تمثل رواية توابيت عائمة للروائية السودانية سوزان كاشف الصادرة عن دار روافد بالقاهرة 2017 رحلة هروب للمرأة الأفريقية من أنظمة تتعارض معها بشكل كامل وتبدو كما لو كانت ترفض وجود المرأة وتجتثها من المجتمع، تبدو كما لو كانت تلفظ نموذج المرأة بشكل عام وهو ما يعني أنها تلفظ بشكل أو بآخر حياتها هي نفسها وتقف ضد امتدادها، فهي كما لو كانت مجتمعات تجافي طبيعتها الإنسانية وتسعي نحو الفناء والانتحار. تقدم الرواية رحلة هروب فتاة إريترية شابة من النظام العسكري في إريتريا الذي يجنّد الفتيات للحرب في فترة الثورة الإريترية التي بدت حربا ممتدة يتم استغلال الثورة فيها لخلق حال ممتدة من الحرب التي يتسلط بها العسكريون علي المدنيين ويسلبونهم الاستقرار والحياة ويسحبون منهم أبناءهم وبناتهم في تجنيد إجباري لهن يعانين فيه كافة أشكال القسوة والاستغلال. يساعد روبلي الفتاة ذات السبع عشرة عاما أسرتها المتمثلة في أبيها وأمها وعمتها في الهرب إلي السودان عبر جارة لهم في مدينة أسمرا الإريترية هذه الجارة تحمل الباسبور السوداني، فتعبر الحدود معها محملة بأطنان الحنين لأهلها وقطتها وبيتها وحيها الذي نشأت فيه، وتحت عدد من المخاطر المشابهة لما عانت في إريتريا تعبر إلي السودان وكأن هذه التضييقات والمعاناة التي تعيشها المرأة الأفريقية معاناة ممتدة بأرض القارة كلها بصرف النظر عن الحدود السياسية بين الدول، فالتضييق علي المرأة وسحقها تحت رغبات الرجل سمة مشتركة في كافة الرجال في الدولتين، وتبدو في مواضع كثيرة هذه الرحلة محفوفة بالمخاطر والمغامرة، ما يجعلها علي قدر عال من التشويق داخل خطاب الرواية، فهذه الرحلة تتعرض لمخاطر كثيرة تجعلها معرضة للاعتقال أو للإعادة إلي التجنيد الإجباري في دولتها التي تحبها لكنها لا تقدر علي أن تغفر لها سلبها لأختها منها بعدما كانت لهذه الأخت (زهرة) قصة مأساوية أكثر بشاعة من الهروب. فتبدو الرواية في حالات كثيرة قريبة إلي درجة كبيرة من روايات الرعب، فروبلي فتاة هاربة من الموت الأكيد إلي الحياة، هاربة من الفناء والنهاية التي لا شك فيها وهي لا تمثل نهايتها هي وحدها، بل نهاية أسرة بكاملها من أب وأم وعمة وهبتها كل ما جهزت لنفسها ثم بقيت دون زواج لأن الرجال يموتون دائما في الحرب التي لا تتوقف. فمشهد توديع (روبلي) وتهريبها يمثل نوعا من الهروب الجماعي المختزل فيها، فكل واحد من أفراد هذه الأسرة بدا كما لو كان يفرّ بنفسه في صورة هذه الفتاة. الرواية من حيث البنية الشكلية وبعيدا عن المضمون تأتي في سرد مشهدي أقرب للكلاسيكية ولكنه علي درجة عالية من الحميمية النابعة من اللغة الممثلة لشعور السارد الرئيسي وهي شخصية روبلي، وإن كانت قد عمدت في أحد الفصول لتغيير الصوت ورواية الجزء الخاص بقصة أختها في المعسكر بتقنية رواية الأصوات حيث تكون زهرة هي الناقلة لتجربتها في المعسكر الذي تم استغلالها الجنسي فيه وحدث حمل اضطرت علي إثره للانتحار وإشعال النيران في جسدها، وإن كان هناك كذلك حضور لتقنية المراسلات بين الشخصيات وبخاصة الأختين، ولكن بشكل عام فإن الرواية لا تعتمد كثيرا علي المغايرات في البنية الشكلية أو تبالغ في التجريب أو الانشغال بتقنيات البنية في صالح المضمون الذي يتم طرحه بقدر كبير من العفوية أو السرد النسوي الذي يميل إلي مخاطبة الجمع كما لو كان سردا شفويا لشهرزاد التي تصر علي نقل مآسيها وأهوال معيشتها للبشرية أو