخيل أن يفرز الكتُّاب نتاجاً غزيراً متعدد الرؤي والمنطق والتحليل السياسي الذي يعبر عن مدي معايشة الكاتب للحدث عن طريق المعاصرة الحية في ميدان التحرير أو في ميادين مصر كلها لك أن تتخيل أن هذا كله هو حصيلة ثمانية عشر يوماً فقط. فظهرت علي سطح الساحة كتب كثيرة تتحدث عن الثورة في ثوبها الأول قاصدة الرصد البحت دون اعوجاج أو لي عنق الحدث وهناك كتب قد رصدت الثورة في ثوب أدبي ممزوج بمذكرات شخصية بطلها راوي الحدث من خلال تواجده في ميدان التحرير . لكن تبقي رؤية مشعة نورانية خاصة جداً لا تتسني للكثيرين يقصدها ويرصدها مناضل من طراز فريد تراه عاني لوعة الاعتقال المرير واستنشق هواء السجون حتي أدمن مرارتها فمنحته صفة الوطنية المصرية بامتياز، ولك أن تشعر بهول ذلك عندما تعلم أنه سجن في معتقل" عتليت" الإسرائيلي الذي أينع لديه ثمار المقاومة ذلك هو الروائي المبدع الأستاذ فؤاد حجازي وكتابه الثري الذي صدر هذا الأسبوع بعنوان " الجنود يصفقون لحاملي الكتب". عن سلسلة أدب الجماهير. مهارة الرصد خارج السرب يأتي عنوان الكتاب "الجنود يصفقون لحاملي الكتب" لفؤاد حجازي ماهراً ومراوغاً بحيث لا يتوسل بألفاظ الثورة والميدان والتحرير ليثبت لكِ أن الهدف الأسمي هو التواجد في لب الحدث والجلوس مع ضمير الرصد دون الالتفاف أو المتاجرة بمسميات ثائرة، حتي أنه اختار عنوان الكتاب ذاته من لحظة رأي فيها جنود الأمن المركزي يصفقون للذين يحملون كتب دار الكتب في المنصورة ويهرولون بها خشية الاحتراق إلي مكتبة مصر العامة والتي كانت تسمي مكتبة مبارك وقتها ، لحماية الكتب ، وقد تواصل الناس حتي كونوا طابورا متصلا في مشهد رائع حقا . يأتي رصده مغايراً حينما يقدم لكِ حقيقة ما حدث بادئاً من نقطة قد انتهت لدي الغالبية حين يترك رصد كل ما حدث في ميدان التحرير البطل الأساسي للثورة ليفرش لك تهيئة نفسية لتقبل ثورات وليدة في أماكن أخري في مصر ليثبت بذلك فوران الثورة واستمرار أمواجها وإصرارها علي تنفيذ نفس المطالب السياسية التي أعلنها ثوار ميدان التحرير في مصر ، ويتضح هذا ببراعة حينما يتخذ من ميدان أم كثوم ومبني محافظة الدقهلية والقري الصغيرة والشوارع والأزقة في مدينة المنصورة وبعض المدن الأخري مسرحاً للثورة مصوراً حجم المظاهرات وقارئاً للمنشورات الشعارات التي وُزعت ولامساً أوتاراً نفسية خفية للكثيرين بحكم المناقشة والحوار ومتخذا هذه الأرضية أساساً لرصد كل ما يحدث لحظة بلحظة خلال الثمانية عشر يوما المباركة ذاكراً أبطالاً قد تواري ذكرهم بحكم التعتيم أو السقوط في جب النسيان كالشاب " عبد الرحمن منصور " خريج كلية الآداب والذي لعب دوراً أساسياً في جعل يوم 25 يناير هو يوم الثورة المصرية في المنصورة وتأتي فصول الكتاب معبرة عن ماهية اليوم وطعمه الخاص لدي ثوار المنصورة " كيوم الجمعة المسيلة للدموع "وارحل يعني امشي" وغيرها وتراه يؤكد ويرصد دائماً مدي التكاتف الرائع بين المواطنين ذاكراً صورة قد حرص علي تأكيدها بتكرارها لأم وسط المظاهرات تضع طفلها علي كتفيها وترفع لافتة وأخري لفتيات منقبات وأخريات يرتدين الجينز مقدماً المشهد الواقعي الصادق للتواجد الرهيب لكل الأحزاب في مواجهة ضباط أمن الدولة الذين اكتفوا بدور المتفرج مصوراً هول المشهد كما جاء علي لسانه حينما رأي بنفسه هذه الأعداد من علي سلم "جامع النصر " فوجدها تزيد علي مائتي ألف متظاهر . الأنا القصصية شاهد علي الحدث لا ينسي فؤاد حجازي حرفة القص حتي عند الرصد بحكم الفطرة لكنها صفة تتواري خجلاً، وتشع لتأتي لك بالحقيقة عارية لكشف خيوط المؤامرة علي الشعب أحياناً وأحياناً أخري طرح وجهات النظر الأخري لما يحدث لخلق نوع من الجدال يفسر ما يحدث ويتجلي هذا في ذكره مجموعة من أصدقائه لمد جسر التواصل الثوري كالقاص رجب سعيد السيد الذي كان ينقل له الحدث كاملاً في الإسكندرية وكتفسيره لمدي التأثير الوقح للقنابل المسيلة للدموع ثم تستمر براعة حجازي في رصد وتصوير أثار الثورة المجيدة