لمستمعين أو قراء مجتمعين أو في أعداد كبيرة، ولهذا هيمنت تماما صيغة اسم الإشارة المضاف إلي الجمع المخاطب مثل (تلكم) (ذاكم) ليكون الخطاب السردي كما ذكرت موجها إلي قراء افتراضيين هم مجموع أو حشود كثيرة أو بمعني أدق هم البشرية كلها إن استطاعت أن تصلهم هذه الرسالة التي تحاول تأكيد مأساتها أو جعلها البشرية كلها شاهدة عليها. وهو كذلك ما يمثل نوعا من اللجوء لهذا الجمع والاحتماء بها بعد افتقاد الأهل والوطن. الحقيقة إن القصة التي يقدمها خطاب الرواية قصة خاصة وتجربة مختلفة ومغامرة قلما نجد لها مثيلا والسبب في هذا أنها مغامرة لفتاة، لامرأة تواجه هذا الظلام وهذا الظلم النادر بمفردها، ولهذا ربما يضطر الناقد حين يحاول مقاربة هذه الرواية لأن يكون ناقلا من الرواية ويعيد سرد مشاهدها وأحداثها، بفعل سطوة الحكاية وقوتها أو خصوصيتها. من الناحية التأويلية والعلامات الدالة علي خصوصية خطاب الرواية فإن هناك عددا من المكونات التي تجعلها صوتا سرديا خاصا، أهمها كما ذكرت من قليل أنها تجربة ومغامرة نسائية، فإذا كان هناك عدد من الروايات التي جسدت هروب الرجل من مجاهل أفريقيا من أصوات روائية كثيرة لعل أكثرها حضورا في ذهني تجارب كل من طارق الطيب الروائي السوداني المصري المهاجر إلي سويسرا ومواطنه عبد العزيز بركة ساكن وكذلك الروائي الإريتري الشاب حجي جابر المهاجر هو الآخر إلي السعودية وجميعهم يكتب باللغة العربية فإن هذه الأصوات تبدو مركزة علي نموذج الرجل الفارّ من التهدم والأنظمة المهترئة والدولة المفككة التي لا تكفل أدني الحقوق لمواطنها، وربما لا يكون غريبا أن يعاني الرجل أو يواجه قسوة العالم وظلماته ويجدف نحو الشمال والهجرة إلي أوربا، ولهذا أؤكد علي خصوصية تجربة سوزان كاشف التي قاربت التنوع الإنساني في هذه المعاناة وكشفت عن نصيب المرأة فيها، وهو ما يبدو أشد قسوة وبخاصة إذا كانت هذه التجربة في مقتبل العمر حين تضطر فتاة شابة صغيرة للانفصال عن تعليمها ولا تكمله، كما تنفصل عن أسرتها وتهرب علي مراحل مختلفة بأن تنتقل أولا من إريتريا إلي السودان لتكون السودان بالنسبة لها محطة معاناة جديدة ولتؤكد علي وضع عام من المأساة بالنسبة للمرأة الأفريقية بشكل عام حين تعاني من تسلط الرجل العاطل المتحرش الذي لا يري في المرأة غير وسيلة للمتعة والتسلية والفرجة. تتنوع مصادر معاناة المرأة في الرواية بين معاناة تصنعها النظام المتسلط الذي يجند المرأة برغم عدم قدرتها علي الحرب وتحمل قسوة التدريبات العسكرية وبين معاناة من الرجل بشكل عام حين يتحرش بها أو ينصب لها الفخاخ ليستولي علي أموالها لأنه هو الآخر عاطل ولا يوجد الإطار القانوني الذي يمنع شروره. فهناك مشاكل عدة تتعرض لها روبلي الفتاة الهاربة سواء في إريتريا قبل الهرب منها أو في السودان التي تضاعفت فيها المأساة ببقاء سمات المجتمع الأفريقي المهلهل والمتسلط مع نموذج الرجل المتحرش، وبقاء الفقر والتردي الحضاري وقلة العمل والمال، مع غيابها عن أهلها وافتقادهم لمساعداتها في الوقت الذي كانت في أشد الاحتياج لهم فيه. في السودان تحديدا كانت قمة معاناة هذه الفتاة الهاربة التي كانت في قلب الجحيم بكافة أنواعه، برواج سوق المهربين ووجود عدد كبير من المستغلين للفتيات والنصب عليهن بأخذ أموالهن دون مساعدتهن علي السفر إلي أوربا عبر الحدود الليبية أو المصرية. تقدم الرواية نوعا من البحث المعرفي القريب أو الموثق أو الذي يبدو علي قدر من التكامل عن عالم تهريب البشر إلي أوربا، وكيف تهيمن علي الشباب هناك بشكل عام من جنسيات أفريقية مختلفة من الأثوبيين والإريتريين والسودانيين الطامحين إلي حياة أخري بعيدا عن البطالة والشمس القاسية، برغم ما يربطهم من حنين دائم إلي مواطن النشأة ومساكن الأهل والأقارب والجيران. هذا المكون المعرفي هو رافد جمالي مهم من روافد الرواية يجعلها تقدم قيمة إضافية محتملة لعدد من القراء، إذ إن تجربة هرب المرأة ومجابهة مثل هذه الأنواع من الطموح إلي حياة أخري من قبل الفتاة الناشئة هو نوع جديد، وبخاصة وهي في حال من التنامي المعرفي والمتفتح علي قسوة ممتدة، فهذه الفتاة روبلي تبدو كل دروسها مدفوعة الثمن ولا يوجد ما يمكن تسميته بالدرس المجاني علي الإطلاق. كون المعاناة نسائية يجعلها منفتحة علي تعاطف مبدئي من القارئ الذي يجد هذه الشخصية كما لو كانت تواجه العالم كله مجردة من كافة أسلحتها، وتبدو معرضة طوال خطاب الرواية للانسحاق التام والفشل، وتتراوح حركتها بشكل دائم بين الصمود والانكسار، ففي أوقات تبدو صامدة مع قريناتها وزميلاتها في المعاناة من الفتيات الإثيوبيات أو تكون معرضة للاستسلام والانهزام، وهذه الثنائية المتقابلة التي يتأرجح بينها مصيرها تجعل الرواية علي قدر كبير من التشويق ودافعة نحو استكمال القراءة وتجعل خطاب الرواية أقرب للحقيقة أو للطبيعة الإنسانية التي هي نفسها تتراوح بين القوة والضعف وتكون مزيجا منهما، ولا تسير الرواية في خط واحد من أحدهما. بين الشخصيات النسائية في هذه الرواية حال من التعاضد والتكاتف والمواجهة المشتركة لمفاسد هذا العالم الظلامي الذي يعشنه، وهذا الانسجام بين نساء الرواية لا تحده الحدود الدولية أو يعوقه اختلاف الجنسيات، فالمرأة السودانية تتضامن مع الإريترية ومعهم الإثيوبية والصومالية وغيرهن من الجنسيات الإفريقية، في مزيج نسائي يشعر ببعضه ويتعاون علي جنايات الرجال تجاههن، فيما يبدو لبعض الوقت أنه صراع المرأة ضد الرجل واستغلاله لها، أو كما لو كان صراعا بين الجنسين، باستثناء الأب الذي يظهر علي قدر كبير من الاندماج والذوبان لهويته ووجوده مع ابنته التي يري فيها نفسه ويري في نجاتها نجاته هو، ومثل الأب قليل من الشخصيات من الرجال مثل العم صديق وعصام الشاب المريض النفسي الذي ينسحق تحت الضغوط ويذبح أسرته ثم ينتحر، لتبقي برغم ذلك الشخصيات الإيجابية من الرجال محدودة الحضور، ويطغي تماما النموذج السلبي الذي يمارس دورا سلطويا علي المرأة ولا يتوقف عن محاولة استغلالها لصالحه. وتستمر التفاتات الشخصيات المهاجرة وراءها نحو وطنها وأسرتها في سلوك ممتد لا يفارقها طوال رحلة هروبها سواء في نوع من تيار الوعي واسترجاعات لا إرادية للذاكرة أو عبر حكاية كل فتاة قصتها لزميلاتها في الهروب نحو أوربا. فيما يشبه نوعا من تلفت القلب والذاكرة بشكل ممتد إلي الوراء، وهو ما يخلق نسقا بنائيا مميزا ينتج المفارقة في إتجاهات الحركة، فهي تتطلع لأوربا ونظرها عليها في الوقت الذي يتلفت القلب إلي الوراء ويتحرك في اتجاه معاكس نحو الجنوب وعمق أفريقيا حيث الأهل والمنشأ ومنبع الذكريات الحلوة الممزوجة بالألم. في رحلة الهروب إلي أوربا من السودان تعمد الساردة إلي نحو مميز من تذويب عدد من الأصوات المتنوعة فيما يشبه الشهادات العديدة والمتعاضدة علي القسوة التي واجهنها في بلادهن قبل الفرار، فيما يجعل خطاب الرواية