علي المقاهي وفي الشوارع أثناء المظاهرات مصوراً نعشاً رمزياً لحسني مبارك علي أكتاف المتظاهرين ناثراً آراء العامة التي تعبر اتجاهاتهم السياسية بين طيات الكتاب ويتضح جلياً مدي المعايشة الجدية بين سير خط "حجازي" اليومي وما يحدث حينما يذكر صعوبة الحركة والمشي والوصول لمنزله بسبب انتشار البلطجية. هؤلاء أنصفهم حجازي لكل ثورة شهداؤها، لكن الصعوبة تكمن في حصرهم فهم كُثر وبعضهم قد تاهت ذكراه دون إنصاف ، لذلك من روائع وإنسانيات كتاب حجازي هو جهده الجميل في التقصي عن أسماء من وقعوا شهداء حين يذكر الشهيد باسمه وقريته وعمره وكيفية استشهاد وعمق إصابته بل التقرير الطبي الذي يأتي دائماً متناقضا تماما عن الحقيقة والتي اعتبرها من الوثائق المهمة المنصفة للشهداء والتي سيذكرها له التاريخ كذكري للشهيد "محمد جمال سليم" الذي حاصرته الشرطة فأخفاه أصدقاؤه في محل حلاق حتي مات بطلقة علي بعد ثلاثة أضعاف ماسورة بندقية وقال الطبيب حتي ولو وصل حياً لمات لأن نوع الرصاص هذا يخترق الجسم في منطقة معينة يفني صاحبه قبل أن يذوب ، وشهيد المنزلة طالب الإعدادي" هشام محمد البلاسي" والكثيرين موضحاً نوع السلاح ومسافته ومدي اختراقه للجسد بصدق الباحث عن الحقيقة، ثم يوضح رؤيته التنويرية من خلال أحداث عاشها بنفسه أهمها رصده لحوار بين مسلم وقبطي حول كل ما يدور ليندمجا معاً في بؤرة التظاهرة لينفي وقيعة الخلاف المصطنعة بين المسلم والقبطي من خلال حوارات حقيقية دارت في خضم الثورة. التأثير النفسي لشعارات الثوار حرص حجازي علي تدوين ورصد كل الشعارات التي رفعها الثوار والتوقف عندها بالتحليل والمناقشة كمعادل موضوعي مهم لنفسية المصري الثائر كحمل طفلة للافتة مكتوب عليها " يا مبارك يا طيار جبت منين سبعين مليار" ولإثبات استمرار طوفان الاتفاق في المطالب بين ثوار مصر كلها مفسراً تأثير اللافتة علي من يحملها ومدوناً للجدل الناتج عنها كترديد الإخوان مثلاً " الشعب يريد تحكيم الكتاب ، إسلامية إسلامية ليرد آخر منهم"نريدها موحدة بإسقاط النظام وتحقيق الديمقراطية والحرية . تعانق هذه الظاهرة ظاهرة انتشار رسائل الموبايل التي أوردها حجازي لتثبيط عزم الثوار أو للتهدئة التي سعت إليها شركات المحمول ولكنها لم تفلح في وقف مسيرة المظاهرات، صاباً نقمه وثورته علي دور الإعلام الباهت في تغييب القضية كلها . ماراً في رصده بأدباء عصره الذين ملت أشعارهم وأدبهم من رصد الفساد وفي محاولة لكسر حاجز القول الخشن في كتابه حين يلجأ حجازي إلي الجلوس مع أدباء عصره الذين ملت أشعارهم ويأس أدبهم من كم تناول فساد المجتمع فتراه يرصده مرة بالتصوير الدقيق للحدث عبر الشعر كشاهد أيضاً وأخري بسخرية الشعب المصري في خلق نكت تصور وتوثق الثورة بطريقة " شر البلية ما يضحك" ناثراً روح الدعابة علي الأحداث ناقلاً لما يحدث بصدق شديد . من ينتج غذاؤه تتحرر إرادته السياسية لم يقف سرد فؤاد حجازي للأحداث عند انتهاء الثورة بل حرص علي متابعة ردود الأفعال في اليوم التالي للثورة متوقعاًً ثورة أخري ستستمر طويلاً رافضاً مفهوم الثورة بمعني" نقل السلطة في المجتمع من النقيض إلي النقيض" حتي أنه يؤصل لثورات عدة كالثورة الفرنسية والروسية وثورة 1919م ليقارن بينها جميعاً وبين ثورة يناير في سرد مشوق جميل يبين وجهة نظره بعرض تاريخي لظروف كل ثورة وتحليل ذكي لمناضل له خبرة فائقة في قراءة الواقع مفصلاً في روعة ومتابعة وحرفية عالية مدي استناد الشعب المصري علي اقتصاده من كم التصدير والاستيراد والصناعات والمزروعات والسياحة في شبه تحليلِ اقتصادي جيد موثق ببيانات وقوائم ونسب قد أعلنها وزراء مصر إبان الثورة مع صور لبعض المقالات الرائعة التي تثبت بالدليل العلمي والبرهان القاطع أن ثورة 25 يناير لم تفزع الاقتصاد المصري ومن ثم المواطن المصري كما كانوا يصورن بل زادت زيادة تثبتها النسب المئوية ساعياً من وراء ذلك كله إلي ترسيخ مبدأ مهم وأصيل هو" من ينتج غذاؤه، تتحرر إرادته السياسية " .