نهرا تصب فيه هذه الأصوات المختلفة ويتجاوز الرؤية الأحادية التي بدأت بها الرواية. فتلتقي روبلي بعدد من الشخصيات الأخري من وطنها إريتريا ومن دول أفريقية أخري تقص كل واحدة منهن قصتها، فيما ينقل السرد إلي نوع من التشعب والإفادة من هذه القصص الفرعية ليُمنح قدرا من الثراء الإنساني والجمالي وتكرار المأساة وتجاوز فكرة الشهادة الوحيدة التي ربما تكون نتيجة عوامل شخصية، لتكون القسوة ذات أثر جماعي علي حشود هاربة يتدفأ بعضها ببعض في أوقات الهروب ويجد بعضهم في بعض عوضا عن الأهل المتروكين وراءهم في مصير مجهول ومظلم. ويمثل هذا الانصهار لعدد من الأصوات النسائية الأخري الهاربة نوعا من الانسحاب المكاني والعاطفي لصاحبة الصوت الرئيس في الرواية في نوع من التعاطف، وهو ما يوازي كذلك انسحاب كل شخصية لتفسح للأخري مكانيا لتجد كل واحد منهن لها موضعا في الأماكن التي يحبسهن فيها المهرّبون أو المراكب الصغيرة التي يشحنونهن فيها كالدوابّ. ليكون هناك مزيج من الانصهار الشكلي والمضموني بين هذه الشخصيات ولتكون كل واحدة منهن مجرد مثل للأخري، أو لتكون نموذجا عاما قابلا للانطباق علي الأخري دون اختلاف في المصير مهما بدا من اختلاف في التفاصيل الفرعية الهيّنة. وثمة تفاوت في دوافع الهرب علي أنها تبقي اختلافات يسيرة وتنويعات علي ظلم واحد، فبعض المهاجرات كان الدافع لهن التهميش الذي تلاقيه مناطقهن وغياب الخدمات عنها، وهذا ما نراه مع إحدي الشخصية السودانية التي تقارن منطقتها الجبلية بالعاصمة وترصد أشكال القسوة وصعوبة الحياة في منطقتها برغم أنها من المناطق التي تتمتع بثروات طبيعية كثيرة غير مستغلة، فيما تمثل هذه القصص الفرعية شكلا من التنوع المرجعي لخطاب الرواية التي تتجه في اتجاهات إنسانية ومكانية وثقافية مختلفة تبحث فيها كلها، وتنقل بعض المعارف والمعلومات التي تسهم في إنتاج القيم الجمالية للنص الروائي الذي يمزج المعرفة بالحكايات الإنسانية والظلم الإنساني المتنوع هو الآخر بأغراض ومطامع مختلفة. بعضهن هربن من حروب أهلية بين القبائل وأخريات هربن من مناطق هيمن عليها الجفاف وانتهبتها المجاعات، لتتشكل لدينا في النهاية ما يمكن تسميته بخريطة ممتدة للمعاناة الإنسانية التي كانت المرأة في خطاب هذه الرواية أكثر البشر الراغبين في الحياة والمحاولة في إصرار للفرار نحوها. من عناصر خطاب هذه الرواية التي صادفت قدرا كبيرا من التوفيق العنوان (توابيت عائمة) ليكون التابوت دليلا علي قدر المغامرة والخطورة التي عاشتها هذه الشخصيات في رحلة فرارها من أوطانها وعبورها للبحر نحو أوربا، ولا ينفي الوصول إلي البر الآخر معني الموت لأن هذه الشخصيات بدت مفرغة من محتواها الإنساني ومن قيمتها ومن تاريخها وذاكرتها، بعدما انفصلت عن أوطانها وتركت وراءها أهلها لتبدأ كفاحا جيدا في الغربة. فمعني الموت حاضر في كافة الأحوال ومعني العوم يبقي قابلا للانبطاح علي الحركة الدائمة في الوجود، في نوع من السباحة والمغامرة التي لا تنتهي إلا بنهاية الإنسان نفسه.ومن ناحية البنية الشكلية نجد أن الرواية تعمد إلي نوع من السرد الخبري الذي يشكل عبر الحكاية مشهدا مكتملا أقرب إلي شكل سينمائي واضح بدرجة كبيرة لمخيلة القارئ، وهي كذلك مشاهد مشحونة بانحياز عاطفي يجعل المشاهد بعيدة عن الصمت وأقرب إلي قدر كبير من الحميمية والدفء الذي يجبر القارئ هو الآخر علي الانحياز لعالم الرواية وشخصياتها.